دبي
أصدر مركز المسبار للدراسات والبحوث كتابه الثامن بعد المئة، والذي يتناول موضوعات التعددية الدينية والثقافية في تونس، والمغرب، والجزائر، وسوريا والسودان، كما ناقش سؤال الهوية، والمسألة الأمازيغية، والرؤية لدى الإسلاميين تجاه كل مجالات التعددية على أرض الواقع، وفي تجليات الثقافة، وتشكلات المجتمع بأنسجته المختلفة وتعدد المشارب والاتجاهات والتيارات. هذا بالإضافة لموقف حزب العدالة والتنمية من المشاركة السياسية، وتمايزه عن مواقف العدل والإحسان، والمجالات المحفّزة على إثارة موضوع التعددية رفضاً أو تأييداً.
الهوية الأمازيغية في خطاب الحركة الإسلامية في المغرب
يتساءل الباحث المغربي فؤاد بوعلي: هل أجابت الكتابات الإسلامية عن إشكال المواطنة من خلال تناول المسألة الأمازيغية؟ وكيف دبرت الحركة الإسلامية المسألة الأمازيغية، في مقاربتها لجدلية العلاقة بين الهوية والمواطنة؟ وهل استطاعت استيعاب المطالبات الأمازيغية، أم انتقلت نحو المواجهة الأيديولوجية؟
ثم يجيب: بالرغم من العناوين الكبرى التي غلفت بها الحركة الثقافية الأمازيغية مطالباتها، والتي أدرجتها في الدفاع عن الحقوق الثقافية واللغوية، لدرجة أن اعتمدت من قبل المنظمات الأممية في مستوى حقوق الشعوب الأصيلة، فإن المسألة لم تؤخذ بمنطق الأقليات التي يمكن من خلالها معالجة الموضوع كإشكال من إشكالات المواطنة، بل باعتبار الأمازيغية رصيدا ثقافيا لكل المغاربة، وجزءا من مكونات الشخصية الوطنية، لدرجة عدم إمكان التمييز بين الأمازيغ وغيرهم.
ويخلص إلى أن تناول الحركة الإسلامية مطبوع بمحاولات التمييز الدائم بين الأمازيغية، باعتبارها لغة وثقافة مشتركة للمواطنين المغاربة، والحركة الثقافية الأمازيغية، باعتبارها حركة سياسية ذات ولاءات غير وطنية في مجملها. لذا؛ كان الجواب عن الأمازيغية جواباً عن أهميتها في بناء الوطن داخل إطار المشترك الجمعي. فكان الصدام حتمية سياسية بين تيارين: الأول يبحث عن التعدد داخل الوحدة، والآخر يؤسس للانتماء البديل بمفردات الدمقرطة والحقوق الكونية. ومحاولة للخروج من حالة التجاذب، اقترحت أدبيات الإسلاميين مسارين اثنين: مسار الاختراق لمواقع العمل الثقافي الأمازيغي، ومسار الميثاق الجامع بين الأطياف الوطنية المختلفة داخل إطار الوطن والمروءة.
لقد بدأت المواجهة الفعلية بين التوجهين خلال ما يسمى بـ”معركة الحرف” في موسمي 2002 و2003. حيث كان النقاش حول الحرف الأنسب لكتابة الأمازيغية. وقد كانت المقترحات تتنازع بين استعمال أحد الأشكال الثلاثة: العربي أو اللاتيني أو تيفيناغ. فقد دافع البعض عن الحرف اللاتيني لأنه جاهز ومهيأ ومنتشر، ويسهل عملية التهيئة اللغوية للأمازيغية. في حين رأى عديد من نشطاء الحركة الأمازيغية أن حرف تيفيناغ هو الأنسب، باعتباره يكون أبجدية خاصة وتاريخية كانت موجودة منذ آلاف السنين، ويقدم تميزاً بصرياً وشكلياً للغة المستحدثة. وهو ما تبناه المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية واعترف به رسمياً في 10 فبراير (شباط) 2003. ويتفق الرأيان في الهجوم على الحرف العربي واتهامه بالقصور.
