عاش آية الله الخميني (ت1989) بالعراق ثلاثة عشر عاماً، قضى وطراً منها في علاقة مميزة بسلطة البعث، لكن لم يُعرف عنه أنه اقترب مِن الإسلاميين العراقيين، ما عدا توسطه للعفو عن آية الله حسن الشَّيرازي (اغتيل 1980)، وبالفعل تم ذلك، وخرج الشِّيرازي إلى لبنان واغتيل هناك بعد سنوات، على إثر التفجيرات التي تبنتها منظمة “العمل الإسلامية”، والمعروفة بالشيرازية، داخل العِراق. أما توسط الخميني لإنقاذ الشِّيرازي لأن كان مؤيداً لفكرة ولاية الفقيه، التي قدم الخميني محاضرات بها علانية بالنَّجف، ثم جُمعت وصدرت تحت عنوان “الحكومة الإسلامية”.
إن الغرض مِن هذه المقدمة إيضاح أنه لم تكن هناك وشائج بين الإسلاميين العراقيين والإيرانيين؛ فلم يُذكر أي خبر أو معلومة عن تأييد إسلامي عراقي للخميني أو لإرهاصات الثورة الإيرانية، أو حتى تعاطف، فكل ذلك حصل بعد الثَّورة الإيرانية. أما عن قيام محمد باقر الصدر (أعدم 1980) مثلما كتبه البعض، كزيارة تضامنية أو تقديم أي دعم للخميني، في أيامه الأخيرة بالنَّجف، فذلك وردت أخباره بعد أن صار الخميني قائداً لإيران، وإن حصل فلا يتعدى الموقف الشَّخصي، ومخالفة بقية مراجع الدين، الذين لم يكونوا على وفاق مع الخميني.
لذا كل العلاقات التي نشأت بين إيران الإسلامية والإسلاميين العراقيين جاءت بعد الثورة؛ وكان الخميني ينظر إلى انفجار ثورة إسلامية ببغداد، من دون دراسة الواقع، جاء هذا التصور تحت طغيان الغرور بنجاح الثورة. بدأت العلاقة بمنظمة العمل الإسلامية وحزب الدَّعوة، وصارت الهجرة إلى إيران، فتشكلت معسكرات للإسلاميين للقتال ضد العراق. بعدها تشكل المجلس الإسلامي الأعلى للثورة الإسلامية، وأول رئيس له هو محمود الهاشمي، رئيس السلطة القضائية الإيرانية في ما بعد، ومناصب كبرى أُخر، فحينها عُزل حزب الدَّعوة وصار المجلس هو الواجهة الإيرانية للإسلاميين العراقيين.
غير أن كلّ هذه العلاقات قد تغيرت بعد صعود الإسلاميين إلى سدة السُّلطة، إثر الغزو الأمريكي للعراق (2003)، فوجد المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي وغيرهما، مِن الإسلاميين، أنفسهم أمام مارد إسلامي جديد، لم يكن ظهوره على البال، بل كان مفاجئاً لإيران قبل غيرها. إنه “التَّيار الصَّدري. اكتسح الشَّارع الإسلامي بهتاف التحرير من الأمريكان، مع هيمنة جناحه العسكري “جيش المهدي” على المدن العراقية، وعلى وجه الخصوص بغداد ومدن الجنوب والوسط، حيث الكثافة الشِّيعية.
ولد هذا التَّيار قبل سقوط بغداد بسنوات، ولكن بلا تسمية وتنظيم، أي الشَّباب الذين التفوا حول محمد محمد صادق الصَّدر (قُتل 1999)، خلال صلاة الجمعة بمسجد الكوفة، بالاستفادة مِن “الحملة الإيمانية”، التي أعلنها النظام السَّابق (1993/1994)، ومِن طلب النِّظام العراقي لمرجعية شيعية عربية، فوقع الخيار على الصَّدر، لكنه على ما يبدو تجاوز الحد، فانتهى نهاية مؤلمة، وقيل إن الحكومة العراقية ليست هي الفاعل، هذا ما يُتداول وغير مؤكد.
نشأ التَّيار الصدري ثورياً، باسم التحرير، وله ميزة على بقية الجماعات الإسلامية، التي نشأت في أحضان إيران، وأخرى حصلت على الدَّعم الإيراني المتواصل. يتميز التَّيار عن غيره مِن الإسلاميين العراقيين، أنه ليس لإيران فضل عليه، لا التَّأسيس ولا الدَّعم، بل على العكس كان إمام التيار، الصَّدر الأب، غير مرغوب به مِن قِبل إيران، وكانت الجهات التي التزمتها إيران تُشير إليه بـ”العميل” للنظام العراقي.
