-1-
يرتبط وجود القانون بوجود مجتمع، أي بوجود حالة فوق بدائية من الاجتماع البشري تتوافر على حد أدنى من الوعي بفكرة النظام، سواء وجدت الدولة أو لم توجد، وسواء وجد الدين أو لم يوجد. لكن فرضية غياب الدولة أو الدين تبدو بعيدة عن الواقع المرئي بسبب الاشتباك التاريخي الطويل بين المجتمع والدولة من جهة، والمجتمع والدين من جهة ثانية.
وبسبب هذا التشابك تظهر علاقات التقاطع المركبة بين القانون والدولة والدين.
تاريخيًا، تمثل الدولة درجة متقدمة نسبيًا في تطور المجتمع الخام. وهي نشأت أصلًا عن هذا المجتمع كمنتج أخير لعمليات تطور متتابعة كي تعبر عن حالة اجتماعية أكثر تعقيدًا، وأكثر وعيًا بفكرة النظام. وهي الفكرة التي لا تزال تقدم الدولة كضرورة موضوعية لازمة لبقاء المجتمع بما هي ضامنة للقانون، أو بما هي حسب تعريف هانز كلسن ” وصف آخر وبسيط للنظام القانوني”.
على مدى زمني طويل من تاريخ التدين، لم يدخل القانون في بنية الدين، التي ظلت تشير بالأساس إلى ممارسات طقوسية، ومضامين روحية مشربة بوعي أخلاقي عام. وعلى الرغم من أن الغرض التوجيهي للأخلاق يجعل منها ” قانونًا” بالمعنى الكلي الواسع، يظل الفارق واضحًا بين المبدأ الأخلاقي والقاعدة القانونية التي تشير إلى حكم تفصيلي مشمول بسلطة زجر خارجية تكفل تنفيذه عند الاقتضاء.
-2-
مع اليهودية أصبح القانون، بشكل صريح، جزءًا من بنية الديانة. وهي الظاهرة التي تكرست بفعل السياقات التاريخية التي نشأت وتطورت فيها هذه الديانة، والتي عكست الأغراض السياسية الإثنية لتجربة الدين العبري وكرست طابعها الثيوقراطي. كانت مفردات الديانة بما في ذلك الشريعة تعمل لصالح جماعة سياسية تبحث لنفسها بإصرار عن هوية مستقلة وسط محيط ديموغرافي ضيق ومزدحم. الشريعة التي احتلت مكانة مركزية في بنية الديانة ساهمت في تثبيت هذه الهوية وتغذية الربط بينها وبين الديانة كعلاقة ملكية ذات نفس قومي.
ظلت نصوص العهد القديم تكشف عن مضمونها السياسي الاجتماعي، وهي تدور حول الشعب العبري ككيان جماعي متمايز، يجب الحفاظ على نقائه باتباع الشريعة. وفي هذا السياق ظهرت عمليات تنصيصية موجهة كالإعلان المفاجئ من قبل الكهنة في القرن السابع عن اكتشاف وثائق ناموسية (تشريعية) ترجع إلى عهد موسى ( سفر الشريعة الذي سيصبح سفر التثنية) لتثبيت الشريعة في مواجهة ظروف سياسية وثقافية غير مواتية.
لقد لعبت الشريعة – ضمن خصائص أخرى في التجربة العبرية- دورًا مؤثرًا في تكريس الدين تاريخيًا كنسق تكليفي جمعي، أي كمظلة سلطة شمولية، على حساب الروح الإيماني وخصوصية الذات الفردية.
وبطابعها التشريعي القومي ظلت اليهودية في حالة صدام متواصل مع الدولة، أعني سلطة الدول التي تعاقبت في السيطرة على شرقي المتوسط من مصرية وآشورية وبابلية ويونانية ثم رومانية. ظهرت فكرة المعارضة النشطة أو المقاومة، التي كانت ترمي إلى تثبيت الطابع العبري مقابل الثقافات والديانات الأجنبية. الأمر الذي أغلق الباب أمام أي فرصة للاندماج او للانتشار كما سيحدث لاحقًا مع المسيحية التي انتقلت إلى المحيط الروماني اليوناني الواسع، حيث ستظهر إشكاليات ذات طابع مختلف في علاقات الدين والدولة والقانون.
-3-
ظهرت المسيحية كانشقاق يهودي داخلي. وعلى الرغم من الطابع الروحي المناهض لشكلانية الفريسيين، أعلن المسيح عن تمسكه بالشريعة واستشهد بنصوص الناموس: “لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء، ما جئت لأبطل بل لأكمل” (متى 5:17). لكن المسيح لم يعط الأولوية للشريعة حين تصطدم بقانون الدولة، فعندما سئل عن جواز أداء الجزية إلى قيصر حسب القانون الروماني أجاب بقوله: “أدوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ( متى 22:15-21).
سيجري تصعيد هذا الموقف على يد بولس، ليشكل واحدًا من الفوارق التي كرست المسيحية كديانة مستقلة عن اليهودية. أعلن بولس بوضوح أن الشريعة ليست هي من صلب الدين، كي يصير بإمكان الوثنيين أن يكونوا مسيحيين” فنحن نعتقد أن الإنسان يتبرر بالإيمان، لا بالعمل بأحكام الشريعة. لأن الله واحد يبرر اليهود بالإيمان كما يبرر غير اليهود بالإيمان” (رومه 3:28-31).