الإسلاميون في المغرب.. الموقف من التعددية السياسية
رأى الباحث المغربي عبدالحكيم أبو اللوز، أن التعددية -في جوهرها- هي إقرار بالحرية والتعايش السلمي في إطار الاختلاف والتنوع من غير ضرر ولا ضرار؛ وهي، في فلسفتها العامة، حقيقة فطرية وسنة كونية. وتالياً، تكون بهذا المعنى إقراراً واعترافاً بوجود التنوع الاجتماعي، وإن كان هذا التنوع لا بد أن يترتب عليه اختلاف في المصالح أو خلاف على الأولويات. كما يشير مفهوم التعددية السياسية إلى مشروعية تعدد القوى والآراء السياسية، وحقها في التعايش، والتعبير عن نفسها والمشاركة في التأثير على القرار السياسي في مجتمعها.
وإن كان الخطاب الإسلامي الحديث -في غالبيته- لا يتنكر للتعددية الحزبية في الدائرة الإسلامية، فإن مستوى الطموح والتطلع يفضل الوحدة وينشدها، إلا أنه لا يعني -بأي شكل من الأشكال- خلو الساحة من مواقف توصف بالرافضة، وإن كانت بدرجات متفاوتة تتوزع بين أطراف توصف بالتحرر والتجديد، من أمثال ما يتبناه خير الدين التونسي، ومحمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي، وحسن البنا، سواء في جانب التمسك بالآراء الإسلامية التي ترى أن التعددية الحزبية تمثل الطريق إلى التشتت والانقسام والتمزق، الذي سوف يؤثر على وحدة الأمة بتفريق كلمتها وتشتيتها.
وتعتبر جماعة العدل والإحسان أن “التعددية السياسية مزية نعترف بفضلها، ولا ينازع في صوابها عاقل، ولا ينكرها إلا تواق للاستبداد، وهي باب للتنافس الشريف في الخير خدمة لمنافع عامة يعمل لها الجميع، إذا ما حكمها ضابط الوضوح والمسؤولية والجدية، ولا نرى بديلا عنها إلا أن يتحول الحاكم إلى جلاد وطاغوت، وأن مطلبنا تعددية مسؤولة متعاقبة على الحكم، تعددية معبِّئة للجهود في قنوات منتظمة بدل الفوضى والعنف. تعددية تتراضى على الحلول المثلى وتؤطر الشعب وتنير له الطريق”.
سهلت الدينامية الشعبية والسياسية الممتدة في المنطقة المغاربية والعربية تسارع وتيرة الإصلاحات السياسية بالمغرب، خصوصاً بعد الخطاب الملكي يوم 9 مارس (آذار) 2011، مطلقاً ورش الإصلاح الدستوري، ثم كان فوز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية لـ25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، وهو الذي راكم تجربة غنية في المعارضة السياسية وتبنى شعار “الإصلاح في ظل الاستقرار”، فشارك لأول مرة في الحكومة بواسطة أمينه العام الأستاذ عبدالإله بنكيران يوم 3 يناير (كانون الثاني) 2012 رئيساً للحكومة، فضم تحالف الأغلبية كلاً من: حزب الاستقلال، حزب الحركة الشعبية (وكلاهما يمين محافظ)، وحزب التقدم والاشتراكية، الحزب الشيوعي قديماً.
إدماج الأعراق وإدارة التنوع: المغرب والجزائر أنموذجاً
الأكاديمي العراقي، خيري عبدالرزاق جاسم رأى أن الحكومات الجزائرية المتعاقبة لم تنشئ مؤسسات سياسية قائمة على أساس الكفاية؛ وحرمت الدولة والمواطن من حق الانتماء لها والشعور بالمواطنة فيها، وظلت الروابط بينهما قائمة على أسسٍ أيديولوجية. هذا، فضلاً عن غلبة الصراعات السياسية بين مؤسسات الدولة الرئيسة، وظلت الغلبة للمؤسسة العسكرية وخضوع المؤسسات الأخرى لها، وظلت إدارة التنوع والالتفات إليها أسفل قائمة السياسات الحكومية المتعاقبة.
