-1-
العلاقة بين القانون والأخلاق هي المسألة الرئيسة التي يدور حولها الجدل في فلسفة القانون. بحسب المذهب الوضعي، لا تدخل الأخلاق في مفهوم القانون الذي يجب ألا يتضمن عناصر خارجية. القانون ما هو إلاّ مجموعة من القواعد التي تضعها سلطة مختصة، وتحظى بقوة سريان فعلي. وبعبارة كلسن: “يمكن لأي محتوى يُرغب به أن يكون قانونًا” دون حاجة إلى التحقق من كونه عادلًا أو غير عادل.
في المقابل يتبنى المذهب الطبيعي فرضية الربط بين القانون والأخلاق، بحيث تكون القاعدة القانونية مشروعة عندما يتوافق مضمونها مع الأخلاق، أو مع مبادئ القانون الطبيعي المشتركة في الوعي الإنساني. ويسري ذلك على مجمل النظام القانوني الذي يجب أن تقوم أحكامه على قيم العدالة والإنصاف.
يتكئ المذهب الوضعي، أساسًا، على البعد الإجرائي العملي في تعريف القانون، وهو يتعاطى معه كعلم وصفي يتعلق بالواقع، لا كعلم معياري يستهدف القيم.
من وجه النظر الوضعية لا يغير الاحتجاج الأخلاقي من واقع القانون الجائر، وكما يشرح هورستر: “لن نستطيع بمجرد تعريف مفهوم ما أن نغير الواقع. إن القانون الصادر في إطار النظام القانوني النافذ والمشكوك فيه أخلاقيًا -سواء اعتبره فلاسفة القانون صحيحًا أم لم يُعتبر كذلك- يحوز بمعزل عن عدم عدالته صفات مجملة كتلك التي يحوزها القانون الأخلاقي السليم: فقد سن وشرع بناء على الدستور النافذ، كما أنه طبق من قبل الدوائر المختصة، ومن يرفض الخضوع له لعدم أخلاقيته، فعليه أن يضع في الحسبان النتائج القانونية الناجمة عن خرق القانون”.
يرفض المذهب الوضعي ما يعتبره نتيجة ضرورية للمذهب الطبيعي وهي أن “النظام الاجتماعي الأخلاقي فقط هو القانون” وينتهي كما يشرح كلسن إلى أن “النظام في تطبيقه الواقعي من خلال القانون السائد في مجتمع معين يؤول إلى مشروعية صحيحة للنظام الحكومي الملزم الذي أنشأه هذا المجتمع.
في هذا السياق يستند الاتجاه الوضعي على الاعتبارات العملية التي تلفت إلى المخاطر الاجتماعية القانونية التي تنتج عن نزع الشرعية عن قانون سارٍ، قبل اللجوء لمعيار قانوني (سارٍ بدوره) لتغيير القانون أو تعديله. سيعني ذلك، في أبسط صوره، تعميم سلطة الحكم، أي إلغاء مفهوم الاحتكام المحايد، الذي توفره سلطة القضاء.
وعلى الرغم من أن المخاطر الاجتماعية القانونية يمكن أن تنتج عن غياب العدالة (وإن على مستوى أبعد نسبيًا) مثلما تنتج عن إباحة الخرق العشوائي للقانون، فإن هذه الحجة -فيما يبدو- تشتغل بشكل أوضح لصالح الاتجاه الوضعي مقابل الاتجاه الطبيعي، الذي لا ينكر فكرة “النظام” كمطلوب اجتماعي سياسي تسانده السلطة.
