في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، اتخذت خطوات عدة لتشكيل نظام دولي جديد، تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، بالشراكة مع حلفائها، يقوم على الديمقراطية الليبرالية، وعلى مجموعة من المؤسسات والقواعد الدولية، ومؤسسات متعددة الأطراف، في مجالات تعزيز السلام والتنمية الاقتصادية والتجارة الحرة والاستثمار والتعاون الدولي. من ناحية أخرى، كرست الولايات المتحدة الجهود لمواجهة الخطر السوفيتي، فقدمت خطة مارشال لإنعاش الاقتصاد الأوروبي عام 1948، وتم تأسيس حلف شمال الأطلسي عام 1949، ولحقها توقيع معاهدة أمنية مع اليابان عام 1960. وقد شكلت هذه الخطوات الأساس في تشكيل معالم النظام الدولي الليبرالي، الذي توسع لاحقا، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية المهندس الأساسي له.
تزاديت النقاشات حول استقرار وديمومة النظام الليبرالي العالمي أخيراً، وحول مكانة ودور الولايات المتحدة الأمريكية فيه. معظم النقاشات قد ألقت الضوء على بدء اختلال النظام، نتيجة لعوامل تتعلق بتغير الاستراتيجية الأمريكية، حيث يشكك ترمب بتكاليف الحفاظ على النظام، التي اعتبرها ترهق الولايات المتحدة وأن تكاليفه تفوق فوائده، فبات يشكك في النظام الذي أسسته الولايات المتحدة، وطبيعة دورها وتحالفاتها على حد سواء. وقد تزايد الجدل في ظل صعود قوى دولية وإقليمية جديدة، حيث ينظر إلى الصين وروسيا على أنهما قوتان تعديليتان في النظام، تحاولان تغيير ميزان القوة لصالحهما، وتغيير تأثيرهما في النظام الليبرالي الذي يعتبره البعض صمم لتحقيق مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. وينظر بشكل خاص للصين على أنها منافس محتمل للنظام الليبرالي، حيث إن مبادرات مثل “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية”، ومبادرة “الحزام والطريق” على أنها تحد للمؤسسات الدولية القائمة. وفي هذا الصدد يُناقش التقرير مقالة غراهام اليسون المنشورة في مجلة (الفورن أفيرز) الأمريكية الصادرة في عدد يوليو- أغسطس 2018.
ينفي الأستاذ في كلية كيندي التابعة لجامعة هارفرد جراهام اليسون في مقاله المنشور في “الفورن آفيرز” والمعنون بـ”خرافة النظام الليبرالي العالمي” أن يكون النظام الليبرالي العالمي قد حقق السلام العالمي الطويل الذي استمر لسبعة عقود. واعتبر اليسون أن السلام لم يكن ناتجاً عن طبيعة النظام الليبرالي، بل كان نتيجة لتوازن الرعب النووي، الذي قام ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، خلال صراعهما على الهيمنة العالمية في أتون الحرب الباردة.
كما يجادل اليسون بأن دور الولايات المتحدة في تأسيس النظام العالمي، لم يكن خدمة للعالم، بينما جاء لتحقيق مصالحها القومية. حيث سعت الولايات المتحدة لتكوين العالم وفق مصالحها ورؤيتها له، وفي سبيل تحقيق أهدافها، خاضت العديد من الحروب، وفي كثير من الأحيان لم تلتزم بالقوانين والقواعد الدولية، حيث عاشت لحظة الأحادية القطبية، إلى أن استفاقت في الوقت الحاضر على قوتين ترغبان في تعديل الوضع القائم، وتغيير ميزان القوة لصالحهما. ويأتي صعود هذه القوى في ظل انمكاش قوة الولايات المتحدة الأمريكية العالمية، حيث شكل الناتج الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية نصف الناتج الإجمالي العالمي في الفترة التي لحقت الحرب العالمية الثانية، قبل أن ينخفض إلى أقل من ثلث الناتج الإجمالي العالمي مع نهاية الحرب الباردة، بينما يُشكل الآن ما نسبته واحد إلى سبعة. معتقداً أن هذه المؤشرات وغيرها، تقودنا إلى النظر في شروط قيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم.