ومما زاد الأمر سوءاً، فضلاً عن الصراع السياسي، أن مسألة التربية والتعليم في الجزائر ظلت تدور في فلك التعريب. ومحاولات صهر النسيج المجتمعي مثلت جوهر السياسات التعليمية في الجزائر. وما حصل من تغيّرات في إقرار التعددية لم تكن تتعدى الإطار العام الداعي إلى الانصهار في العربية والفرنسية سبيلاً للاستراتيجية التنموية في الجزائر. بينما دخلت إدارة التنوع في المناهج التعليمية في المملكة المغربية من خلال الإقرار بالتنوع ودسترته وتنفيذه عملياً، وليس نظرياً فحسب.
إذا كانت محنة الجزائر تتمثل في عدم حالات الاستقرار السياسي المتتابعة، والناجمة عن سوء إدارة السلطة والثروة، فهي تحتاج -اليوم قبل أي وقتٍ مضى- إلى عقد مؤتمرٍ وطني يناقش إدارة التنوع كحالة لازمة للاستقرار، والتنمية الوطنية، ويعزز روح المواطنة. فمبادرات المصالحة الوطنية التي حصلت في الجزائر -في غالبها الأعم- كانت بين السلطة والإسلاميين، ولم تتناول -من قريب أو بعيد- مسألة النسيج المجتمعي الذي يحتاج إلى حوار ملح، باعتباره الأساس لأية تنمية وطنية قد تؤدي إلى إفراغ الجزائر من أزماتها السياسية.
من المقترحات لحل إشكالية إدارة التنوع في الجزائر وترقيتها في المغرب الآتي:
1- اعتماد مبدأ المواطنة أساساً في التعامل بين المكونات المجتمعية في كل من الجزائر والمغرب، بدون التمييز على أساس الدين، أو اللون، أو الجنس، أو العرق.
2- الشروع باستراتيجية لإدارة التنوع في الجزائر، تجعل من الاندماج أداة للوصول إلى حلٍ لمشكلة النسيج المجتمعي المضطرب، وترقية الحوار في الحالة المغربية.
3- دسترة الأمازيغية لغة وطنية إلى جانب اللغة العربية في الحالة الجزائرية، وفك التعليم والإعلام من أسر السلطة. في مقابل توسيع الحريات العامة في المغرب.
4- الالتفات إلى أثر التعريب على بقية مكونات المجتمع الجزائري، لأن المشكلة لا تكمن في التعريب، وإنما في الأسلوب الذي يحرم الآخرين من تداول وتعميم لغاتهم.
أهملت الدولة الوطنية غداة تشكّلها، مسألة مهمة وأساسية، هي الاعتراف بتنوع نسيجها المجتمعي، وغنى تركيبتها، حتى بدت الدولة وكأنها مجموعة من دول في كيان واحد.
إشكاليات إدارة التعددية السياسية عند الإسلاميين في تونس
الباحثة التونسية هالة الحبيب قالت: إن حركة النهضة تمثل في الوقت الحاضر القوة الثانية في المشهد السياسي التونسي بـ(69) نائبًا في مجلس نواب الشعب. كما أنها تستفيد من عمق اجتماعي غير مشكوك فيه، فضلًا عن تحالفها مع الحزب المتحصل على الأغلبية: حركة “نداء تونس”، التي وجد فيها راشد الغنوشي مناورًا سياسياً لا يقل عنه دهاءً وهو الباجي قائد السبسي (رئيس الجمهورية الحالي) الذي كان قد أعلن يوم 20 أبريل (نيسان) 2012 عن مبادرة لتشكيل حركة سياسية تم الإعلان عن تأسيسها يوم 16 يونيو (حزيران) 2012 وقد تحصلت حركة “نداء تونس” على التأشيرة القانونية يوم 6 يوليو (تموز) 2012.
