يُنقل عن كارل ماركس (ت 1883) أنه لخص فعل إعادة التَّاريخ نفسه، في عبارة مشهورة: “التاريخ يُعيد نفسه مرتين، أول مرة كمأساة ومرة ثانية كمهزلة”، أو “مرة تراجيديا ومرة كوميديا”، وذلك حسب اختلاف الترجمة. جاء ذلك تعليقاً على تكرار الخطأ السياسي بالحكم نفسه مِن قِبل نابليون بونابرت (ت 1821) وابن أخيه نابليون الثَّالث (ت 1873).
حضرت هذه العبارة أمامي وأنا أشاهد شباباً مِن أهل البصرة، خلال التَّظاهرات العارمة الموجهة ضد الأحزاب الإسلامية الحاكمة والميليشيات المتنفذة، يمزقون صورة آية الله الخميني (ت 1989)، وتشويه الجدارية، التي ثًبتت عليها الصّورة، بالآلات الحادة. قابلتها بالمشهد نفسه، وقد حدث قبل سبعة وعشرين عاماً، في ربيع (1991)، عندما مزقت صورة صدام حسين (أعدم 2006) وشوهت الجدارية التي ثبتت عليها برصاص أحد ضباطه.
غير أن مشهد تشويه صورة صدام اشتهر عبر شاشات تلفزيونات العالم، فالإعلام العالمي آنذاك، كان موجهاً صوب حرب تحرير الكويت وما ترتب عليها، مِن انتفاضة سماها الإسلاميون بالانتفاضة الشَّعبانية، بينما أطلق عليها المدنيون انتفاضة “آذار” أو الربيع، لأنها حدثت في شهر آذار (مارس) الميلادي الموافق لشهر شعبان الهجري (1411هـ)، وبين التسميتين يحضر الدين السياسي وضده.
بالمقابل لم يشتهر تشويه صورة الخيمني عبر وسائل الإعلام العالمي ولا حتى العربي، وظلت في نطاق وسائل التواصل الاجتماعي، الذي استخدمها المتظاهرون في انتفاضتهم ضد العطش والفساد والفقر، وضد استلاب البصرة، لأن الحدث العراقي لم يعد مغرياً لدى الإعلام، فخلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة، تكاثرت الحوادث، وتسارعت وتقوم انتفاضات وتُقمع بسكوت، وإلا فالدماء التي سفكت في الانتفاضة الأخيرة (أغسطس/ آب- سبتمبر/ أيلول 2018) ليست قليلة، وليست أرخص من دماء الإسلاميين، الذين ما زالوا يتحدثون عن مظلوميتهم، وبالعنوة اعتبروها انتفاضتهم.
كانت ممارسات النِّظام السابق (1968-2003) ضد انتفاضة “شعبان” أو “آذار” كارثة، راح فيها المنتفض والقابع في داره طالباً السَّلامة، وتشكلت من المطاردين معسكرات للجوء على الحدود العراقية- السعودية، وآلاف العائلات هجرت العراق وساحت في أرض الله الواسعة، ولم يعودوا ولم يعد أبناؤهم ولا أحفادهم.
كان الحدث كارثة بحق، فالإعدامات جرت ميدانياً بالشباب والشّيوخ، وأسفرت عن فوضى وخراب، وتحطيم دوائر مِن قِبل المنتفضين، وإعدامات بالبعثيين وكل مَن اتُّهم بالتعاون مع السلطة، حتى سماها النظام السابق بصفحة “الغدر والخيانة”، فمن داخل تلك الانتفاضة وصل الأمر إلى قطع لسان شاعر شعبي معروف. آنذاك، هناك مَن لوح بصور الخميني والرموز الإيرانية، بينما ظلت في عقل المعارضين السابقين أنها انتفاضتهم، وأصدروا، وهم في الحكم، قانوناً يتقاضى بموجبه اللاجئون في معسكر رفحاء السعودي رواتب خيالية، ليس لهم فقط وإنما لأبنائهم، مَن وصلها طفلاً ومَن ولد هناك، ومَن كان في بطن أمه.
