-1-
تروي المصادر أن “أهل الجاهلية كانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان شيئًا من الميراث، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهر الخيل”. لكن مصطلح “أهل الجاهلية” هنا ينصرف إلى قريش والحجاز على الأكثر، لأن هذه المصادر تشير إلى أن “أول من جعل للبنات نصيبًا من الإرث من الجاهليين هو ذو المجاهد بن جشم بن قمقم بن حبيب بن كعب بن يشكر، ورث ماله في الجاهلية فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. فوافق حكمه حكم الإسلام” (ابن حبيب المحبر).
يعني ذلك أن حرمان النساء من الميراث لم يكن عرفًا مشتركًا بين جميع القبائل العربية قبل الإسلام، على الرغم من اشتراك هذه القبائل في السمات العامة للثقافة القبلية ذات الطابع الذكوري. ويعني –أيضًا- أن التشريع القرآني، وهو يقر مبدأ توريث النساء، كان يوافق بعض الأعراف الجاهلية. وهي موافقة لم تمتنع المصادر المبكرة، خصوصًا كتاب الأخبار، عن إثباتها بشكل عفوي، خلافًا للمصادر المتأخرة التي ستعبر عن موقف تنظيري واع يميل إلى تغييب أوجه التوافق بين الأحكام القرآنية، والعرف العربي، تحرجًا من فكرة المشابهة مع الجاهلية. لكن التشريع القرآني في هذه المسألة جاء ناقضًا للعرف السائد في بيئته المحلية المباشرة. وفي هذا الإطار يمكن قراءة انحيازه “النسبي” لصالح المرأة، كموقف تقدمي قياسًا إلى لحظته الاجتماعية.
-2-
يعبر الموقف التنظيري عن الرؤية السائدة في العقل الكتابي عمومًا، والتي جرى تثبيتها في الوعي الإسلامي منذ عصر التدوين. وهو موقف دفاعي يفضي إلى إنكار الربط بين “التشريع الديني” وسياقاته الاجتماعية، ومن ثم تكريسه كجزء من المطلق الديني.
تقوم هذه الرؤية على مفهوم أساسي من مفاهيم التدين الكتابي الموروثة وهو مفهوم “النصية”، وبحسب هذا المفهوم كل ما هو وارد في النص مطلق، أي مؤبد غير قابل للتغيير، حتى ولو كان يتعلق بوقائع أو أحكام هي بطبيعتها لا تقبل التثبيت، ما يعني تعميم القانون في جميع السياقات الاجتماعية، وتجميده إلى الأبد، بصرف النظر عن فكرة التطور التي تسري في العالم كقانون مضطرد. (ما سيحدث واقعيًا هو أن قانون التطور يفرض تغيير القانون، ويكون الثابت هو حكم التأثيم).
تاريخيًا، يبدأ مفهوم “النصية” في الجيل الثاني من خلال ممارسات التدين، حيث ينبثق الوعي بضرورة توثيق الدين. الفكرة الأولية هنا تتعلق بعملية الجمع التي تستهدف المواد الشفهية المنسوبة للوحي، وهي عملية لم تكن تسفر عن إعادة هيكلة لبنية النص “الأصلي” فحسب، بل كانت تلعب على الدوام دورًا إنشائيًا في تكوين بنية نصية أوسع من منطوق النص الأصلي.
تدريجيًا، يصير النص المكتوب محور الثقافة والمصدر الأول لإنتاج المعرفة، ويحتل موقع الصدارة كمرجعية نظرية شاملة تكرس المفهوم الجمعي للدين. وبغض النظر عن كتلة الواقع التاريخية الملتبسة به، يقدم النص بجميع أجزائه ككيان مطلق يملك خصائص القيم الكلية.
ثمة فارق واضح بين الإحساس بالنص في مرحلة الوحي المفتوح، من موقع المعايش للأحداث والوقائع، حيث يبدو النص جزءًا من الواقع، والإحساس بالنص في مرحلة الفقه من موقع البحث المعرفي في وثيقة هي في النهاية جسم لغوي، مشكلة حضور أو غياب كتلة الواقع لا وجود لها في المرحلة الأولى، بينما وجودها مفروض في المرحلة الثانية بحكم التعاطي مع نص لغوي.
معنى ذلك أن الوعي بمفهوم النصية لا يكون مكتملًا في مرحلة النص المفتوح، وهي المرحلة الأقرب إلى الدين، بل يكتمل في مرحلة التدين، أي بفعل الثقافة التي تجرد النص من ملابسات التنزيل الاجتماعية لتحوله إلى مقولات مطلقة، بما في ذلك الشق التشريعي الذي يستحيل تجريده من أصوله التاريخية.
نتيجة لذلك كان بإمكان الصحابة في المرحلة الأولى الوقوف على الطبيعة الاجتماعية المتغيرة للنص التشريعي، والتعامل بعفوية مع فكرة التفريق بين المطلق الثابت والنسبي القابل للتغير داخل النص ذاته. روى الطبري في التفسير (النساء، 11) عن ابن عباس: “أنه لنا نزلت آية الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله ينساه أو نقول له فيغيره”.
في هذه الرواية المعبرة إشارة إلى الوعي الإسلامي قبل تبلور مفهوم النصية، وتحول الدين بفعل التنظير إلى منظومة ثقافية مدونة. كان من الواضح أن الأحكام التشريعية، وعلى الرغم من صدورها في آيات قرآنية، لا ينظر إليها كجزء من المطلق الثابت، بل كجزء من التنظيم العرفي القابل للمراجعة وطلب التغيير.