تحالفت حركة النهضة مع هذا الحزب المنتصر في الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت نهاية 2014.
وهكذا تمت كتابة الدستور الجديد في ثلاث سنوات، ولم يتم الإشارة فيه إلى الدين كمصدر تشريع. كما تم النص على أغلب الحقوق الأساسية المكرسة بالقيم الكونية في فصوله، وبهذا اعتبر الشق الديمقراطي نفسه منتصرًا في المعركة أمام الإسلاميين، على الرغم من بعض الغموض الذي يلف بعض فصول الدستور، مما يمكن أن يفتح الباب لتأويلات متعددة ومتناقضة.
ويمكن القول: إنه مع ذلك، كان يمكن تحقيق اتفاق بين الإسلاميين والعلمانيين.
السؤال المطروح الآن هو: هل قيادات الحزب الإسلامي يمكنها الإفادة من الدروس، والمضي قدمًا في مسار تحويل الحزب ذي المرجعية الدينية إلى حزب سياسي يميني يمثل الطبقة المحافظة في البلاد؟ هل يمكنه أن يكون حزبًا سياسيًا قادرًا على انتداب شخصيات سياسية، من دون الاستناد فقط إلى معيار الولاء؟ هل هذه الحركة قادرة على تحديث نخبتها وإدماج الشباب وإفراز قيادات معتدلة؟
تساؤل آخر يشغل فكر الملاحظين الوطنيين والأجانب: هل النهضة أصبحت –حقًا- حزبًا ديمقراطيًا يدمج في توجهاته كل قيم الديمقراطية والحرية؟ أم إن تنازلها عن بعض أسس الحركة مجرد مناورة في انتظار أيام أفضل؟
تبقى حركة النهضة قوة اجتماعية وسياسية مهمة، سواء كانت في السلطة أو المعارضة، ولهذا لا يمكن للحياة السياسية أو لمؤسسات الدولة العمل بشكل جيد من دون وجود هذه القوة، والاعتراف بها وإدماجها في النظام السياسي.
حركة الإخوان، هي حركة غير متجانسة، فهي تقدم مجموعة من التوجهات تنطلق من الأكثر تطرفًا، الأقرب إلى السلفية، حتى الأكثر اعتدالاً. حسب تقرير من المؤسسة الفرنسية للعلاقات الدولية: يوجد تياران -على الأقل- داخل الحركة: الأول وصفه المرزوقي بالتيار الإسلامي الديمقراطي، المثال المسلم للديمقراطيين المسيحيين. يجسده كل من: حمادي الجبالي وعبدالفتاح مورو (نائب رئيس مجلس نواب الشعب الحالي) الذي لم يتردد في نقد الحركة من خلال القيام بتصريحات للصحافة التونسية والأجنبية، تعتبر أن “ما تقوم به النهضة مخالف للديمقراطية”. يمثل هذا التيار الواقعي أقلية داخل الحركة، فهو لا يتجاوز ثلث مناضليها.
تتمتع التيارات الأخرى بنفوذ أكبر داخل الحركة، وتمثل أغلبية، وهؤلاء يرفضون أي سياسة توافقية، معتبرين أن النهضة تمتلك السلطة ويجب أن تحافظ عليها. فهم لم يُؤيدوا –أبدًا- قرار زعيمهم راشد الغنوشي القاضي بالتفريط في السلطة. هذه التيارات يمثلها داخل المجلس التأسيسي النائبان: الحبيب اللوز، والصادق شورو. غير أن الغنوشي، بُغية الحفاظ على وحدة الحركة، سيُجبر على لعب دور الحكم الذي يرسي التوازن بين التيارين المتنافرين.
