امتازت فلسفة هيدغر الوجودية بتفجيرها لمجموعة من المفاهيم في أرض الفلسفة الحديثة، تجاوز تأثيرها حدود الفلسفة الوجودية، وإنما أثرت في ميادين ومجالاتٍ وفلسفاتٍ أخرى وهذه طبيعة المفاهيم، وكما أثرت فينومينولوجيا هوسرل أشد التأثير على هيدغر، فإن مفاهيم هيدغر أثرت على جيل كامل بعده من فلاسفة الاختلاف.
مهمة هيدغر تمثلت بأمر محدد: “كشف معنى الوجود” وبالتحديد وجود الإنسان. بدأ بوضع خصائص أساسية لتمييز وجود الإنسان تتلخص بالآتي: 1- أن وجوده لا يشبه وجود الشيء، لأن قانونه عدم التعيين بمعنى أنه غير ثابت، بل متغير من فردٍ إلى آخر. 2- أن وجود الإنسان مشروع ذاته باستمرار، بمعنى أنه ينبوع للإمكانات، وعلى استعداد لتحقيقها، وعليه فإن آنيَّته مستمرة. 3- الحرية، فآنية الإنسان حرة، فأنا الذي أقرر طريقة وجودي بنفسي، وهكذا فإنني أختار وجودي ومسؤوليتي عن خياراتي وذاتي.[1]
يعتبر هيدغر أن: “ماهية الإنسان جوهرية بالنسبة إلى حقيقة الوجود”، لذلك ينطلق من مفهومه العتيد الدازاين (Dasein) بالألمانية، ويشرحه عبدالرحمن بدوي بقوله أي: “الوجود في العالم، وهذه العبارة لا تشتمل فقط على المعنى المكاني، بل وأيضاً وخصوصاً المعنى الأنطولوجي، وهذا الوجود الإنساني عام بين الناس جميعاً، وإن بدأت تجربتي من وجودي أنا الخاص بي، ومهمة التحليل الأنطولوجي ستكون –إذن- الكشف عن الوجود الإنساني بعامةٍ، التراكيب الجوهرية للإنسان هي تلك التي تلزمه ككل، فعلى التحليل الأنطولوجي أن يتناول –إذن- كل أحوال وجود الآنية (الدازاين)”[2].
والدازاين لدى هيدغر يعني الوجود الراسخ والمستمر والمتجدد، فهذه خاصيّة وجود الإنسان عن بقية الموجودات، وقد خصص الفصل الأول من كتابه “الكينونة والزمان” للحديث عن هذا المفهوم وعنونه بـ”في عرض المهمة المتعلقة بتحليل تمهيدي للدازاين”، بينما الفصل الثاني بعنوان: “في الكينونة -في العالم بعامةٍ من حيث هي هيئة أساسية للدازاين”. ويمكن اختيار فقرات تضيء وتكشف غموض المفهوم الذي بات يترجم كما هو بالعربية غالباً باعتبار حمولته لا يمكن تلخيصها بترجمة حرفية دالّة، وإن كان مطاع صفدي ترجمها بـ”الموجود هناك”[3] ورأينا عبدالرحمن بدوي ترجمها لـ”الآنية”، ولكن لنقرأ بعض توضيحات هيدغر من كتابه.
في مبحث تحليلية الدازاين يقول هيدغر: “إن الكائن الذي صار تحليلُه مهمة برأسها، نحن أنفسنا نكون في كل مرةٍ، وإن كينونة هذا الكائن هي لي في كل مرة، ومن شأن كينونة هذا الكائن أنه يتعلق هو ذاته بكينونته. ومن جهة ما هو كائن هذه الكينونة فهو مسلّم إلى كينونته التي تخصه، إن الكينونة هي ما يتعلق به الأمر بالنسبة إلى هذا الكائن ذاته في كل مرة”[4].
هنا يشير هيدغر إلى سيولة الكينونة المستمرة، بمعنى استعصاء حصرها لأن المقصود بها الكائن بما هو ممارس لوجوده، وليس بمن هو أو ماذا هو!
لم تغب هذه عن تحديد هيدغر لمفهومه إذ يستدرك: “إن ماهية الدازاين تكمن في وجوده، وإن الطباع التي يمكن استخراجها لدى هذا الكائن ليست بذلك خصائص قائمة لكائنٍ قائم في الأعيان بادٍ على هذا النحو أو ذاك [5]، بل هي وجوه ممكنة في كل مرةٍ لأن يكون ذلك فحسب، فكل كينونةٍ على هذا النحو أو ذاك من شأن هذا الكائن هي منذ أول أمرها كينونة، بذلك لا تعتبر لفظة دازاين التي نشير بها إلى الكائن عن ماذا هو مثل المائدة والدار والشجرة، بل عن = الكينونة”[6].
فالكائن لديه ليس شكلاً وما هو بمثالٍ أو حال، بل إن كينونته وممارسته لوجود تخلهُ له في كل مرةٍ “أنا” تعنيه، ولذلك فهو في حالة كينونةٍ دائمة، فالدازاين في كل مرةٍ له ضميره وأناه.
وبينما ينتقد هيدغر كلاً من هوسرل ودلتاي وشيلر ببضع صفحات، وخلاصة اعتراضه أنهم بحديثهم عن الشخص وأفعاله باعتباره مفهوماً، ولم يتطرقوا إلى النقاش العميق حول “كينونته” كما ينقض فكرة “التعالي” ذات الجذر الدوغمائي المسيحي التي لم تر مرةً واحدةً أن في كينونة الإنسان مشكلةً أنطولوجية.
باختصار فإن الدازاين والكينونة أدوات أساسية في ترسانة هيدغر المفهومية، بهما وضع أسس فلسفته الوجودية، ومن أقواله الكاشفة: “إن الحياة ضرب خاص من الكينونة، لكنه ليس يولج إليه إلا في الدازاين”[7].
[1] عبدالرحمن بدوي، الموسوعة الفلسفية، الجزء 2، ص597 (بتصرف).
[2] المرجع نفسه.
[3] كما في شروحاته لفلسفة هيدغر في كتابه: “استراتيجية التسمية”.
[4] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، الصفحات من 111 حتى 145. ترجمة: فتحي المسكيني.
[5] أي شكلاً وصورةً ضمن ثبات.
[6] المرجع نفسه،ص112.
[7] المرجع نفسه، ص125.