جاءت مواد الدُّستور العراقي (2005)، صريحة في حق المواطن العراقي بالتَّظاهر والاحتجاج، والذي شارك الإسلاميون في كتابته بقوة، وكانت اللجنة برئاستهم. فالشَّيخ همام حمودي رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ترأسها، وباركته المرجعية الدِّينية، ممثلة بالمرجع السَّيد علي السِّيستاني، وعلى الرَّغم مِن كلِّ ثغرات هذا الدُّستور، الذي وضع المرجعيات الدِّينية، تحت اسم “قياداتنا الدِّينية” في ديباجته، وجعل تحريم إصدار قوانين تساند الدِّيمقراطية وحقوق المرأة بمادة “لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام” (أي الشَّريعة الإسلامية) مقابله مادة “لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الدِّيمقراطية” (وفق المادة الثَّانية)، و”لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدُّستور”، لكن الديمقراطية والحريات ضُربت عرض الحائط عندما صار الإسلاميون الحاكمون يشيرون إلى المحتجين ضد الأوضاع المزرية التي يعيشونها، بالمندسين والبعثيين والمخربين والعملاء.
حدث هذا في احتجاجات (2011)، وتدخلت القوات الأمنية وعشائر الإسناد، التي ألفها نوري المالكي، لإنهاء التَّظاهرات بالقوة، والاعتقال والاغتيال، وما زال دم المتظاهر هادي المهدي، الذي اغتيل آنذاك ينتظر التحقيق في سفكه. كذلك حصل مع اعتصامات واحتجاجات المنطقة الغربية (2014)، تركوا المطالب بلا استجابة حتى تحول أمرها إلى هتاف طائفي وحصل بعد تفريقها بالقتل أن استغلت داعش الظرف وحصل ما حصل، ثم احتجاجات (2015) و(2016) والتي ذُعر منها نوري المالكي وذهب تحت جنح الليل إلى طهران طلباً للحماية من التحقيق في فساد سنوات حكمه. أما الاحتجاجات الأخيرة (تموز/ يوليو 2018)، وقد حصلت في مناطق شيعية خالصة، فكان مصير المشاركين فيها القتل والاعتقال. فماذا بقي من الدستور الذي كتبه الإسلاميون بأيديهم؟!
فالمادة (38) تقول: “حرية الاجتماع والتَّظاهر السِّلمي وتنظم بقانون”، وجاءت المادة (37) فقرة (ج) بالآتي: “يُحرم جميع أنواع التعذيب النَّفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية، ولا عِبرة بأي اعتراف انتُزع بالإكراه أو التَّهديد أو التَّعذيب، وللمتضرر المطالبة بالتَّعويض عن الضَّرر المادي والمعنوي الذي أصابه وفقاً للقانون”. كذلك ورد في المادة نفسها القسم الثَّاني منها: “تكفل الدَّولة حماية الفرد مِن الإكراه الفكري والسِّياسي والدِّيني”.
خلاف كل هذه المواد، وخلاف الدِّيمقراطية التي لم يدعها النِّظام السابق، وادعاها الإسلاميون، وكتبوها في الدّستور، اغتيل شباب محتجون واعتقلوا وغُيب آخرون بالخطف مِن قِبل الميليشيات، التي تهيمن على الشَّأن الأمني داخل العراق، خلال السنوات الماضية.