وعلى الرغم من ذلك خضعت النهضة للحكم القاسي، حيث إنها فقدت إشعاعها وشعبيتها وتقلص رصيدها الانتخابي. فالشعب الذي كان مبهورًا بخطابها الديني ومغترًا بوعودها المقدمة بسخاء، اكتشف أنه قد تمت خيانته. ونتيجة لذلك تقدمت حركة النهضة بطلب سبر الآراء لرصد نوايا التصويت وقد جاءت النتيجة كارثية بـ(12%) فقط من الأصوات. “تعديل الكفة سيكون من الصعوبة بحيث إنه، وبحسب مصدر دبلوماسي، قلصت قطر من دعمها المالي للحكومة التونسية وللحركة” .
إدارة التنوع الثقافي في السودان: دراسة اجتماعية- سياسية
أكد الباحث العراقي عبدالسلام إبراهيم بغدادي أن إدارة التنوع الثقافي أو الاختلاف الإثني أو التعددية العرقية، هي –بالمجمل- جزء أو عمل من أعمال الإدارة العامة للدولة، بل هي مفردة مهمة للغاية من مفردات بناء الدولة، فضلاً عن كونها تدخلاً في صميم السياسات العامة. كما أنها تفصح في الوقت نفسه، عن خطابها السياسي وفلسفتها العامة. وعليه، فإنها تكتسب أهمية خاصة، بل استثنائية. ذلك لأن هذا العمل يغطي مجموعة من (الفوارق) المرتبطة بالإثنية: العرق، اللون، الثقافة، الدين، المذهب/ الطائفة، اللغة/ اللهجة، النوع الاجتماعي/ الجندر، العمر، أسلوب المعرفة ومستوى التعليم، الوضع الاقتصادي والاجتماعي (الطبقات)، القدرة الجسدية والأصول الوظيفية وغيرها الكثير.
خلص الباحث إلى أن أي محاولة للخروج من المعضلة السودانية الراهنة، والمتمثلة بسوء إدارة التنوع أو الاختلاف أو التعددية الثقافية في السودان الكبير (شماله وجنوبه)، ولا سيما شماله، والتي تهدد البلاد –التي انشطرت إلى نصفين عام 2011– بمزيد من التفتت والانقسام، تشترط أولاً عقد مؤتمر دستوري وطني شامل وجامع. ومن أولويات هذا المؤتمر “الاتفاق على وضع يشترط أي محاولة للخروج من الأزمة السودانية الراهنة، والتي تهدد البلاد بمزيد من التفتت والانقسامات، وعقد مؤتمر دستوري قومي شامل وجامع. ومن أولويات المؤتمر الاتفاق على وضع دستور قائم على الاعتراف الصريح بأن السودان بلد متنوع الثقافات، وأن هذه الثقافات تحظى بالحقوق المتساوية بغض النظر عن الأغلبية والعدد.
والدستور المقترح ينبغي أن لا يمثل الأغلبية ويترك الأقلية في حيرة من أمرها. فالدستور –وفقاً لما جاء في محاضرة لأحد الزعماء السودانيين الراحلين- عبارة عن “صياغة أمل الأمة وهو أمل كل الشعب أقليته وأغلبيته (…) الكلام عن أن الدستور الإسلامي يعطي الأقليات حرية العبادة، هذا كلام ليس له قيمة بالمرة، لأنك حينما تتكلم عن الدستور أنت تتكلم عن الديمقراطية، والديمقراطية هي فرص التساوي بين المواطنين من حيث هم مواطنون”. وعن الرأي السائد بأن الدستور يجب أن يستمد من الأغلبية أو دين الأغلبية، قال طه: “هذا خطأ بحقيقة الدستور. الدستور يجب أن يستمد من الفكرة التي توحد الشعب كله.