-2-
لا تنكر المدرسة الوضعية وجود قانون إلهي، وبحسب أوستن -وهو المؤسس الحقيقي لهذه المدرسة في القرن التاسع عشر- التقسيم الأساسي في القانون هو بين: القانون الإلهي والقانون الإنساني، وينقسم الأخير إلى القانون الوضعي والأخلاق الوضعية. ولا يعني ذلك أن فلسفة القانون تناقش مصداقية القانون الإلهي كموضوع للإيمان، بل يعني الإقرار بوجوده كضابط اجتماعي ينطبق عليه وصف القانون. وهو ما ينطبق على الأخلاق، فكل هذه الضوابط تتضمن أوامر وواجبات من طبيعة واحدة، “والفارق بينها ليس في القالب الذي يصاغ فيه الأمر، بل في قدرة وتصميم الطرف الآمر على إنزال الألم والعقاب في حالة عدم مراعاة الأمر”. وفي هذا الإطار تبدو دائرة القانون الإلهي والأخلاق أوسع من دائرة القانون الوضعي.
-3-
يدخل العقل الديني إجمالًا في مدرسة التفكير الطبيعي، فالقانون الوضعي يجب أن يصدر عن (أو لا يتعارض مع) مبادئ القانون الطبيعي، وهو ذاته القانون الإلهي الفطري الذي يضم الأخلاق الكلية والشريعة. ومن هذه الزاوية سيبدو مصطلح القانون الإلهي أوسع من مصطلح الشريعة الذي يشير إلى قواعد تفصيلية ذات طابع فرعي منصوص عليها في الكتاب.
لكن علينا في هذا السياق أن نصرف مصطلح العقل الديني إلى تراث التفكير المسيحي بوجه خاص. فهو التراث الديني الذي ناقش مسألة القانون في علاقته “الإشكالية” بالأخلاق والشريعة في إطار لاهوتي موسع، وهو ما يظهر بالمقارنة مع التراثين اليهودي والإسلامي، وحتى مع التراثين اليوناني والروماني ( من أفلاطون حتى سيشرون).
لم تناقش المسألة في الفكر الإسلامي المبكر بحكم سياقه اللاهوتي التاريخي، ولم تظهر أبعادها الإشكالية قبل التحول إلى الدولة الوطنية الحديثة: في المفهوم الإسلامي التقليدي القانون هو الشريعة (الفقه) والشريعة (الفقه) هي القانون. الشريعة إلهية وبالتالي أخلاقية، أي لا حاجة للبحث في أخلاقيتها من حيث المبدأ.
تكوَّن هذا المفهوم في ظل الاندماج الكامل بين الشريعة والدين من ناحية، وبين الشريعة والدولة من ناحية ثانية. منذ البداية اتحدت سلطة الدولة وسلطة الدين، وغابت فرضية الازدواج الناجمة عن انفصال الدين والدولة، أي غابت فرضية وجود دولة تصدر قوانين مدنية مستقلة عن الشريعة. ومن هنا غياب مصطلح (القانون) وإشكالياته كمفهوم مقابل للشريعة والأخلاق. وهي الإشكاليات التي ستحضر مع الدولة الوطنية، حيث تقلص الارتباط النظري بين الدين والدولة، التي تبنت نموذج القانون الوضعي، مع بقاء الشريعة كمرجعية دينية تدخل في علاقة ملتبسة مع القانون.
تكشف هذه العلاقة عن حالة تداخل غامضة وغير صحية، فالشريعة لم تتحول إلى قانون لأسباب تتعلق بقدرتها على التكيف مع أبنية الواقع الآخذة في التطور، فيما ظلت فكرة القانون عاجزة عن تسكين نفسها داخل النظام الاجتماعي وبنية الدولة لأسباب تتعلق باكتمال مستوى التطور.
في هذا السياق تظهر النسخة الإسلامية لإشكاليات التقابل بين القانون، والشريعة، والأخلاق. وهي نسخة مختلفة عن مثيلتها المسيحية التي أنتجتها ازدواجية العصور الوسطى. بين أسباب الاختلاف المتعددة بين النسختين يبرز السبب الأولي المتمثل في غياب الشريعة عن المسيحية، التي تقر مبدئيًا بحق الدولة العلمانية في تملك سلطة القانون. أي في غياب الدمج بين الدين والشريعة والدولة.