تقديم
تعتبر فرنسا من بين أكثر الدول الأوروبية انخراطاً في السجالات السياسية والدينية الدائرة حول تنظيم وإدارة شؤون الجاليات المسلمة على أراضيها، وتزايد اهتمام الجهات المعنية بهذا الملف الحيوي في السنوات الأخيرة بسبب عوامل كثيرة، يتقدمها تدفق المهاجرين الهاربين من النزاعات في الشرق الأوسط والدول الأفريقية إلى أوروبا، وتنامي الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الجمهورية الفرنسية. وقد أدى تصاعد اليمين الجديد والنزعات القومية والشعبوية في القارة العجوز إلى إضفاء المزيد من الضغط على المسلمين الفرنسيين والمؤسسات الإسلامية الممثلة لهم والسلطات السياسية، وسط السعي الدؤوب لــصناعة “إسلام فرنسي” منذ حوالي عقدين، يأتي ذلك كله في ضوء سجال واسع النطاق حول إمكانات التعايش بين مبادئ الجمهورية والإسلام.
يعرض كتاب المسبار الشهري “الإسلام في فرنسا: الإخوان، الإرهاب، المعالجة” (الكتاب الرابع والأربعون بعد المئة، ديسمبر/ كانون الأول 2018) لأبرز وجهات النظر والأفكار والمعالجات حول مشروع تنظيم “الإسلام الفرنسي” خصوصاً بعد هجمات باريس الدامية عام 2015، والتي فجرت الهواجس العامة والرسمية من تنامي ارتدادات الإرهاب والقلق المتصاعد على “قيم الجمهورية”.
حلَّلت الدراسات الدوافع الأكثر عمقاً لفهم المحاولات والمبادرات الفرنسية لادماج الجاليات المسلمة في مجالها وبيئتها الفرنسية، مبينةً أن “العلمانية الصلبة” لا تشكل وحدها القاعدة لانطلاق الميول “المعادية” لدى بعض المسلمين بسبب ما يتخذه الدين من أولوية في منظومتهم الإيمانية، إذ عملت جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة “الإخوان المسلمين” على بناء “عمقها” التنظيمي والمؤسساتي في فرنسا منذ سنوات طويلة، وهي تحاول استثمار “المظلومية الهوياتية” والدينية في “تمكين” وجودها داخل العقول، فتستند هي وحركات سلفية أخرى لاستراتيجيات في “الأسلمة السرية”. ولعل “الباعث الأصولي الإسلاموي” يشكل العامل الأشد خطورة على القيم والمبادئ الفرنسية، ليس بسبب طابعه التخريبي للهويات والاعتدال والتكيف الجماعي فحسب، وإنما لمنزعه الإرهابي، وقد سعى الكتاب إلى دراسة الكيفية التي عملت بها فرنسا لمواجهة الإرهاب.
تطرق الكتاب إلى الإخوان المسلمين في فرنسا ومشروعهم السري ومنطلقاته، ورصدت إحدى الدراسات الأسس التي تعتمد عليها الجماعة تحت ما يسمى “فقه الأقليات”، لإنشاء بيئة إسلامية يعيش فيها المسلمون، لكن بشرط التماهي معها، لذا فإنها تستهدف فئات مسلمة متنوعة من الطلاب والنساء والأطفال، وتنظم الفعاليات كافة (التربوية، الثقافية، الرياضية والسياسية)، بهدف حرف المسلمين عن مسارهم التطوري القابل للانسجام مع قيم الجمهورية الفرنسية.
اهتم الكتاب بتنامي تهديدات الجماعات المتطرفة ضد فرنسا، وسعي “الجهاديين” لاستقطاب الشباب المسلم للانضمام إليهم لجذبهم للتنظيمات الجهادية خارج البلاد، خصوصاً في المناطق التي تشهد نزاعات وحروباً، آخذاً بالاعتبار عمليات التجنيد الإرهابي عبر الفضاء الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي، وما ينجم عنهما من ظاهرة “الإرهاب الكامن” التي لا تحتاج إلى تنظيمات وتراتبية هرمية وتعبئة أيديولوجية مباشرة؛ فالعمليات الإرهابية الفردية باتت تهدد أمن العديد من الدول في العالم وكانت فرنسا الأكثر عرضة لها.
قد ترتبط بعض دوافع التطرف الإسلاموي في أوروبا بالبحث عن هوية، لا سيما بين أبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين؛ فقد أصبح الدين معياراً أساسياً عند فئات شبابية تعيش في مجتمعات أوروبية مدنية، لكن فقدان المرجعية الدينية لا يبرر بأي شكل من الأشكال الانعطافات الخطيرة تجاه العنف الأصولي الذي يهدد أمن الدول، ولا ينفي –أيضاً- أن ثمة معضلة كبيرة؛ نتيجة صعوبة الاندماج وتقبل المبادئ والقوانين المعتمدة واحترام الفضاءات العامة، تحديداً في الأنموذج الفرنسي الذي لا يتحمل الرموز الدينية.
خلص الكتاب إلى أن الوجود الإسلاموي الحركي الإخواني التنظيمي في فرنسا ربما يعتبر الأخطر على الأمن المجتمعي الفرنسي؛ فمنظرو الإسلام السياسي إضافة إلى ما يقدمونه من قراءة متشددة للإسلام، يتبنون خطاباً براغماتياً في الظاهر، انقلابياً في عمقه وبنيته، وسعوا طوال عقود لبناء قاعدة صلبة لهم، متجاهلين خصوصية المجتمعات ومسار تطورها.
عمل الكتاب على تحليل وفهم هذه القضايا المحورية، مسلطاً الضوء على تاريخ النضال الفرنسي في سبيل إحقاق قيم ومبادئ الجمهورية، ودارساً المسار التاريخي والتطوري الذي وصلت إليها محطات تشكيل “الإسلام الفرنسي” ليس على مستوى الخطاب السياسي والثقافي فحسب، بل أيضاً في تحديد الرؤى والمحاولات والآليات التنفيذية وعلى رأسها تأهيل أئمة المساجد، وتشديد الرقابة على التمويل المالي للمنظمات الإسلامية وإعادة هيكلة الإسلام في فرنسا، ضمن منظور يقف على أرضية “ما بعد العلمانية”.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل ماهر فرغلي الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهده وفريق العمل.