وعن صيغة هذا النظام الفدرالي المقترح، يرى البعض من أبناء النخبة السودانية المعاصرة، أنه “ينبغي أن تدار البلاد وفق نظام فدرالي منتخب من القاعدة إلى القمة، ويكون من مهامه إعادة التوازن للعلاقة بين المركز والهامش أو الأطراف. وهذا يعني تحقيق شعار تقسيم عادل للسلطة والثروة بين الأقاليم السودانية المختلفة. هناك تاريخ طويل من الغبن والمظالم تشكو منه المناطق غير (العربية– الإسلامية). وعلى الرغم من الطابع الاقتصادي والتنموي لتخلف هذه المناطق، فإن الصراع تمت أثننته (نسبة للانتماء الإثني، وعنصرته أي إضفاء صفات عنصرية عليه، وهذا ما جعل الوضع السوداني الثقافي السياسي شديد التعقيد. ونوصي بمراجعة الشكل الفدرالي وتجويده بكثير من الدمقرطة والتوسع).
إدارة التنوع ومتطلبات الاندماج في السودان: دراسة مقارنة
تنطلق دراسة الباحث السوداني عبده مختار موسى من فرضية أساسية: إن فشل النخبة السودانية في إدارة التنوع يشكل سبباً أساسياً في أزماته وعدم استقراره. وتناقش سؤالاً محورياً: كيف فشلت النخبة السياسية في تحقيق الاستقرار في بلد متنوع؟
يقول الباحث أن أهم مرتكز لحسن إدارة التنوع في دولة مثل السودان، هو فهم الميكانيزمات الكامنة في طبيعة المجتمع، ثم توظيف الديناميات اللازمة لتحقيق الاندماج الوطني. ويمكن النظر لعملية “الاندماج الوطني” على أنها تمثـل رافعة مهمة في التحكم في التنوع وحسن إدارته. فالاندماج الوطني يشكل أهم ناظم لدولة مثل السودان، ما زالت في طور البناء والتشكيل/ التشكُّل والصيرورة.
الملاحظة الأساسية في مسألة التنوع في السودان، هي أن السودان ليس شديد التنوع من ناحية لغوية أو دينية، بل متنوع في جانب التركيب العرقي، فهو أقرب إلى “تنوع إثنو-ثقافي”. فمن حيث اللغة، شكلت اللغة العربية لغة مشتركة لجميع القبائل والإثنيات في السودان، فأصبحت هي اللغة الموحدة واللغة السائدة أو اللغة الأم ( lingua-franca) ومن الناحية الدينية، فإن السودان –بعد الانفصال– أصبح من أكثر الدول انسجاماً؛ حيث يعتنق الإسلام أكثر من (97%) من السودانيين (جمهورية السودان) الشماليين.
التعددية الثقافية وحقوق الأقليّات في العالم العربي
قدم الباحث السعودي عبدالله حميد الدين قراءة لكتاب: “التعددية الثقافية وحقوق الأقليّات في العالم العربي” (مجموعة باحثين) تبدأ مقدمة الكتاب بالإشارة إلى حقيقة أننا نعيش في زمن سياسات الهوية أو سياسات الاعتراف؛ حيث نجد أن الأقليات ستبدأ في المطالبة بأشكال مختلفة من الاعتراف الرسمي والتقبل، بما في ذلك حقوق لغوية وثقافية ودينية، وربما نوع من الحكم الذاتي أو الزيادة في التمثيل السياسي. ثم يشير إلى أن رد فعل الدول إزاء سياسات الهوية يختلف من منطقة لأخرى بشكل بارز، ولذلك فإن الكتاب يسعى إلى استكشاف الطرق المختلفة لفهم ومناقشة قضايا سياسة الهويات في العالم العربي. والأسئلة الأساسية التي يعمل على الإجابة عنها هي: ما المفاهيم التي يتم توظيفها لفهم التنوع العرقي؟ وما النماذج التاريخية التي يتم استحضارها كأمثلة للنجاح أو الفشل في التعايش العرقي؟ وما الآمال أو المخاوف التي يثيرها وجود الأقليات؟ وما المعايير التي يتم الارتكاز عليها لتقويم الممارسات العادلة وغير العادلة إزاء الأقليات؟
