بعد النَّظر في تجارب الإسلام السِّياسي مع السُّلطة، مِن السُّودان وإيران وأفغانستان وتركيا إلى مصر والعِراق وتونس وليبيا، ما عسى عبدالعزيز البدري (قُتل 1969) ومحمد باقر الصّدر (قُتل 1980) يفعلانه لو قُيض لهما استلام السُّلطة بالعِراق، بثورة أو انتخاب؟! لعلَّ سائلاً يسأل: ولماذا هذا الافتراض، وليس هناك سياسي، معارض أو موجود في السُّلطة، لا يطمح إليها أو تمنى الخلود فيها؟!
أقول: إن الاثنين تحدثا في حياتهما، وتحت ظروف قاهرة، عن آفاق “الدولة الإسلامية”، أو “النظام الإسلامي” الذي ينشدانه، الخالي مِن الآلام والعوز، والكامل في عدالته، وكانا ينظران لأي سلطة غير إسلامية على أنها باطلة ظالمة، تحدثا في خطب لهما وفي كتب، وينظران إلى أن العدل المطلق هو ما بين يديهما، وها هي الأحزاب الدِّينية، التي عانقوها وساندوها، قد تسلمت الحكم، بلا منازع، فخذلتهما تماماً. صحيح أن ما حصل تحقق عن طريق ما كان يُجاهر ببغضه الصَّدر والبدري، أي الغرب الممثل ببريطانيا وأمريكا، لكن السَّيف والقلم والثَّروة صارت إلى حزب الدَّعوة والإخوان المسلمين، وبقية الإسلاميين، فماذا مارسوا وما هي النتيجة؟! فهل يمكن للبدري والصَّدر أن يحملا هذه الأحزاب لتطبيق الرَّفاهية والعدل والورع، بوجودهما على رأس السُّلطة؟!
تحدث أحدهم، وهو إسلامي قديم، وفي نوبة غضب واستياء مما يجري على يد رفاقه الإسلاميين، عن مثالية النظام الذي كان يعمل مِن أجله الصَّدر، حتى قال: ليذهب الزعماء الإسلاميون كافة إلى داهية، بمن فيهم الولي الفقيه علي خامنئي -واستثنى آية الله الخميني- فداءً للصدر، على أنه لو كان موجوداً لما حصل وما يحصل بالعراق! كذلك مَن يكتب بمثالية عن البدري يرَ النظام الذي كان يتمناه مطبقاً في عالم الخيال، إنه نظام الله وتطبيق شريعته، ولا يختلف نادب الصَّدر عن نادب البدري في هذا التمني المفرط بالعاطفة.
ولد عبدالعزيز البدري عام (1929)، وقُتل (1969) وترك الإخوان المسلمين باحثاً عن طريق سريع إلى السلطة، فوجد طموحه في حزب “التحرير الإسلامي”، ولما يئس مِن عدم الإسراع بقيام النظام الإسلامي، الذي يلبي طموحه، شكل تنظيمه الخاص، وأراد الإسراع بتحقيق الهدف عن طريق انقلاب عسكري، وكان محرضاً صلباً ضد السلطة، في سنوات حكم عبدالكريم قاسم (1958-1963) وعبدالسَّلام وعبدالرَّحمن عارف (1963-1968)، يوم كان الكلام لا يُقابل بالقتل، فأشد العقاب لا يتجاوز الحبس في الدَّار أو التوقيف لأيام أو المنع المؤقت من السَّفر. لكن هذا ما لا يتحمله نظام البعث (1968-2003)، فما إن بدأ البدري يرفع صوته حتى سُلمت جثته لأخيه ودفن بجراحه، وهو في عمر الأربعين.
ولد محمد باقر الصَّدر (1935) وقُتل (1980)، انتسب ثالث ثلاثة لحزب الدَّعوة الإسلامية عند تأسيسه (1959)، وصار له طموحان: طموح المرجعية الدينية، وطموح قيام دولة إسلامية، والطموحان لا يلتقيان في أجواء قبلة الزعامة المرجعية النّجف، فهما مفترقان، لهذا نُظر إليه، مِن قبل العديد من المراجع، بعين التشكيك في أعلميته.