بالانتقال إلى المحيط السياسي الروماني كانت الديانة الجديدة تواجه دولة ذات قوة طاغية تستطيع فرض حضورها التشريعي. وكان بولس بحاجة إلى التخفف من القيود العبرية ليتسنى له طرح ديانته القائمة على فكرة التجسد الإلهي، وهي فكرة أيسر تقبلًا خارج الوسط اليهودي، ولذلك اعتبر بولس أن الوثنيين الذين اهتدوا إلى الإيمان كانوا أكثر صلاحًا من الذين سبق لهم معرفة الناموس.
كان ذلك يعني نظريًا استبعاد الشريعة من وظائف الدين لتسند عملية التنظيم الاجتماعي التفصيلي إلى الدولة، التي يجوز أن تشتغل في هذا المجال بعيدًا عن الدين. وهذا معنى الإقرار بالعلمانية في المسيحية النظرية المبكرة.
لكن استبعاد الشريعة لم يؤد الى تقليص الحضور الجمعي للدين كسلطة ذات طابع شمولي، بسبب تبلور “المؤسسة الدينية” التي ظلت تشتغل على الطقوس واللاهوت، وفرضت نفسها كسلطة موازية لسلطة الدولة القائمة؛ للدولة مملكة “القانون” وللكنيسة مملكة “الروح”.
بعد تحول الدولة الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع لن تتغير الوضعية الازدواجية، لكن سلطة الكنيسة ستتفاقم تدريجيًا طوال العصور الوسطى، لتهيمن على المجال العام خصمًا من صلاحيات الدولة.
منحت الكنيسة نفسها صلاحية إصدار قوانين نافذة داخل مساحة السلطة التقليدية للدولة، وصارت المسيحية تتوافر –عمليًا- على نوع من القانون الديني أو الشريعة بالمعنى الضيق.
عند أواخر العصور الوسطى كانت الازدواجية تكشف عن مظاهرها الإشكالية الفادحة، التي مزقت الفرد والمجتمع المسيحي بين سيادتين “مشروعتين” متنازعتين. وهي المظاهر التي مثل النقاش حولها صلب الجدل في الفكر السياسي والقانوني، الآخذ في التخفف من وصاية اللاهوت منذ بدايات النهضة: تحت ضغط التطور العام، أعيد النقاش على نطاق واسع حول علاقة الدين والدولة، وموقف القانون منهما.
انطلق النقاش من أرضية دينية مباشرة، وداخل أوساط لا تقطع كليًا مع الطرح الديني:
في أدبيات الإصلاح البروتستانتي المبكرة الموجهة ضد سلطة البابا، جرى تقليص صلاحيات الكنيسة لصالح الدولة المدنية استنادًا إلى نصوص الكتاب. وكتب لوثر: “ما الإجراء الملائم بالنسبة لنا هذه الأيام في مسألة الزواج والطلاق؟ لقد قلت: إن ذلك يجب أن يترك للقانونيين، ويخضع للحكومة الدنيوية. لأن الزواج هو بالأحرى شيء دنيوي وخارجي له صلة بالزوجة والأولاد والمنزل ومسائل أخرى تنتمي إلى مجال الحكومة تخضع كلها للعقل. ولذلك علينا ألا نتحرش بما تقرره الحكومة والأشخاص الحكماء ويفرضونه على أساس القوانين وأساس العقل. إن المسيح لا يعمل هنا (متى 5: 31-32) من حيث إنه محام أو حاكم، أي إنه لا يضع أو يفرض أي تنظيم للسلوك الخارجي”. (شتراوس، تاريخ الفلسفة السياسية، ج1، ص 208-209، الترجمة العربية، القاهرة، 2016).
وعلى الأرضية الإصلاحية ذاتها أصدر ريتشارد هوكر (1553-1600) كتابه الهائل “قوانين النظام الكنسي” الذي كان بمثابة نقد مباشر “للموقف البيورتاني المتطرف الذي يقول: إنه لا يوجد سوى قانون واحد حقيقي هو قانون الله الذي يجب أن يوجد مصاغًا بصورة جلية في الكتاب المقدس والذي يحكم الحياة كلها”، فالغرض الأساسي للكتاب المقدس -حسب هوكر- هو أن يعلم الواجبات التي تجاوز النظام الطبيعي، لكن الحياة الإنسانية تقوم أيضًا على النظام الطبيعي، وواجبات النظام الطبيعي تكتشف عن طريق العقل.
مع تواصل حركة التطور العام تمدد النقاش إلى دوائر الفكر “التنويري” المناهض للموقف الديني، والذي تصدى للبحث لا في قابلية الدين لامتلاك القانون فحسب، بل في مصداقية الموقف الديني من حيث المبدأ وجدارته بالبقاء. وسنفهم من ذلك كله أنه منذ البداية وطوال الوقت، كان “المجال الديني” يتحدد بفعل الواقع وقوة الاجتماع السياسي، بغض النظر عما يمكن اعتباره مبادئ نظرية مبكرة مستمدة من النصوص.
ففي النهاية فرضت حركت التطور على الكنيسة أن تتراجع أمام الدولة، لتتخلى عن صلاحيتها السياسية القانونية. أي لتقر بالفكرة العلمانية. وعلى الرغم من أن تراجع الكنيسة كان اضطراريًا ومتأخرًا، فإنها أعادت تكييف نفسها مع مفاهيم الدولة الحديثة، وعادت للحديث عن توافق أصلي بين الفكرة العلمانية والمسيحية النظرية المبكرة. ومن هذه الزاوية صارت الكنيسة الكاثوليكية تطرح المسيحية كدين حداثي يفصل بين المجال السياسي والمجال الديني، مقابل الإسلام كدين شمولي يقوم على شريعة جامدة تخنق الحياة الاجتماعية والسياسية ويمنعها من التطور… يتبع.