تركز كل من: فرانسيسكا كوراو (Francesca Corrao) وسيبيستيانو مافيتون (Sebastiano Maffetone) على فائدة التعددية الثقافية الليبرالية لمعالجة قضايا الأقليات في العالم العربي. وهما يصران على أنه قبل توظيف التعددية الثقافية، فإنه لا بد من توضيح العلاقة بينها وبين الليبرالية، ويقولان: إن الليبرالية هي الأولى، وإن ضمان ديمقراطية ليبرالية أهم في المرحلة الأولى من السعي لصيغة محددة من التعددية الثقافية الليبرالية. ومن النقاط المهمة التي يثيرانها: تعدد زوايا النظر إلى قضايا الأقليات في العالم العربي. فهناك زاوية المراقب الغربي الذي يقرأ واقع أقلية عربية في دولة غربية ديمقراطية، وهناك نظرة العربي لأقلية عربية في دولة غربية، وهناك زاوية نظرة الغربي لأقلية عربية في دولة عربية، وهناك زاوية نظرة العربي لأقلية عربية في دولة عربية، وهناك زاوية نظرة الغربي لأقلية غير عربية في دولة عربية، وهناك زاوية نظرة العربي لأقلية غير عربية في دولة عربية. هذه الزوايا المتعددة تبرز صعوبة الخروج بتحليل متشابه؛ حيث إن كل زاوية تثير قضايا تختلف عن الزاوية الأخرى. وإدراك التفاوت في فهم كل طرف لموضوع الأقليات يساعد في خلق حوار بنّاء بين مختلف الفئات الاجتماعية والسياسية والقانونية، التي تحاول أن تؤسس لتعددية ثقافية مستدامة في العالم العربي.
يثير الكتاب مجموعة من الأفكار الضرورية لفهم ظاهرة الأقليات في العالم العربي. ولكنه لم يهتم بهدفه الأساسي: خطابات الأقليات والطرق المختلفة للتعامل معها في الدول العربية. ولم يناقش فكرة الأقليات من أصلها. فالأقلية -كما تمّ ذكرها في ثنايا الكتاب- صناعة، وهي صناعة سياسية ولأهداف سياسية. والوعي بالهوية –أيضا- ينشأ لأسباب سياسية، والتبشير بهوية وتحويلها من هوية كامنة إلى هوية فاعلة، هو –أيضاً- عملية سياسية. هذه الأمور كلها تمت الإشارة إليها ثم المرور عليها من دون التفصيل في شرحها. ولا يمكن تناول موضوع الأقليات من دون مناقشتها بشكل مفصّل. الكتاب افترض أن الأقلية واقع يجب قبوله في حين أنها صناعة تحتاج إلى جدال ونقاش. لا بد من الإشارة إلى أن الكتاب وضع في فترة الربيع العربي، ويبدو أنه كان يخاطب الواقع المأمول بعد الربيع. وأظن أنه لو كتب اليوم فإن الكثير من الأبحاث قد تتغير أو قد تفقد أهميتها.
العمل المنظم كمانع للاحتكار السياسي للإسلاميين في تونس
وفي دراسة العدد رأى عبدالحميد العيد الموساوي أن تونس أسست ثورة لبداية مرحلة جديدة في العالم العربي، أي مرحلة التحول من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي، إذ تعد المسألة الرئيسة في عملية التحول الديمقراطي هي: قيام الحكومة بقيادة عملية تحوّل تتحلى بـ(المصداقية الضرورية)، ومعناها: عملية تشمل كل الأطراف السياسية، وهو ما حصل بالفعل في تونس، ولا سيما بعد أن استطاع حزب (آفاق تونس) الفوز في الانتخابات التشريعية والرئاسية، وهو الحزب الذي نشأ من بقايا الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، والتجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان الحزب الحاكم في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، وهما الحزبان اللذان كانا مسؤولين عن النظام الاستبدادي في تونس. ولعل ذلك يعود -في جزء كبير منه- إلى فشل حركة النهضة التونسية في تقديم مشروع واضح وسريع لتحقيق مطالب الشباب الثائر، فضلاً عن عجزها عن خلق وظائف جديدة للوافدين الجدد إلى أسواق العمل من ذوي الشهادات الجامعية.
