تقوم “فينومينولوجيا” هوسرل أو الظاهريات على حدس الماهيات خلافاً للعلوم التجريبية الأخرى التي تقوم على وقائع، لذلك يصر هوسرل على ضرورة تحقيق الفلسفة الترانسندتالية لا بروح نظرةٍ عامة، بل بروح علمٍ دقيق متوجه نحو فكرة الصحة المحددة، معتبراً قبول المذهب الطبيعي كمثلٍ أعلى من أجل إقامة فلسفة علمية يحقق وعياً زائفاً، لأن الفلسفة لديه يجب أن تكون أكثر دقةً من العلوم التي تتميز عنها بالانطلاق من دون افتراضاتٍ سابقةٍ تنأى عن السؤال بحجّة الوضوح[1].
وظاهرية هوسرل تختلف عنها لدى هيغل، مع امتيازه بقراءة التراث السابق عليه: “لذلك نجده يقرأ التراث الفلسفي قراءةً شديدة الانتقاء: تفضيلٌ مطلقٌ لأفلاطون من القدامى، وتمييزٌ لديكارت بمقام السبق والتأسيس لدى المحدثين؛ ثم تنويهٌ بطائفة من الفلاسفة مثل هيوم ولوك ولايبنتز وكانط، وتبجيلٌ للفيف من معاصريه تبجيلاً خاصًّا: برنتانو، أفيناريوس، ديلتاي، هربارت، لوتسه، ماينونغ، بولزانو… فالفينومينولوجيا قد سبق إليها هؤلاء جميعهم بما حدسوا به من معان وأغراض فلسفية قريبة مما أقر به، ولا سيما من حيث النفور من كل أشكال الميتافيزيقا التأملية، والبناءات المجردة التي لا أساس لها في المعطيات المباشرة للتجربة”[2].
“العودة إلى الأشياء عينها” هذا ما لا يتحقق بالموقف الطبيعي، وينقضه هوسرل في كتابه: “أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهراتية” بقوله: “في الموقف الطبيعي نحقق ببساطة، كل الأفعال نحققها بالأفعال التي بفضلها يوجد العالم بالنسبة إلينا، ونعيش على نحوٍ ساذج في الإدراك والتجريب، وفي هذه الأفعال التي تظهر لنا فيها هويات الأشياء والتي لا تظهر فيها فحسب بل هي تعطى لنا بطابع الموجود، والواقع الفعلي، إننا نحقق خلال ممارستنا للعلم الطبيعي أفعالاً فكرية منتظمة منطقياً-تجريبياً، أفعالاً تكون فيها هذه المعطيات معطاة، وتكون مأخوذة كحقائق محددة، بمقتضى الفكر، وفيها كذلك على أساس مثل هذه الأشياء المفارقة التي جربت وحددت مباشرةً نستنتج أشياء مفارقة جديدة، أما في الموقف الظاهرياتي، فإننا نعطّل بمقتضى الكلية المبدئية تحقيق مثل هذه الأوضاع الفكرية، أعني أن ما تحقق نضعه بين قوسين، فلا ندخل هذه الأوضاع في البحوث الجديدة وبدلاً من أن نعيش فيها وأن نحققها بمنطق الموقف الساذج نجري عليها أفعال التفكر الموجهة إليها، فندركها هي ذاتها بصفتها الوجود المطلق الذي هي إياه. والآن نحن نعيش بإطلاق في مثل هذه الأفعال التي هي من الدرجة الثانية، والتي يكون معطاها المجال اللامتناهي للتجربة المطلقة -مجال الظاهراتية الأساسي”[3].
يتجلى منهجه الظاهراتي بالآتي: “إننا لا نقصد أبداً أن نكتفي بمجرد الألفاظ، أعني بمجرد فهم رمزي للألفاظ كما هو الحال بادئ الأمر في تأملاتنا في معنى القوانين الموضوعة في المنطق المحض، إن غرضنا هو العودة إلى الأشياء نفسها، فنحن نقصد أن نرفع البداهة أن ما يعطى هاهنا ضمن تجريدٍ بالفعل إنما هو حقاً وفعلاً ما تريده الدلالات اللفظية حين تعبّر عن القانون، وأن نستثير الاستعداد فينا إلى الإمساك بناصية الدلالات في هويتها القارة عند التمرس بالمعرفة بمواجهتها، بالحدس الذي يقبل أن يعاد توليده… إن كل حدسٍ معطى أصلي هو مصدر شرعي للمعرفة، وكل ما يعطى إلينا في الحدس على نحوٍ أصلي بفعليته المتجسدة ينبغي أن يتلقى فقط كما أعطي ولكن دون أن يزيد على الحدود التي أعطي حينها في نطاقها، يتعين أن ندرك أن نظرية ما ليس لها أن تستمد حقيقتها من غير المعطيات الأصلية، كل منطوق يقتصر على إضفاء العبارة على هذه المعطيات بواسطة مجرد التفسير بالدلالات التي هي مضافة إليها، هو –إذاً- بالفعل بدء مطلق مدعو بالمعنى الخاص للكلمة أن يكون أساساً ومبدأً”[4].
الدافع الرئيس لهوسرل: “لا يتأتّى من الفلسفات وإنما من الأشياء والمشكلات. إن الفلسفة إنما هي في ماهيتها علم البدايات الحقيقية، أو علم الأصول”[5]، ولذلك يصرّح في كتابه المؤسس: “مباحث منطقية -مقدمات في المنطق المحض” على انتقاله من “صوري الحساب” و”صوري المنطق” لأسئلةٍ أكثر أساسية، بصدد ماهية صورة المعرفة بافتراقها عن مادة المعرفة، وعن معنى الفرق بين التعيينات والحقائق والقوانين الصورية (المحض) منها والمادية، و”حتى يكون ثمة علم، يجب أن يكون ثمة وحدة معينة في تعالق التعليلات، ووحدة معينة في تراتبها”[6].
