اتجه العديد من المراقبين والمحللين إلى تقديم مقاربات لفهم صعود “القومية الحديثة”، الظاهرة التي صعدت خلال السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة وأوروبا وبعض المناطق الأخرى في العالم. ويرتبط هذا الاتجاه بعدد من المظاهر، مثل صعود الشعبويات، والأصوات المنادية إلى مناهضة العولمة، ومعاداة الأجانب، ومقاومة مظاهر الليبرالية العالمية من قيم ومؤسسات وتوجهات. وفي ظل أهمية هذه الإشكالية ألقي الضوء على تقرير نشر تحت عنوان (أعلام كاذبة: أسطورة النهضة القومية)[2] ضمن العدد الصادر عن مجلة (فورن أفيرز) الأمريكية لشهر مارس (آذار)/ أبريل (نيسان) 2019 الذي ناقش (القومية الحديثة).
إن تنامي أصوات بعض دارسي الظاهرة، الذين قاموا بربط صعود الشعبويات، بحاجة الأفراد في الاعتراف بهوياتهم الخاصة واحترامها، نتيجة لتجليات العولمة، هو تفسير معيب للحظة الحالية.
لسوء الحظ، لم يتمكن الشعبويون من إقناع مؤيديهم فقط، وإنما معارضيهم أيضًا، بأنهم يستجيبون للتطلعات القومية العميقة بين الأفراد العاديين. كلما آمن الليبراليون والمدافعون عن الليبرالية بروايات الشعبويين، سمحوا لخصومهم بتشكيل النقاشات السياسية. ومن خلال القيام بذلك، تساعد الأحزاب والمؤسسات من يسار الوسط ويمين الوسط على تحقيق الشيء الذي يتجنب الليبراليون تحققه: المزيد من المجتمعات المغلقة، وتعاون عالمي أقل لمعالجة الإشكاليات المشتركة.
يُفهم القادة الذين يوصفون بـ”القوميين” على نحو أفضل على أنهم من الشعبويين الذين حصلوا على الدعم من خلال الاعتماد على خطاب القومية وصورها. ما شهدته السنوات القليلة الماضية ليس صعود القومية في حد ذاتها، بل مثَّل صعود متغير واحد منها: وهو الشعبوية القومية.
غالبًا ما يتم الخلط بين “القومية” و”الشعبوية”، لكنهما يشيران إلى ظواهر مختلفة. تعد الشعبوية اختصارا لانتقاد النخبة، وصحيح أن الشعبويين عندما يكونون في المعارضة ينتقدون الحكومات القائمة والأحزاب الأخرى، لكن الأهم من ذلك هو ادعاؤهم بأنهم يمثلون وحدهم ما يسمونه عادةً “الشعب الحقيقي” أو “الأغلبية الصامتة”. هكذا يعلن الشعبويون أن جميع المتنافسين الآخرين على السلطة غير شرعيين. لا تُهاجم الشعوبية مجرد النخب والمؤسسات، بل تهاجم أيضًا فكرة التعددية السياسية، إذ تصبح الأقليات الضعيفة أولى ضحاياها.
الشعوبية ليست عقيدة؛ هي أشبه بالإطار. وعلى جميع الشعوبيين ملء الإطار بمحتوى يشرح من هم “الأشخاص الحقيقيون” وماذا يريدون. ويمكن أن تعتمد على أفكار من اليسار أو اليمين. منذ أواخر التسعينيات وحتى وفاته عام 2013، ابتكر الزعيم الفنزويلي هوجو تشافيز “اشتراكية كارثية” للقرن الحادي والعشرين في بلده، ودمر اقتصادها، وقام بشيطنة جميع خصومه.
يعتمد الشعبويون اليمينيون اليوم على الأفكار القومية، مثل عدم الثقة بالمؤسسات الدولية (حتى لو انضمت الدولة إلى هذه المنظمات طوعيا)، والعداء لفكرة تقديم مساعدات تنموية إلى دول أخرى. غالبا ما ترجع هذه المعتقدات إلى القومية، كما هو الحال عندما يُروج الشعبويون القوميون إلى الفكرة القائلة بأنَّ المواطنين المولودين في موطنهم الأصلي فقط يحق لهم الحصول على وظائف واستحقاقات. كل الشعوبيين اليمينيين في الوقت الحاضر هم قوميون.
بالنسبة لبعض المراقبين، يبدو أنَّ الشعبويين القوميين قد استفادوا من ردود الفعل ضد العولمة وزيادة التنوع الثقافي. على الرغم من أنَّ النقاد غالباً ما يتهمون الشعبويين بتقديم تفسيرات مبسطة، فإن هؤلاء النقاد الذين يتمسكون بهذه التفسيرات لصعود الشعبوية، يقومون بتضخيم القصص المشبوهة التي يرويها الشعبويون القوميون حول نجاحهم. كما أنَّ الشعبويين القوميين لا يمثلون -في الغالب- أغلبية صامتة بل أقلية. إنهم لا يصلون إلى السلطة لأن أيديولوجيتهم تمثل قوة تاريخية لا يمكن وقفها. بل إنهم يعتمدون على رغبة يمين الوسط في التعاون معهم، أو أنهم يفوزون عن طريق إخفاء نواياهم.
التمثيل هو عملية ديناميكية، تتأثر فيها تصورات المواطنين وهوياتهم -بشكل كبير- بما يرونه ويسمعونه ويقرؤونه: الصور والكلمات والأفكار التي ينتجها ويوزعها السياسيون ووسائل الإعلام والمجتمع المدني وحتى الأصدقاء وأفراد الأسرة. الديمقراطية الحديثة هي طريق ذو اتجاهين، لا تعكس فيه الأنظمة التمثيلية المصالح والهويات السياسية فحسب؛ إنها تسهم في تشكيلها كذلك.