غير أن الجديد في الاعتقالات، مِن قبل القوات الأمنية- وقسم العمليات أن المعتقلين يخضعون لامتحان في الشؤون الدِّينية، كأسماء الأئمة الاثني عشر، واسم أم المهدي المنتظر، ليس من باب الطُّرفة، وإنما غدت الثقافة العراقية تُقاس بهذه المعلومات. وإن أغلب المشاركين فيها مِن جيل التسعينيات، الجيل الذي لم يتشبع بأفكار البعث، ولم يع خطورة غزو العراق (2003)، لكن خلال خمسة عشر عاماً نشأ هذا الجيل على الثقافة الدينية الواطئة، ولم ير أمامه غير المواكب الحسينية والإسلاميين يغزون البرلمان والحكومة، مقابل الحرمان والجهل والبؤس التعليمي. غير أن ما فاجأ الإسلاميين أن هؤلاء الشَّباب تجاوزوا المطالب من كهرباء وخدمات إلى مراجعة نظام الحكم الإسلامي بالكامل والعلاقة مع إيران، وأول مرة خلال خمسة عشر عاماً يتجرأ شباب -وبالبصرة لا غيرها- على حرق صور آية الله الخميني، وترديد هتاف “إيران بره بره والبصرة صارت حرة”. كذلك جاء إلغاء مجالس المحافظات مطلباً مباشراً، وهذه المجالس غدت أوكاراً لفساد الأحزاب الدِّينية، وإن الهتاف ضدها يعني التعبير عن عدم الرغبة بالأحزاب الدِّينية، لأنها أساس قوة حكمهم، فكل حزب يهيمن على محافظة وخزينتها، منهم المحافظ ورئيس مجلس المحافظة مع أكثرية أعضاء المجالس منهم أيضاً.
يقول إيهاب نجم المالكي، الذي اعتقل وعُذب بتعليقه بالسقف بعد جمع يديه بجامعة إلى الخلف، ويتناوب على تعذيبه الملثمون، مِن قوى الأمن الديني: إنهم امتحنوه بأسماء الأئمة الاثني عشر، أن يعددهم بالترتيب، حسب وراثة أحدهم للآخر بالإمامة، ثم امتحنوه باسم أُم المهدي المنتظر. كان إيهاب يعتقد أنهم مارسوا ذلك هزلاً، وظل غارقاً بحيرته أمام هذا الامتحان العجيب الغريب، فما علاقة التَّظاهر أو الاحتجاج بأسماء الأئمة وأم المهدي؟! لكنه لا يدري أن حكم الأحزاب الدِّينية مبنيٌ على هذه المعلومات، فحسب ثقافتهم، مَن يحفظ أسماء الأئمة، عن ظهر قلب، كيف له التَّآمر على دولة تُقدمها الأحزاب والشَّخصيات الدِّينية على أنها دولة التَّمهيد لدولة الإمام المنتظر؟، فالقضية، حسب تصورهم لا بد أن يكون هذا الاحتجاج مؤامرةً واندساساً، وقبل ذلك الجرأة على حرق صور الخميني والهتاف ضد إيران.
غير أن المتظاهر الشَّاب، والذي نُشر فيديو حديثه عن اعتقاله توصل، في تلك اللحظة، إلى نتيجة مفادها -حسب ما نفهمه مِن تصريحاته-: إنه بعد ما حصل له اعتبر مطالبه بالكهرباء والماء والخدمات سخيفةً، لا تمثل شيئاً تجاه بلد مثل العراق، فكانت مطالب عفوية، لكنها أشعرته بأن القضية أكبر والخطب أفدح، فالعراق تحت سلطة الأحزاب الدِّينية والإشراف الإيراني المباشر سيكون أثراً بعد عين.
اكتشف إيهاب أنه أمام جماعة لا شأن لها بالدستور، الذي يتفاخرون به، ويعتبرون كل قضية لا تروق لهم أنها مخالفة لبنوده. أرى هذا ما يُعبر عن معروف الرُّصافي (ت1945)، وليس ضد حكومة كانت تعرف واجبها، ووزيرها لا يستطيع التَّصرف بخمسة دنانير مِن المال العام، وليس مثل التلاعب بالمليارات اليوم، عندما: “علمٌ ودستور ومجلس أمةٌ/ كلٌّ عن المعنى الصَّحيح محرَّفُ/ أسماء ليس لنا سوى ألفاظها/ أما معنايها فليست تُعرف/ مَن يأتِ مجلسنا يُصدِّقْ أنه/ لمراد غير النَّاخبين مُؤلَّفُ” (الديوان/ قصيدة حكومة الانتداب)، وهل في هذا ما لا ينطبق على حاضرنا؟!