لكن سرعان ما نصبت إيران له الشباك، وأوقعته في الحرب مع الجيش الأمريكي، وكان أحد رجالاتها (أبو مهدي المهندس) يُدير القتال مع جيش المهدي بالنجف (2004)، والغرض الإيراني هو دفع الأمريكان إلى الخروج من العراق، كي تكون السَّاحة لها وبالفعل خلا المكان لها، وتلك قصة أخرى، وتمثل الكثيرون بالمثل الذي سارت به الرُّكبان قديماً وحديثاً: “يا لك من قنبَرَةٍ بمَعْمَ/ خَلاَ لَكِ الجوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي” (الميداني، مجمع الأمثال).
لما اشتد الأمر على التَّيار الصَّدري استقبلت إيران زعيمه مقتدى الصَّدر، تحت غطاء الدراسة الدِّينية، ومعلوم مَن لديه حوزة النَّجف لا يحتاج حوزة قمّ. مكث هناك أكثر من عام. غير أنه لم يكن محل ثقة لإيران، ووجود تياره متماسكاً يُسبب لها صداعاً، وعلى الخصوص أنه تيار شيعي، له القدرة على معارضتها أكثر من غيره، فهي تُقدم نفسها حامية للشيعة في كلِّ مكان.
لهذا عمدت إيران على تمزيق التيار، فأخرجت منه قيس الخزعلي بتشكيل “عصائب أهل الحق”، وميليشيات أُخر، أطلق عليها مقتدى الصَّدر تسمية الميليشيات “الوقحة”، وبطبيعة الحال، لم يكن يعجب إيران تردد الصَّدر على المملكة السعودية ودول الخليج، خصوم إيران بالمنطقة، وكذلك لم يعجبها فيه تحالفه مع القوى المدنية واليسارية العراقية، الذي أسفر عن تشكيل تكتل “سائرون”، والذي حاز على المرتبة الأولى في الانتخابات.
هنا جاء الدَّور الإيراني، في محاولة دمجه مع تكتل “الفتح”، التكتل الممثل لمصالح إيران، غير أن هذا التحالف جاء بعد سلسلة من الحوادث، منها: حرق صناديق الاقتراع، وتفجير العتاد المخزون في الحسينية التابعة للتيار الصدري بمدينة الثَّورة (الصَّدر)، وبروز داعش مرة أخرى في أكثر من مدينة عراقية، وكأن حدوث ذلك جاء ضغطاً على الصدر أو تهديداً، بشكل مباشر أو غير مباشر.
ما زالت التحالفات، بعد الانتخابات، غير مكتملة، حتى هذه اللحظة، فتحالف “الفتح” و”سائرون” ظهر فجأة واختفى أيضاً فجأة، وإن التقارب بين الصَّدر ونوري المالكي بعيد أيضاً، ولا نعلم هل يبقى الصَّدر متمسكاً بإخراج حزب الدَّعوة من رئاسة الوزراء، وإذا كان لا بد من إعادة تكليف حيدر العبادي فالشرط هو ترك حزبه حزب الدَّعوة.
إن وعود الصَّدر الانتخابية، إذا قُدر له الالتزام بها، فأولها التعامل مع إيران كدولة حالها حال بقية الدُّول لا وصية على العراق، وهذا لا يتحقق إلا بحل الميليشيات “الوقحة” على حد عبارة الصَّدر نفسه، لأنها مركز قوة التدخل الإيراني في الشَّأن العراقي.
على قاعدة الشيء بالشيء يُذكر، قيل إن الشَّيخ محمد السِّماري كان قاضياً شرعياً بالنَّجف، فبواسطة وجهاء للسيد صادق الصَّدر، جد مقتدى لأبيه، أن يحل محل الشَّيخ السِّماري قاضياً، وكان هناك قانون يُسمى قانون الذَّيل، وفحواه أن من حق الدَّولة إحالة الموظف الحكومي على التَّقاعد قبل السن القانونية، وهذا ما حصل مع الشَّيخ السِّماري، فقال الخطيب محمد علي اليعقوبي (ت1965): “يا ابن السِّماري الَّذي/ فَلك القضاء به يدورُ/ النَّاس تضربها الذّيول/ وأنت تضربك الصُّدورُ” (جعفر الخليلي، هكذا عرفتهم). السؤال: هل يستمر مقتدى عند أتباعه ومنتخبي “سائرون” صدراً، أو مثلما تريده إيران ذيلا؟!