كما اعتبر اليسون أن مجيء ترمب إلى سدة الحكم كان نتيجة الحروب الفاشلة التي خاضتها الحكومات الأمريكية السابقة في أفغانستان والعراق وليبيا، إلى جانب الأزمة المالية والكساد الاقتصادي، والتحدي الذي يواجهه الأمريكيون المؤمنون بالديمقراطية في الوقت الحالي يكمن في إعادة بناء الديمقراطية داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
وفي ضوء هذه التحديات والمتغيرات المحلية والعالمية، ينفي الكاتب إمكانية حمل دول ومجتمعات على الإيمان بالأفكار والقيم الأمريكية، ولا بتبني النظم الديمقراطية، مشيراً إلى خطاب الرئيس الأمريكي جون كيندي عندما صرح في خطاب له عام 1963، الذي حث فيه على تأسيس نظام عالمي يضمن التنوع، يشمل الدول الليبرالية وغير الليبرالية؛ نظراً لوجود دول أخرى لديها وجهات نظر مختلفة حول الحكم والقواعد، وبالتالي سيكون من المجدي العمل على بناء نظام يمكنه أن يحتوي هذا التنوع.
يتشابه طرح اليسون مع فكرة رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة ريتشارد هاس، الذي اعتبر في مقاله المنشور أخيرا في (بروجيكت سنديكيت) والمعنون بـ”النظام الليبرالي العالمي ارقد بسلام”، بما قاله الفيلسوف والكاتب الفرنسي فولتير: “بعد مسيرة اقتربت من ألف عام، لم تعد الإمبراطورية الرومانية المقدسة المضمحلة مقدسة ولا رومانية ولا إمبراطورية”. “واليوم بعد مرور نحو قرنين ونصف القرن تقريبا؛ نستطيع أن نقتبس من فولتير فنقول: إن النظام العالمي الليبرالي المضمحل لم يعد ليبراليا ولا عالميا ولا نظاما.” يجادل هاس بأن عناصر النظام العالمي الليبرالي التي تتمثل بـ (الليبرالية، والعالمية، وحفاظ النظام على ذاته)، تواجه اليوم تحديات لم يسبق لها مثيل في تاريخه الممتد طوال سبعة عقود. معتبرا أن الليبرالية الآن في تقهقر، مشيرا في هذا السياق إلى النزعة الشعبوية المتنامية في العالم، ومشككا في عالمية النظام، حيث يرى أنه من الصعب اعتبار العالم كأنه كل متكامل، نتيجة ظهور أنظمة إقليمية، التي تظهر بشكل واضح في الشرق الأوسط. ومن ناحية أخرى، نشهد في الوقت الحاضر عودة تنافس القوى العظمى، ووقوع انتهاكات لأبسط معايير العلاقات الدولية واحترام سيادة الدول الأخرى، مشيراً في هذا السياق إلى الممارسات الروسية.
وبشكل أساسي اعتبر هاس أن النظام العالمي الليبرالي قد بدأ بالاختلال؛ نتيجة التغير في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية تحت حكم الرئيس دونالد ترامب؛ مشيراً إلى قرار الولايات المتحدة الأمريكية في عدم الانضمام إلى الشراكة عبر الأطلسي، والانسحاب من اتفاقية باريس بشأن المناخ، وتهديدها بالانسحاب من اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة، بالإضافة إلى فرضها التعرفة الجمركية على بعض المواد؛ الأمر الذي دفع هاس للاعتقاد أن العالم على حافة حرب تجارية. الأمر الذي يترافق مع قيام الولايات المتحدة بإثارة تساؤلات عدة حول طبيعة العلاقة التي تربطها والحلفاء التقليديين كالأوروبيين وقضايا أخرى مرتبطة بحلف شمال الأطلسي.
نظرة هاس إلى تلك السياسات تعبر عن قرار أمريكا بالتخلي عن الدور الذي لعبته على مدى سبعة عقود، الأمر الذي اعتبره يمثل نقطة تحول كبرى. ومن ناحية أخرى، يرى أن النظام يفتقد قدرة الحفاظ على نفسه، والنجاة بمفرده، لأن الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى، إما ليس لديها المصلحة، أو الاهتمام الكافيان لإنقاذه، أو أنها تفتقر للوسائل التي تمكنها من الحفاظ عليه، وبالتالي ستكون النتيجة عالما أقل في الحرية والرخاء والسلام للأمريكيين، وغيرهم على السواء.
كلا الطرحين اعتبرا أن النظام الليبرالي العالمي قد اختل، واضمحل، وفقد قدرته في الحفاظ على استمراريته. من جهة أخرى، يعتقد المدافعون عن النظام الليبرالي العالمي، أن النظام الذي قد تشكل بعد الحرب العالمية الثانية قد أنشأ مؤسسات مختلفة، قد أفادت، إلى جانب قيادة الولايات المتحدة للنظام، المجتمع العالمي بأسره، على مستويات متنوعة، تشمل الأمن والدبلوماسية والاقتصاد والتجارة والاستثمار.
