في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كانت جماعة الإخوان المسلمين، ترى في النظم الحزبية، حياة سياسية بغيضة بعيدة عن منهج الدين الإسلامي، كما لم تسع كجماعة للدلوف للمعترك السياسي من أبوابه الشرعية، بل ركنت إلى خلق كيان سياسي مواز، قسمته إلى قسمين، الأول: علني يتمثل في الجناح السياسي والدعوي، والثاني: سري موكول له أعمال خارج على أطر قانون الدولة.
وبالرغم من أن مؤسس الجماعة، حسن البنا، ومرشدها الأول، كان قد رشح نفسه في الانتخابات النيابية، فإن الكثيرين رأوا في تلك الخطوة مناورة منه للحصول على مكتسب سياسي، ولم يكن إيمانا منه بجدوى العمل الحزبي.
بيد أن الجماعة بعد تأسيسها الثاني، منتصف سبعينيات القرن الماضي، وبعد اغتيال الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، لم تجد وسيلة للنفوذ لمؤسسات الدولة سوى بالمشاركة في المؤسسات التشريعية والنقابية، وتبع ذلك محاولة التنظير الشرعي لتلك التطورات الطارئة، وحذا حذو الجماعة الأم في مصر، عدد من أفرع التنظيم في بلدان أخرى، كان من بينها الأردن، والكويت، ووصل الأمر بعد ذلك لصعود الجماعة للمشاركة في حكومات بعض الدول .
مصلحة التنظيم فوق كل اعتبار
بين أيدينا رسالة معنونة بــ«فوائد الاشتراك في الحكم» يوضح فيها كاتبها الأسباب التي دعتهم للمشاركة في العمل السياسي، ومن ثم فإن أهميتها تأتيها كونها قراءة للعقل الإخواني في تلك المرحلة، التي تفصح عن عقلية براغماتية، تندفع في تحولاتها وقراراتها بمصلحة التنظيم، ثم تأتي محاولات التنظير بعد ذلك لتضفي شرعية على تلك القرارات، بعد أن يمتزج فيها العامل الشرعي بعوامل المصلحة التنظيمية والسياسية.
تحتوي الوثيقة على (9) فوائد للاشتراك في الحكم وهي كالآتي:
أولا: «درء المفاسد والمؤامرات والمكائد عن الحركة الإسلامية إلى درجة ما بالاطلاع على ما يجري في الخفاء والعمل على إفشاله ما أمكن»
يوضح هذا البند أن مشاركة الجماعة لا تأتي كنوع من الانخراط في المكونات السياسية، والمساهمة في تقدم الدول والمجتمعات بقدر ما هو رغبة في الاطلاع على ما يجري داخل أروقة الحكم والمطبخ السياسي.
ولئن احتج كاتب الوثيقة على أن تلك المشاركة تأتي لدفع المكائد عن الحركة الإسلامية، فإن ذلك مردود عليه بأنه لو كانت هناك مؤامرات، لما أبدى النظام السياسي بادرة حسن النية في قبوله مشاركة تلك الحركة في المعترك السياسي، ومساهمتها في حكومة البلاد.
ثانيا: «إعطاء النموذج الإسلامي للناس، وإفهامهم أن الجماعة ليست مجرد مجموعة دراويش، وإنما هي قادرة على قيادة الناس وإدارة نظام الحكم».
وتأتي الفائدة الثانية من وجهة نظر التنظيم، من أجل مصلحته أيضا، فهو يدور معها وجودًا وعدمًا، كما يبتعد في هذا البند عن المشاركة للصالح العام، فقط هو يريد أن يثبت للجمهور أن لديه قدرة على إدارة الدولة، وذلك تمهيدا فيما يبدو لإقناعهم بأن لديه القدرة على أن يكون بديلا جاهزا، وقادرا، على الوصول إلى السلطة وحكمها منفردًا.
ثالثًا: «إعادة الثقة بالإسلام والمسلمين، وأنه دين قادر على تنظيم شؤون الحياة الخاصة والعامة، ولا يكون ذلك إلا بما يقوم به أفراد الجماعة من النماذج».
يرتبط البند الثالث بالثاني، إلا أنه يلفت هذه المرة إلى أنهم يرسلون رسالة أخرى للمسلمين بأن الجماعة هي التي لديها القدرة على إدارة شؤون الحياة بالدين وليس غيرها.
اختراق المؤسسات
رابعًا: «زيادة خبرة الجماعة الإسلامية في طرق إدارة الحكم وبدون ممارسة لا تحصل هذه الخبرة».
