شكّل جيل دلوز حالة حيوية في الفلسفة المعاصرة، بوصفه فيلسوفاً خرج من كلاسيكيات التعريف الفلسفي أو منهاجه. لم يشرع بابتكار سؤالٍ فلسفي في البداية، بقدر ما سأل: ما هي الفلسفة؟، متوصلاً إلى تعريفه الذي سيرسم عبره خطوط فلسفته؛ إذ ليس لها بناء بالمعنى الاعتيادي لدى الفلاسفة الآخرين. فهي بالنسبة إليه: “إبداع المفاهيم”، فابتداع المفهوم هو مهمة الفيلسوف.
بمعنى آخر: “لم تعد الفلسفة معرفة المبادئ الأولى، ذلك التعريف الإغريقي الأرسطي، الذي لم تزحزحه أعتى ثورات العقل وانعطافاته الكبرى، حتى كانط لم يبارح هذه الترسيمة، وإن اصطلح عليها بتسمية أحدث: نقد العقل الخالص، فقد يتضمن إبداع المفاهيم بما يشبه الممارسة الفعلية للعقل الخالص، لكنه مع ذلك يحمل هذه الممارسة إلى ما لا ينتظره العقل الخالص من ذاته، ولا تعد به جاهزيته أصلاً، هذا التعريف الذي يزعزع كذلك من مواصفات كل تعريف منطقي، ينقل الفلسفة من طوبائية (البحث عن الحقيقة) إلى حيّز أدوات البحث، إذ إن المفاهيم لم تكن مفرداتٍ للحقيقة، بقدر ما تصير أدواتٍ أو مفاتيح تتعامل مع أجواء الحقيقة”[1].
وكما أن الفلسفة هي إبداع المفاهيم، فإن الفيلسوف بالنسبة لدلوز هو “صديق المفاهيم” ولم يقصد دلوز تحديد الفيلسوف بمهمة، فهو عدوّ لرسم المهمات، وحدّ المناهج، وإنما عنى بذلك كشف مجالٍ للفيلسوف يمكنه عبرها اختراق الحدود القديمة، ونزع العباءة المتشاكلة بوراثةٍ قديمة، ويشرح لنا بشكلٍ أوضح: “إن الفيلسوف صديق المفاهيم، إنه بالقوة مفهوم، مفاد هذا أن الفلسفة ليست مجرد فن تشكيل وابتكار وصنع المفاهيم، ذلك لأن المفاهيم ليست بالضرورة أشكالاً أو اكتشافاتٍ أو مواد مصنوعة. إن الفلسفة بتدقيق أكبر هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم، فهل يمكن للصديق أن يغدو صديق إبداعاته الخاصة؟ أم إن فعل المفهوم هو الذي يحيل على قوة الصديق داخل وحدة المبدع ونظيره المضاعف؟ فإن إبداع مفاهيم دائمة الجدة هو موضوع الفلسفة”[2].
والمفهوم بالنسبة لدلوز هو: “فرادة بقدر ما هو كثرة، وهو يقول الحدث بقدر ما هو حدث، لذلك كله فالمبدأ في منطق دلوز سواء تعلق الأمر بمنطق المعنى، أم بمنطق الحس ليس الواحد بل الكثير والمتعدد، أي ما لا ينفك يتكثر ويتغير، من غير ما رجوع إلى مرجع واحد تمارس باسمه إمبريالية المعنى، بهذا المعنى كل عمليات الكثرات والتذويت والتجريد والعقلنة التي تجري في الذهن، إنما توجد داخل الكثرات المحايثة والمتغيرة التي تنتمي إليها وليس خارجها”[3].
يجعل دلوز الفيلسوف لاعباً مع مفاهيمه، وفي صراعٍ مع أدوات إنتاج الحقائق، ويشرح ذلك آلان باديو: “كان دلوز ميّالاً إلى الإشارة بكيفيةٍ سلبية، إلى تطوير فلسفةٍ ما لمسألة الحقيقة، وكان قد كتب لي بأنه لم يكن قطّ في حاجةٍ إلى هذه المقولة (يقصد بها السؤال عن الحقيقة لا سيما إذا كانت الكائنات سيمولاكرات وتظهر من ثم في سياق النقد النيتشوي-القدرة العليا للخطأ) بل إنه لم يستسغها قط، إذ إنها تعود إلى إمكانٍ فعلي متحيّن، أما واقع افتراضي ما فمغاير كلياً للحقيقة، والحقائق هي بالضرورة متماثلة أو مشتركة، في حين أن المفاهيم متواطئة بإطلاق”[4].
لكن هل قصد دلوز من هذا التعريف اقتراح منهاجٍ فلسفي بالمعنى التقليدي؟!
يجيب جمال نعيم -وهو متخصص بفلسفة دلوز-: “إذا اعتبرنا أن فلسفة دلوز هي عبارة عن سستام ذي مستوياتٍ متعددة، فإن (ما الفلسفة) هو المستوى الأعلى لهذا السستام. فدلوز لا يعمد إلى إنشاء سستامه إنشاءً نهائياً ومحكماً، ليعمد من ثمّ إلى شرح هذا السستام وتطبيقه على مختلف المجالات. لذا نرى أنه من الصعب تناول هذا الكتاب (يقصد كتاب ما هي الفلسفة؟) وفهمه من دون المرور بالكتب السابقة، لأن سستام دلوز هو سستام ذو تولّدات متغايرة. وهو ينتقل من تولّد إلى آخر، كأنه يولد سستاماً مختلفاً في كل مرة، من رحم السستام الأساسي الذي بدأ مع كتابه (الفرق والتكرار) فكما أن اللغة في رأي دلوز هي سستام غير متوازن وغير مستقر، وقادرة دائماً على توليد لغاتٍ أجنبية داخلها، فكذلك السستام الفلسفي قادر على توليد سساتيم أجنبية أو غربية داخله. وهكذا نشعر مع كل كتابٍ جديد لجيل دلوز، أن سستامه يتأسس في كل مرةٍ بشكلٍ مختلف، وإن كنا لاحظنا أن هناك تأسيسين كبيرين، الأول مع كتاب الفرق والتكرار، والثاني مع كتاب ما الفلسفة”[5].
فتح تعريف دلوز المختلف، وتكسيره المتواصل للقوالب الفلسفية والمناهج المتعددة المجال مع “اللافلسفة” باعتبار علاقتها مع الفلسفة “علاقة مكوّنة”، بل بالنسبة إليه: “على الفيلسوف أن يصير (لافيلسوفاً) حتى تصير اللافلسفة أرض الفلسفة وشعبها”[6].
[1]– من مقدمة مطاع صفدي لترجمة كتاب: “ما هي الفلسفة” لجيل دلوز وفليكس غيتاري، ص5.
[2]– جيل دلوز، ما هي الفلسفة، ص30.
[3]– علي حرب، نحو منطق تحويلي، ص56 هامش رقم (2).
[4]– آلان باديو، جيل دلوز صخب الكينونة، ص79.
[5]– جمال نعيم، جيل دلوز وتجديد الفلسفة، ص399.
[6]– جيل دلوز، ما هي الفلسفة، ص122.