غير أن المهزلة أو الكوميديا -حسب مقولة كارل ماركس- في الحدث العراقي، أن تلك الأحزاب الإسلامية نفسها، وبعد سبعة وعشرين عاماً، تحل في السُّلطة، وبلا جهد، إنما الفعل كان للأمريكان والبريطانيين، ويستحوذون على البصرة، على النفط والماء والتراب، ويتناوبون على حكمها وسلبها، وهي تطفو على بحيرة مِن النفط، وإن اسمها من منحوتات أسماء الماء “بيث صري” أي بيت الجداول، وذلك لغزارة الماء فيها، بينما أهلها غدوا عطاشى جوعى والنساء ثكالى، فانتفضوا، وقصدوا إلى تحطيم مقدسات الإسلاميين، وأولها صورة روح الله الخميني، وزحفوا إلى القنصلية الإيرانية فتم حرقها وتدميرها، وبغض النظر عن الفاعل، هل هم المتظاهرون أم الأحزاب نفسها، أطلق أرباب السلطة عليهم تسمية “المندسين” الخونة، وأنه من فعل البعثيين وعملاء الخارج! فهل هناك مهزلة أعمق من هذه المهزلة؟! أن يربح الإسلاميون السُّلطة، ولا يستفيدوا من خطأ النّظام الذي حاربوا مع إيران ضده، حتى سماهم بالغادرين الخونة!
كانت مطالب العراقيين (1991)، كأحزاب معارضة، سياسية بحتة، أرادوا، حسب بياناتهم وهم في المعارضة، حكماً ديمقراطياً ورفاهاً للشعب وإعادة إعمار البلاد، وتعليماً متقدماً، إلى غير ذلك من مقومات الحضارة والمدنية. أما مطالب المنتفضين اليوم (2018) فقد اقتصرت على الماء والعمل وتوفير الخدمات، مِن الصحة والتعليم وتنظيف الطُّرقات! وبين مطالب الجيلين (1991) و(2018) فرق كبير، فمع معاناة الجيل الأخير بدت مطالب الجيل الأول ترفاً!
مثلما أسفر تحطيم جدارية صدام حسين عن كسر حاجز الخوف مِن سلطة “المنظمة السّرية”، لأن الصورة هي رمز وكيان النظام، كذلك أسفر فعل تمزيق صورة الخميني عن كسر حاجز الخوف من الميليشيات والمسلحين العميق والخطير، الذي يرفعون على مقراتهم واستعراضاتهم صورة الخميني وخامنئي، لأنهما أصبحا رمزاً للنظام الجديد.
إلا أن ما بين تدمير أو تشويه الصورتين فرق كبير، هنا يدخل الدين في السياسة بقوة، فالخميني وخامنئي، عندما تسأل الأحزاب الدينية عن أسباب تبجيلهما، يردون عليك لأنهما من مراجع الدين المُقَلدين، وهنا أسفر تدمير صورة (الإمام) عن كسر حاجزين: حاجز الخوف، وحاجز القدسية أيضاً. كانت انتباهة ذكية من المنتفضين، عندما أقدموا على إحراق وإهانة العلم الإيراني، أن فرشوه على الأرض ورفعوا عنه اسم الجلالة؛ فالنظام عندما صمم العلم، في بداية الثَّورة، لم يستفد مِن تجربته بحرقه للعلم الأمريكي، وكأنه صان علمه باسم “الله” المقدس، ولم يحسب حساب الساعة التي يعيد فيها التَّاريخ نفسه، لكن هذه المرة بكوميديا، أضحكتنا على تكرار الخطأ نفسه، وهو إحلال دكتاتورية محل أخرى، وهذا ما فعله نابليون الثًّالث بعد عمه نابليون الأول. حصل مع أسلوب صدام وتدمير صورته وأسلوب الإسلاميين وتدمير صورة مرشدهم الأعلى.