فإذا كان من غير المنصف الحكم على نجاح أو فشل الثورة التونسية في مراحلها الأولى بتحقيق أهدافها، فإنّه يمكن لنا القول: إن العامل الاقتصادي سيكون هو الفيصل في ذلك، فتونس دولة ذات اقتصاد هش قائم –أساسا- على الخدمات، لذلك فإنّ أي تحسن مرتبط بانتعاش جديد للقطاع السياحي، فضلاً عن عودة لرؤوس الأموال، وعودة للاستثمار الأجنبي في الأسواق التونسية.
ويمكن القول: إنّه على الرغم من أحداث الإرهاب التي حصلت في تونس، فإنّ المراهنة الحقيقية في تثبيت دعائم النظام الديمقراطي تقع بدرجة أساسية على أبناء الشعب التونسي الذين يتصفون بالتسامح والمسالمة، لذلك فمن المتوقع نجاح التونسيين في إدارة خلافاتهم، وإقامة أنموذج للتعايش بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، ويقبلون بالعيش المشترك، على الرغم من اختلاف الرؤى. ولعل عودة الجيل القديم من المحسوبين على النظام السابق إلى الحكم، سيدفع إلى إقامة دولة قوية وديمقراطية قادرة على التحكم في النزاعات، وقادرة على ضمان الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والتجانس الاجتماعي، وصيانة الحريات الفردية، ويظل الرهان على الشعب المعروف بسلميته، من ناحية، وعلى استقرار البيئة الإقليمية التي ما زالت تتسم بالتوترات السياسية والأمنية، لا سيما في ليبيا المجاورة، من ناحية أخرى.
كما تبدو التجربة التونسية -في الحقيقة- تجربة ناجحة، حيث تسير بخطى ثابتة على صعيد بناء الدولة ومؤسساتها، ولا سيما أن المتتبع للمشهد في تونس يرى أن هنالك معادلة اجتماعية سياسية تنظم علاقة الفرد بالجماعة في المجالات كلها: السياسية والاجتماعية والتربوية، والتي تتمثل بعلوية المؤسسات وقداستها على حساب الفرد ومكانته وحقوقه، لذلك نرى أن علاقة الفرد بالسلطة في تونس تستند إلى عامل الخوف بدلاً من مبدأ الاحترام، لأن المواطن التونسي تربى -منذ الاستقلال- على الخوف من القانون أكثر من التعوّد على احترامه، ولذلك نرى أن التونسي مسالم بطبعه خوفًا من العقوبة.
ويظل مستقبل المشهد السياسي في تونس محكوماً عليه بمدى قدرة كل من الطرفين: السلطة، من جهة، والمعارضة وحركة الشارع، من جهة أخرى، على المبادرة وافتكاك مساحات لمصلحته، فكلما اشتد الضغط الشعبي، ارتفع صوت المعارضة، واضطرت السلطة إلى تقديم تنازلات إلى الثورة والاستجابة لها، فكلما سكتت الأمور، وعادت وتيرة الحياة الطبيعية، التقطت السلطة أنفاسها، وعادت إلى الإمساك بخيوط المعادلة السياسية، على النحو الذي ترغب فيه، اعتمادا على قوة النفوذ الإداري والسياسي، والدعم الخارجي الذي تتمتع به.
وأخيرًا، يقول الباحث: إن شيئا لن يكون كما كان من قبل، وإن عملية التحوّل نحو الديمقراطية، التي يمكن أن تكون عملية طويلة ومؤلمة في الوقت نفسه، هي عملية لا رجعة فيها في تونس وفي العالم العربي، كما كان الحال في أماكن أخرى من دول العالم.