لقد استفاد الشعبويون الوطنيون استفادة كبيرة من هذه العملية، إذ تبنت المنظمات الإعلامية والعلماء تأطيرها وخطابها، مما أدى إلى التصديق على رسائلهم وتضخيمها. يمكن للمرء أن يفهم -على سبيل المثال- قرار الحكومة الفرنسية الأخير برفع الضرائب على الوقود وإدخال قيود أكثر صرامة على السرعة في الريف، وهي الخطوات التي حفزت حركة احتجاج “سترة صفراء”، مما يدل على عدم احترام “طريقة الحياة” في المناطق الريفية والحضرية الغنية. لكن التفسير الآخر هو أنَّ الحكومة الفرنسية فشلت ببساطة في عدالة التوزيع، وليس في الاعتراف الثقافي.
افترض الصحفيون والمحللون أنَّ العديد من الناس -وخاصة كبار السن من البيض- يشعرون بعدم احترامهم. من الصعب التأكد من عدد الأشخاص الذين واجهوا عدم الاحترام بشكل مباشر. ولكن يقال –تقريبا- في وسائل الإعلام بشكل متكرر لملايين الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي: إنهم يشعرون بعدم الاحترام.
من خلال طرح جميع القضايا من الناحية الثقافية، سيبدأ المزيد والمزيد من الناس في فهم أنفسهم ومصالحهم ضمن هذه الظروف.
تفوق عليهم، لا تنضم إليهم
هناك صراعات عميقة ومشروعة حول التجارة والهجرة وشكل النظام الدولي. يجب على الليبراليين ألا يقدموا وجهات نظرهم بشأن هذه القضايا باعتبارها بديهية أو مربحة؛ لكن يجب عليهم أيضًا ألا يتبنوا خطاب الشعوبيين، والسياسيين الانتهازيين من يمين الوسط، والأكاديميين الذين يقومون بشرح وجهات نظر كراهية الأجانب باعتبارها أعراضاً للقلق الاقتصادي. إنَّ القيام بذلك سيقود الليبراليين لتقديم تنازلات وقائية تخون مُثُلهم.
في الختام
لفت المقال إلى صعود الشعبويات اليسارية واليمينية، لكنه ركز على الأخيرة، وربط صعود الشعبويات اليمينية بالقومية، معتبرًا أنَّ جميع الشعبويين اليمينيين في الوقت الحاضر قوميون. وفي تحليله للظاهرة بالعموم، يبدو أنَّ الكاتب قد بنى معظم تحليله منتقدا لطرح فرانسيس فوكوياما الأخير حول سياسات الهوية، إذ جادل فوكوياما في كتابه الأخير تحت عنوان (الهوية: الحاجة إلى الكرامة وسياسات الاستياء)، بأنَّ صعود القومية الشعبوية يرتبط برغبة الأفراد في الاعتراف بهوياتهم وكرامتهم الإنسانية واحترامها، في ظل قلقهم المتنامي من العولمة. انتقد الكاتب هذا الطرح، وإن النقطة الأساسية في طرحه، لا تتنافى مع وجود صراعات تأخذ منحى ثقافياً، تتعلق بالهويات، التي اعتبرها الكاتب صراعات حقيقية ومشروعة، بالرغم من ترويج الشعبويين لها. إلا أنَّ النقطة المهمة كما يراها، هي التوجه السريع إلى الثقافة والهوية لتفسير السياسة؛ وبهذه الطريقة فإن المحللين يدعمون ما يقوم به الشعبويون.
ركز الكاتب في طرحه على عامل آخر، وهو دور الإعلام في بلورة وتضخيم حجم الظاهرة. وفي سياق فهم هذه الظاهرة المركبة، من المهم تناول مستويات عدة في التحليل. أتفق مع الكاتب في المنحى السياسي الذي اتخذه في فهم الظاهرة، وأشير هنا –على سبيل المثال- إلى اتجاه آخر يُشير إلى التغيرات في النظام الدولي، الذي يمر في مرحلة انتقالية، يرى هذا الاتجاه أنَّ هناك اضطرابات ناجمة عن هذه المرحلة، كما عبر عنها السياسي الأمريكي ريتشارد هاس، في مقاله الأخير، الذي أرجع ظهور اضطرابات كثيرة، من ضمنها صعود النزعة القومية والشعبويات، إلى انتهاء النظام القديم ودخول العالم في ما أسماه مرحلة من الفوضى العميقة، وحالة من التدهور، التي اعتبر أنها ستنتهي في حال قامت الدول ببناء نظام دولي ديمقراطي جديد، بضم القوى الوسيطة الآسيوية والأوروبية وكندا كذلك، التي اعتبرها دعوة طموحة لكنها ملحة[3].
في الختام، يصعب تجاوز المسببات المتعلقة بالعوامل الداخلية والخارجية في الدول فضلا عن الهويات، والاقتصاد، والتكنولوجيا، وبنية النظام الدولي، ناهيك عن الدور الكبير للكراهية المتنامية التي تنتشر بسهولة كبيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
[1]– باحثة في العلاقات الدولية تعمل في مركز المسبار للدراسات والبحوث
[2]– Jan- Warner Muller, “The Myth of Nationalist Resurgent,” Foreign affairs, https://www.foreignaffairs.com/articles/2019-02-12/false-flags?fa_package=1123876
[3]– Richard Hass, “How a World Order Ends and what comes in its wake,” Foreign Affairs, https://www.foreignaffairs.com/articles/2018-12-11/how-world-order-ends