وتكشف الرواية عن التأصيل الاقتصادي لفكرة الميراث كما يفهمها العقل العربي، المحكوم باجتماعيات الغزو القبلية. الربط واضح بين القتال والغنيمة ومن ثم الذكورة كسبب للإثراء وجلب المال من جهة، واستحقاق الإرث من الجهة المقابلة.
تقليديًا، تقدم الأنثروبولوجيا الاجتماعية تفسيرًا اقتصاديًا عامًا للاجتماع الذكوري، حيث تربط هيمنة الذكر، فضلًا عن وظيفة القتال، بقيامه بالعمل وقدرته على الكسب والإنفاق، وهو معنى طرقه القرآن عند تسبيبه لقوامة الرجال على النساء (وبما أنفقوا من أموالهم).
في الاجتماع العربي الجاهلي، حيث كان الفقر واحدًا من الأسباب المعروفة للغارات المتبادلة بين القبائل، مثلت الغنائم المتحصلة عن الغزو مصدرًا من مصادر العيش يمكن الاعتداد به داخل اقتصاد صحراوي بسيط. وهي ظاهرة واسعة لم تقتصر على البوادي التي كانت مسرحًا للتنقل والارتحال، بل طالت الحواضر المستقرة خصوصًا حواضر الأطراف على حدود الشام والعرق. وعرفت البوادي ظاهرة الصعاليك الذين اعتمدوا على السطو وسيلة لكسب الرزق وسجَّلوا ذلك في أشعارهم.
أقرت الأعراف بحق القاتل في الاستيلاء على سلب قتيله، سواء كان القتال جماعيًا أو فرديًا، وتنسب الروايات إلى رسول الله تأييده لهذه القاعدة “من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه” مما سينعكس على المادة الموروثة في فقه القتال، الذي ناقش أحكام “السلب” ضمن أبواب الغنيمة. وفي الرواية المنسوبة إلى الرسول “بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي” دلالة واضحة على الربط، داخل الثقافة العربية، بين الغزو والارتزاق.
-3-
يحظى فقه المواريث بحماية القانون المكتوب في معظم البلاد الإسلامية. ولأنه يستند مباشرة إلى النص، فهو ينتمي إلى المنطقة الأكثر حساسية في المدونة الإسلامية الواسعة، التي تقوم -في معظمها- على مصادر غير نصية (اجتهادية). الحساسية هنا تتعلق بسؤال التغيير الذي صار مطروحًا في اللحظة الاجتماعية الراهنة تحت ضغوط التطور.
وهذا السؤال موجه إلى مجمل المدونة بما في ذلك التشريع النصي.
لهذا السؤال وجهان:
- كيف يمكن التعاطي مع مفهوم النصية الراسخ في الوعي الديني دون أن يعني ذلك خروجًا من الدين؟
- هل ثمة –حقا- ضغوط تطور كافية لإحداث التغيير؟ هل وصل التطور في هياكل الاجتماع الكلي (الاقتصادية/ الاجتماعية/ العقلية المعرفية) إلى الحد اللازم لتحويل الثقافة الذكورية الموروثة بحيث يستدعي تحولًا تشريعيًا؟ هل يمكن لهذا التحول أن يتم بدون كلفة اجتماعية باهظة؟
الارتباط وثيق بين وجهي السؤال، لأنه عند وصول التطور إلى نقطة حدية بعينها، أي عند حدوث تغيير جذري في هياكل الاجتماع الكلية، يحدث تحول تشريعي بالضرورة، أي يتغير الحكم المنصوص. ما يعني –عمليًا- تجاوز المشكل الخاص بقابلية النص للتغير. ومؤدى ذلك أن حركة الاجتماع تشتغل بآليات بطيئة على المدى الزمني الطويل، تستطيع تخطي فكرة التأبيد المقدس التي قد يتحصن بها التشريع. لكن المشكل يظل قائمًا طالما كان التغيير مطروحًا قبل اكتمال التطور الكلي. التطور الجزئي -كما في الحالة الإسلامية الراهنة- يستطيع إثارة المشكل وتصعيد درجة الوعي به، لكنه لا يستطيع حله أمام رسوخ الثقافة.
عادة ما تخدع مظاهر التطور الجزئي الطافية على السطح الاجتماعي رؤية الفكر، الذي يمتلك بطبيعته خاصية القفز على الواقع. وهو ما يدفعه إلى استعجال التغيير. بالطبع ليس على الفكر أن يكف عن ممارسة دوره الاستشرافي في عملية التطور، ولكنه عليه الوقوف -بتواضع- أمام قدرته على إنجازه في الواقع.
وأحيانا يبدو الوعي الذكوري أشد رسوخًا في الثقافة الشعبية من ثقافة النص ذاته، مثلما تظهر ممارسات التوريث في بعض المجتمعات البدوية والريفية، التي –على الرغم من إيمانها بالنص- تمنع أو تتحايل لمنع توريث النساء، ما يدفع للقول بأن المسألة تتعلق بدرجة التطور التي تملي الثقافة قبل أن تتعلق بفاعلية النص.
في جميع الأحوال تبقى إشكالية التجميد الناجمة عن “مفهوم النصية” إشكالية خاصة بنسق التدين التاريخي الموروث، وليست إشكالية الدين في ذاته، بما هو جوهر أخلاقي مطلق، أي قادر على استيعاب جميع أشكال التغير داخل الاجتماع.