وعلى الرغم مما سبق من طروحات تشكك بالنظام أو تعتقد باستمراريته، فإن النظام الليبرالي الذي يُعبر عن قيادة الولايات المتحدة الأمريكية له، قد تشكل وفقا لظروف وتوزيع القوة كما كانت في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية. وكما هو معلوم فإن كل الأنظمة الدولية التي تشكلت في معظمها بعد الحروب رسم فيها المنتصرون هيكلية ومؤسسات وقواعد الأنظمة، كما حصل بعد حرب الثلاثين عاما، وبعد الحروب الأوروبية الصغرى، والحربين العالميتين. وفي الوقت الحاضر، تبرز قوى جديدة في الساحتين الإقليمية والدولية، إن إحداث تغيير في شكل وطبيعة النظام، ينبع من رغبة وقدرة القوى الفاعلة فيه على تغييره، لتعظيم مصالحها، الأمر الذي يدفع القوى إلى إحداث التغيير في الوقت الذي تتوقع فيه أن مكاسب تغيير النظام تفوق تكاليف تغييره. فهل سترغب القوى الدولية الحالية وتتمكن من إحداث التغيير؟ أم ستتجه للحفاظ على النظام القائم إلى حين؟
النظام الليبرالي العالمي نظام مستقر ومستمر
يُجادل أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي جوزيف ناي في مقاله المعنون بـ”هل ينجو النظام الليبرالي العالمي؟”، المنشور في مجلة “الفورن أفيرز” الأمريكية، بأن النظام الليبرالي مستقر ومستمر، على الرغم من اختلاف النظام العالمي عما كان عليه في بداية القرن الحادي والعشرين.
وفي هذا السياق، يُجادل ناي بأن القلق من الصعود الصيني كعامل سيغير النظام الليبرالي العالمي هو قلق مضلل. مشيرا إلى أن قوة الصين لن تتجاوز قوة الولايات المتحدة في وقت قريب، فصحيح أن الاقتصاد الصيني قد حقق نموا مرتفعا خلال السنوات الماضية، إلا أنه لا يزال يشكل ما نسبته (61%) من الاقتصاد الأمريكي فقط، ومستويات نموه تتباطأ. من جهة أخرى، في حال استمر الاقتصاد الصيني في النمو، وتمكن من تجاوز الاقتصاد الأمريكي، فإن الاقتصاد يعد جزءا واحدا من المعادلة الجيوبوليتيكية؛ فطبقا لمعهد الدراسات الاستراتيجية العالمية، فإن الولايات المتحدة تنفق أربع مرات أكثر مقارنة بالصين على المجال العسكري، وعلى الرغم من زيادة قدرات الصين في السنوات الأخيرة، يعتقد مراقبون جادون أن الصين لن تكون قادرة على إزاحة نفوذ الولايات المتحدة من منطقة المحيط الهادئ، وبالمثل، فإنها لن تكون قادرة على مزاحمتها في ممارسة نفوذها العسكري العالمي. هذا إلى جانب تفوق الولايات المتحدة علميا وتكنولوجيا.
ومن جهة أخرى، يعتقد ناي أن الصين تستفيد من طبيعة النظام العالمي القائم فعليا، وتقدر وجوده، معتبرا “أن الصين لا تريد أن تغير النظام بقدر ما تريد أن تزيد تأثيرها فيه”. ويجادل بأن الصين الصاعدة وروسيا المتقهقرة ستقومان ببسط الأمن في إقليميهما، الأمر الذي سيحقق الضمانات الأمنية في آسيا وأوروبا، ويساعد في تحقيق الازدهار والاستقرار للولايات المتحدة، ويعزز بقاء النظام الليبرالي العالمي. وبناء على ما سبق، يرى ناي أن الولايات المتحدة ستستمر بقيادة النظام -وليس الهيمنة عليه- لعقود قادمة، في حال تمكنت من الحفاظ على دورها ومكانتها من خلال تقييم واضح لأولوياتها والمهددات الداخلية والخارجية التي تواجهها، وبتعزيز الشراكات الدولية نظرا لتعقد البيئة العالمية وتعقد القضايا التي لا تستطيع دولة واحدة أن تتولاها بمفردها.
تتباين وجهات النظر حول مستقبل النظام العالمي، لكن لا يزال من المبكر جدا الحكم على انهياره، وضمن المؤشرات الحالية، من المتوقع أن تسعى الدول للحفاظ على النظام، والعمل على تفادي الأخطار التي من شأنها إعاقة ذلك. هل ستنجح هذه المساعي؟ ستخبرنا الأحداث بذلك.
المراجع:
Graham Allison, “The myth of liberal order,” Foreign Affairs, https://goo.gl/o4j1Qi
Richard Hass, “Liberal World order, RIP”, Project Syndicate, https://goo.gl/6h6Hgm
Joseph S. Nye Jr, “will the liberal order survive?”, foreign affairs, https://goo.gl/HmijUE