تعرف إيران، جغرافياً وتاريخياً، بتعدد الأديان والقوميات والأعراق، وتعد من بين الدول الأكثر إثارة للسجال السياسي والحقوقي في الكيفية التي تتعامل بها الحكومات المتعاقبة فيها، منذ نجاح الثورة الخمينية عام 1979، مع قضايا الأقليات القومية غير الفارسية، بسبب سياسة التمييز السلبي تجاه المكوِّنات الاجتماعية الأخرى، التي تشكل جزءاً أصيلاً من تاريخ البلاد على مر العصور.
يتناول كتاب المسبار الشهري «القوميات في إيران وإكراهات الهوية المركزية» (الكتاب الخامس والأربعون بعد المئة، يناير (كانون الثاني) 2019) التعددية القومية في إيران، والتي تضم الفرس والأذريين والأكراد والبلوش والبختيارية واللرية. تقدم الدراسات رصداً للتركيبة السكانية وتوزيعها القومي والجغرافي، مع عرضٍ لمختلف الصعوبات التي تعترضها من ناحية التمثيل السياسي والحقوقي، ولصراعها مع استراتيجية إكراه الهوية التي تنتجها السلطة الحاكمة في إيران، ليس في التاريخ المعاصر فحسب بل في فترات تاريخية أبعد. وقد أخذ الكتاب على عاتقه تحليل إشكاليات الشرعية والدمقرطة والأزمات الإقليمية وأثرها على القوميات غير الفارسية، بهدف درس انعكاساتها على شكل الدولة الإيرانية وسبل تعاملها معها.
إن نهج التمييز السلبي الذي أرساه «النظام الخميني» في تعاطيه مع القوميات غير الفارسية، فجر احتجاجات شعبية في العديد من المناطق الإيرانية، لا سيما في منطقة الأحواز التي شهدت تظاهرات احتجاجية واسعة عام 2018، علماً أن الثورات المطلبية للأحوازيين وغيرهم ليست بالجديدة، وتركزت على المسائل التنموية والاقتصادية، وذلك في ضوء سوء الأوضاع الاقتصادية وانعدام الخطط الإنمائية، خصوصاً مع تجديد العقوبات الأمريكية على إيران على خلفية ملفها النووي.
عمل الكتاب على دراسة القوميتين اللرية والبختيارية، وهما مجموعتان عرقيتان غير فارسيتين تعيشان غرب وجنوب غرب إيران، لا يوجد إحصاء دقيق لعددهم، فثمة تضارب في التقديرات نظراً لغياب الإحصائيات الرسمية. تُطرح فرضية تفيد بأن البختياريين هم مجموعة فرعية من القومية اللرية لغةً وثقافةً وأسلوباً في العيش المشترك. فبسبب تداخل مناطق العيش والارتباط الثقافي والقبلي تتحدث كلتاهما اللغة اللرية التي يعتبرها القوميون الفرس لهجة ريفية أو بدوية للغة الفارسية.
أما البلوش فهم من أبرز القوميات في إيران، يخوضون –حسب إحدى دراسات الكتاب- صراعاً منذ عقود ضد النظام، حیث لا يعترف بحقوقهم القومیة مثل الحق في التعلیم باللغة الأم، كما تمارس السلطة المركزية تمییزاً دینیاً ضد أهل السُنة منهم. للبلوش جمیع ما یمیزهم كقومية، مثل عناصر التاریخ الواحد واللغة والثقافة المشتركتین، وكذلك الجغرافیا. وقد عرف الإقلیم الذي سكنه البلوش سلسلة اضطرابات قومیة منذ تقسیمه بواسطة بریطانیا في القرن التاسع عشر، وأخذ صراعهم في إیران منحى تصاعدیاً بعدما تبنت الحكومات المركزیة في العهدین البهلوي والجمهوریة الإسلامیة سیاسات معلنة تستهدف هویتهم ووجودهم في الإقلیم بتنفیذ سیاسات «التفریس»، من خلال المدارس والقوانین المحلیة، ومحاولات التغییر الدیموغرافي لصالح غیر البلوش.
أولَى الكتابُ اهتماماً للقومية التركية في إيران في مجالات عدة، مركزاً على المجالات القومية والثقافية والحقوقية والإنسانية. أما الأحواز الذين يعانون من تمييز حاد، فقد تطرق الكتاب إلى تاريخهم وحقوقهم، آخذاً بالاعتبار حجم الضغوط التي تمارس عليهم، لا سيما في السنوات الأخيرة.
عرفت الدراسات حول القوميات في إيران، تطوّراً نسبياً نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية، وهذا يطرح تحديات كبيرة تتفاقم مع حجم الضغوط السياسية والاقتصادية التي تواجه إيران، بسبب الطموحات الإقليمية وبناء النفوذ داخل المناطق التي تعتبر الخواصر الرخوة، عربياً وشرق أوسطياً. ومن الناحية التاريخية ساهم استبداد السلطة في العهد «الجمهوري الإسلامي» في ترسيخ الاستعلاء الفارسي والمذهبي وإعلاء الشعور القومي للفرس، مما أدى إلى رفع منسوب المظلومية لدى القوميات الأخرى التي تعاني من التهميش على مستويات عدة، لا سيما على المستويين التمثيلي والاقتصادي.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلين جمال عبيدي وإبراهيم أمين نمر اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدهما وفريق العمل.
هيئة التحرير
يناير (كانون الثاني)2019