فالمشاركة في الحكومة هنا تأتي من أجل تدريب كوادر الجماعة على إدارة الحكم، وليس لمجرد المساهمة فيه بالاشتراك مع مكونات المجتمع الأخرى، كما فضل الكاتب استخدام «الجماعة الإسلامية» في توصيف الإخوان، فهو الوصف الشائع لكثير من أفرع الإخوان في العالم، كما أنه ظل ملاصقا لطلاب الإخوان في الجامعات المصرية حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
خامسا: «تعرف الجماعة النظام القائم من الداخل لتتقي شره» وهذا البند يرتبط بالخامس وفيه يعلو حس الجماعة الأمني، عبر محاولة الاختراق والتغلغل في مؤسسات الدولة.
سادسا: «تدريب وتعليم الكوادر الإسلامية المتخصصة، وذلك عن طريق البعثات التي تنظمها الوزارات» وفي هذا البند تستغل الجماعة الوزارات للاستفادة من تعليم كوادرها عبر البعثات التي تتحمل تكلفتها الحكومة، للتدريب على النظم الإدارية الحديثة.
سابعًا: «إيجاد مجموعة من أفراد الجماعة الإسلامية الذين يكون لهم جاه عند الناس نتيجة لمراكزهم السابقة، وهؤلاء يفيدون في كثير من المواقع، وحل كثير من الإشكالات للجماعة وأفرادها».
يكشف هذ البند عن براغماتية صارخة للتنظيم؛ إذ إنه يهدف لخلق عناصر ذات جاه وسلطان، تستمد نفوذها من وجودها في مناصب قيادية في الدولة، فتحظى بالاحترام والتقدير، في مخالفة صريحة لنزعات الزهد والتواضع التي تحاول الجماعة تصديرها في محاضنها القاعدية.
تكفير الآخر
ثامنًا: «زيادة المراكز الإسلامية ومحاربة المراكز الكافرة بهيمنة السلطة القائمة». يفضح هذا البند تكفير الإخوان للآخر باعتبار أن مراكزهم كافرة، وأنه من خلال اشتراكه في السلطة يمكنه قمع هذا الآخر من خلال هيمنته القائمة.
تاسعًا: «تدريب الكوادر الإسلامية على السياسة وألاعيب السياسة». إذا كان لا بأس من تدريب تلك الكوادر على السياسة، فإنه يجب الوقوف على «ألاعيب السياسة» التي لا يعرفها الإسلام بمعناها الحديث، والتي تعني الخداع والكذب من أجل الحصول على مكاسب سياسية.
وتحتوي الوثيقة على صفحة أخرى موسومة بـــ« بين يدي الاشتراك… يجب دراسة القضايا التالية»:
- «دراسة مصلحة الجماعة، ويجب أن تكون فوق مصلحة الفرد».. لم تتحدث هذه الورقة عن قيم أو مفاهيم شرعية بعيدة عن «مصلحة الجماعة».
- «أن يكون التنسيق كاملًا بين الفرد الذي يشترك في الحكم والجماعة ووجوب التزام الفرد بذلك».. ويعد هذا البند من البنود الخطيرة التي تكشف التزام المسؤول التنفيذي في الدولة المنتمي للجماعة بالتنسيق والارتباط بالتنظيم، وأن يكون هذا الالتزام واجبًا، فلا يستقل عن جماعته.
وهذا ما رأيناه في مصر عام 2012م، بعد وصول الإخوان في مصر للسلطة، إذ تخلى محمد مرسي عن بيعته للمرشد علنيا فقط، لكنه ظل مواليا لمكتب الإرشاد ويتبع تعليماته.
- «يجب أن توضع مجموعة معايير للدخول في الحكم، كما أنه يجب أن توضع مجموعة معايير للخروج منه». لم يوضح كاتب الوثيقة تلك المعايير، لكنها -لا شك- تدور مع مصلحة الجماعة أينما وجدت.
- «يجب اختيار حقائب وزارية بعينها وعدم قبول أي وزارة».. يبدو الشعور الاستعلائي واضحًا فالجماعة تسعى لمناصب وزارية ذات وجاهة، وليس حقائب وزارية ليست كذلك، حتى لو كان دورها هاما وحيويا في خدمة المجتمع.
- «يجب أن تسبق دخول الوزارة دراسة مسبقة لمعرفة مطالب الجماهير لتبنيها».
- «تجهيز دراسات قانونية إسلامية لتقديمها للنظام».
- «المحافظة على المعايير التي وضعت من قبل الجماعة خلال الوجود في الحكم».
«الاستعداد المطلق للخروج من الحكم عند تعارض المصلحة».. وفي البنود: الخامس والسادس والسابع والثامن، يحاول كاتب الوثيقة التوصية بضرورة اللعب على مشاعر الجماهير، سواء بتبني المطالب الشعبية، أو إثبات أن الجماعة تسعى لتطبيق الشريعة عن طريق تقديم دراسات قانونية إسلامية للنظام، أو انتهاز فرصة للانسحاب من الحكومة، إذا كان هذا الانسحاب يأتي في مصلحة التنظيم، بغض النظر عن مصلحة الدولة أو الصالح العام.