كان الطموح الأول مفتوحاً أمامه، لكن المشكلة والخطر في الطموح الثَّاني، ولم يبق أمامه إلا تمني القتل، كي ينال الشَّهادة، وعلى بساطها يحمل الإسلاميين إلى السُّلطة، وقد نظر قريبون منه إلى أن هذا التمني لا يمت لفن السِّياسة بصلة، فهو عمل يشبه الانتحار، غير أن نجاح أصحاب العمائم من تولي أمر إيران (1979) أغراه بالذهاب بعيداً ، فقُتل بعد نحو أحد عشر عاماً من قتل زميله في المذهب الآخر عبدالعزيز البدري، في وقت لم يكن تنسيق بينهما، وهو في عمر الخامسة والأربعين.
بعد قتل البدري والصَّدر، تحقق هدفهما، بتولي رفاقهما الإسلاميين السلطة كاملةً، وليس هناك من عائق أمامهما لتطبيق ما كانا يدعوان إليه مِن قيام دولة إسلامية، ومِن المؤكد أن الصَّدر والبدري، لم تكبلهما الطائفية، فخطابهما كان عن نظام إسلامي شامل! فقد ألف البدري كتاباً تحت عنوان “الإسلام ضامن للحاجات الأساسية للفرد”، وألف الصَّدر “الإسلام يقود الحياة”، والكتابان متداولان ويملآن المكتبات الشَّخصية لتلاميذهما، الذين بيدهم الحكم الآن، فأين ضمان الحاجات الأساسية وأين قيادة الحياة؟!
لا أشك بالنزاهة الشَّخصية للبدري والصَّدر معاً، وربَّما أذهب أكثر من ذلك، وأقول: إن السُّلطة لا تفسدهما، مثلما لم تفسد آية الله الخميني ولا سيد قطب على المستوى الشّخصي، ولكن هل سيكون الصَّدر أعف من الخميني بقضية الدِّماء، وتبرير سفكها بحماية الثَّورة! وسيعف عن مرجع ديني كبير يعترض على نظامه الإسلامي، مثلما حصل للمرجع محمد كاظم شريعتمداري (توفي سجين داره 1985)؟! وهل سيكون عبدالعزيز البدري بعيداً عن ممارسة قيادة الإخوان المسلمين، وعن طريق الجهاز الخاص، في الاغتيالات، مِن أجل الوثوب إلى السُّلطة؟!
بمعنى آخر، لا يعتقد المتمنون، وهم ينظرون إلى فساد الأحزاب الإسلامية وفشلها بالبلدان التي حكمتها كافة، أن عبدالعزيز البدري ومحمد باقر الصَّدر سيُقيمان نظاماً عادلاً، وأن قواعدهما الحزبية التي نرى ونسمع عن سلوكها. أرى أنهما سيوضعان بين أمرين، إما أن يتوافقا مع واقع الحال، على أنه نظام إسلامي، مع كل ما علق به من مفاسد ومظالم، وستسقط الهالة عنهما، أو يتبرآن منه، ويصبحان هدفاً له، وسيقتلان بأيدي رفاقهما.
غير أن لا الصَّدر ولا البدري جربا السُّلطة، وهما تحدثا في كتابيهما، عن أمانٍ لا عن وقائع، هذا كل ما كانا يملكانه مِن النظرية السِّياسية. لهذا على المفتقدين لهما في هذه الظروف، أن يسألوا أنفسهم: ماذا سيفعلان لو تسلما السُّلطة؟!
يقول الشَّاعر العباسي عبدالصَّمد بن المعذل (ت 240هـ): “ولي أملٌ قطعتُ به اللَّيالي/ أراني قد فنيتُ به وداما” (الأبشيهي، المستطرف في كل فن مستظرف). فمَن يعتقد أن البدري والصّدر سيقيمان خلاف ما أقامته ولاية الفقيه وشيده إخوان السودان وأفغانستان وأحزاب العراق اليوم، سيفنَ ويبقَ أمله الدائم! فما عندهما، وهما في المعارضة، ليس أكثر مما بأيدي قومهما وهم في السُّلطة.