يسأل هوسرل –مثلاً- عن مدى استقلال «السيكولوجيا» عن المنطق، ووضع أسئلة ضرورية سماها أسئلة النزاع التقليدية المتعالقة مع تحديد المنطق، وهي: هل المنطق فنّ نظري، أم فن عملي بمعنى أنه صناعة؟ وهل هو علم مستقل عن غيره من العلوم وبخاصة عن السيكولوجيا أو الميتافيزيقا؟ وهل هو فن صوري أي يشتغل كما يفهم عادة بمجرد صورة المعرفة؟ أم إن عليه أن يهتم بمادتها أيضاً؟ وهل له سمة فن قبلي وبرهاني؟ أم فن أمبريقي استقرائي؟ وعلى أهمية تلك الأسئلة بترتيب التسلسل للمنطق الذي سيكون مختبر الحقيقة، فإن هوسرل وبحذق يحذّر من الانحياز لهذه النزاعات التقليدية، بل بالأحرى القيام بتوضيح الفروق المبدئية التي تلعب فيها، والطريق للمنطق المحض بتحديد تعريف للمنطق يكون مقبولاً بشكل «شبه كلي»[7].
والتعالق بين ظاهراتية هوسرل والميتافيزيقا يمكن اختصاره بتحليل فتحي إنقزو الشارح والمتخصص بهوسرل حيث يعتبر: “أن الفينومينولوجيا وإن بدت في غير حاجةٍ إلى النظر في الجوهر الميتافيزيقي لموقفها الأصلي، فإنها تفضي إلى تعيين هذا الموقف تعيينا ميتافيزيقياً صريحاً بتحديد مضمون الفلسفة ومقاصدها بحسب أقسام الميتافيزيقا التقليدية، وبحسب أنموذجها الأنطولوجي أساساً من حيث هي أصلاً تجديد لهذه المقاصد بحسب الوضع الذي أفضت إليه (البحوث المنطقية) وحدوده ومهدت له الأعمال العينية في الظاهراتية المتعالية” ثم يشير إلى إشكالية في ظاهراتية هوسرل: “حيث تبين حاجة الفلسفة إلى تأوّل ذاتها تأوّلاً ميتافيزيقياً في مقامها وفي بنيتها، وفي حاجة الأشياء التي تختص بالنظر فيها إلى قاعدة أنطولوجية قصوى، تشتق منها مبررات التشريع النظري للعمل الفلسفي ولنسق الفلسفة عموماً”[8].
لم يكن طريقاً سهلاً ذلك الذي اختطّه هوسرل في منهجه الفينومينولوجي، فقد أعاد في الجزء الأول من مباحثه المنطقية قراءة المنطق الذي استندت عليه فلسفات ديكارت وكانط ولايبنتز، محارباً الميدان النظري القبْلي المغلق على نفسه، معتبراً النزاع على التعريفات هو في حقيقته نزاع على العلم نفسه.
أثرت فينومينولوجيا هوسرل على الفلسفة في القرن العشرين، وأيقظت أسئلةً خلقت فلسفاتٍ خاصةٍ كما حدث مع مارتن هيدغر[9]، خاض هوسرل عشرات المعارك مع النزعات السيكولوجية والحيوية والتاريخانية وسواها، لقد حارب من أجل منهجه للعودة إلى الأشياء نفسها، إلى الماهية إلى ما قبل التأسيس القبلي لنقض كلاسيكيات المنطق المحض، ومطالباً بتعليق الحكم على المعطيات الأولى لظاهرات الوعي، ولذلك كتب: “إنه من البين أن طفولة فينومينولوجية طويلة لن يبخل بها علي إن شئت أن أكتسب معرفةً عميقة يمكن التعويل عليها فيما بعد بشأن النظرية”.
[1] انظر كتابه “الفلسفة علماً دقيقاً” ويعرف الكتاب بمقالة اللوغوس، نسبةً للمجلة التي نشر فيها الكتاب في العدد الأول عام 1910-1911. ترجمة وتقديم: محمود رجب.
[2] فتحي إنقزو: “قول الأصول هوسرل وفينومينولوجيا التخوم” ص99، نسخة (أمازون) الإلكترونية.
[3] هوسرل: “أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهراتية”، ترجمة: أبو يعرب المرزوقي، ص132.
[4] فتحي إنقزو: “قول الأصول هوسرل وفينومينولوجيا التخوم” بتصرف من نصوص هوسرل، من ص144 إلى 181. نسخة (أمازون) الإلكترونية.
[5] فتحي إنقزو: “قول الأصول هوسرل وفينومينولوجيا التخوم” ص110، نسخة (أمازون) الإلكترونية.
[6] هوسرل: مباحث منطقية، مقدمات في المنطق المحض، الجزء الأول، ص61، ترجمة: موسى وهبة.
[7] المرجع السابق. الفصل الأول.
[8] فتحي إنقزو: هوسرل واستئناف الميتافيزيقا، ص36.
[9] مثلاً والذي أهدى إلى أستاذه كتابه الرئيس: “الكينونة والزمان” قائلاً: “مهدى إلى أدموند هوسرل، إجلالاً وصداقةً”. انظر: “الكينونة والزمان”، ترجمة: فتحي المسكيني.