-1-
في الأسفار المتأخرة من العهد القديم يتخفف يهوه نسبيًا من خصائصه القاسية، لكنه يظل بعيدًا عن أن يكون إلهًا محبًا بالمعنى الشفيف الذي تستغرقه الرحمة. صار يهوه، الذي يحمل صفات الطبيعة البشرية بكل تناقضاتها، يحمل أيضًا صفات الفكرة المطلقة. وفيما جرى تثبيت خصائص القوة والعنف المبكرة، اكتسب بعض السمات اللينة التي تسمح بالإحسان والعفو. ورغم تدخله المباشر، من خلال الشريعة، في الحياة اليومية للشعب ظل قوة متعالية مخيفة.
يتساءل إلياد: ” أيتوجب رؤية أثر بشري في واقعة أن يطلب من المؤمنين به طاعة مطلقة كطاغية شرقي؟ أم يتعلق بالأولى برغبة لا إنسانية في كمال وطهارة مطلقين.. إن عدم التسامح والتعصب المميزين لأنبياء ومبعوثي الديانات التوحيدية الثلاث يجدان نموذجهما في مثال يهوه. كذلك فإن عنف يهوه قد فجر البنى البشرية، فغيظه يبدو أحيانًا غير مقبول إلى درجة أنه أمكن القول بشيطانية يهوه… إن ترابط الصفات المتضادة، وعدم عقلانية بعض أفعاله، تميز يهوه عن كل مثال للكمال على المستوى البشري.”
على فكرة ” الكمال الإلهي” ستبنى فلسفة الحب المسيحي في العصور الوسطى بشقيها؛ الصوفي ( الذي يمثله القديس برنار، و وليم سان تيرى) والأرسطي ( الذي يمثله القديس توما الإكويني): يحب الله نفسه بسبب كماله الخاص . وكل حب بشري هو مماثلة لحب الله نفسه لنفسه، فالإنسان أيضًا يحب نفسه ويطلب خيره الأقصى، لكن ذلك لا يتم إلا من خلال حب الله. الحب البشري كله هو حب الله ما دامت أفعالنا كلها موجهة بتلقائيتها الغريزية نحو الوجود الكلي (الوجود الإلهي) الذي هو بدايتها أي مصدرها وغايتها في الوقت ذاته.
-2-
مع المسيحية تحول يهوه إلى موقع الآب ليكتسب خصائص جديدة مغايرة لخصائصه التوراتية. ولأول مرة يتراجع الخوف ويدخل الحب في صلب اللاهوت. لقد أحب الله الإنسان، ومن أجل ذلك خلقه أصلًا، وخلقه على صورته كشبهه ومثاله. ومن محبته للإنسان تجسد، وأخذ طبيعته، وناب عنه في إطاعة الناموس ” حتى أنه جاد بابنه الوحيد”. صار الله قريبًا من الإنسان أو حاضرًا فيه، لا كسيد آمر مخيف بل كأب حنون ” انظروا أية محب أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله”. وعند هذه الدرجة من القرب تغيرت طبيعة العلاقة بين الله والإنسان ” لا أعود أسميكم عبيدًا، بل أحباء”.
في يوحنا، بإيقاعه التجريدي اليوناني، لا يبدو الحب مجرد صفة لله بل هو الله:” الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه ( يوحنا الأولى 4/16). ولا يبدو حب الله للإنسان مشروطًا ولا حتى بحبنا له ” بهذا أظهرت محبة الله فينا: أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به. في هذا هي المحبة: ليس أننا أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا” ( الأولى 4/9). أما نحن فنحب الله ” لأنه هو أحبنا أولاً” (4/19). وكل محبة فينا هي من الله ” وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله. ومن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة” (4/7).
قياسًا إلى اليهودية – وبدرجة أقل إلى الإسلام- يستطيع الفكر المسيحي الكلام عما يمكن وصفه ب” لاهوت حب”؛ حيث المحبة، وليس القوة والقدرة أو الأزلية والأبدية، هي أوضح صفات الله. لكن ذلك، بالطبع، يبقى مفهومًا على المستوى النظري. الذي يمكن تأسيسه على نصوص مبكرة في العهد الجديد، وتأويلات صوفية وفلسفية متراكمة، وليس على مستوى التاريخ الفعلي للكنيسة، التي استطاعت طوال العصور الوسطى أن تعيد المسافة الفاصلة بين الله والإنسان إلى عهدها القديم، وأن تفرض من خلال السلطة صورة الإله القوي المشرع والمخيف.
الفكر المسيحي، الذي ظل معلقًا بالكتاب العبري بوصفه جزءًا من الانجيل، كان عليه إعادة تفسير الكتاب العبري على ضوء العهد الجديد. وهو نوع من القراءة بأثر رجعي، تأويلي بالضرورة، حيث يجري استخدام كل من النصين في شرح الآخر بوصفهما معًا وثيقة موضوعية واحدة صادرة عن المصدر ذاته. ومن خلال هذه القراءة أمكن القول بأن الله الذي يحب العالم ويبرر جميع الأمم، كان كذلك منذ البدء، إلا أنه اختص ذرية إبراهيم، ممثلة في شعب إسرائيل، كممثل للبشرية للتعريف بالرب، ولكي تمهد لمرحلة الخلاص النهائي الذي جاء به المسيح.
لقد ظل العهد الجديد يستخدم الصور التي استخدمها العهد القديم لشرح العلاقة بين الرب والشعب: الزوج، العشيق، الخطيب، العريس. (انظر مثلًا: لوقا 5/34-35؛ يوحنا 3/29؛ كورنثوس 11/2؛ أفسس الثانية 5/23-30). لكن الفارق بين العهدين يظل واضحًا لا على مستوى الموضوع الذي تنصب عليه العلاقة وطبيعتها بما هي علاقة حب فحسب، بل أيضًا على مستوى اللغة وطريقة التعبير.
موضوعيًا، كان الرب في العهد القديم زوجًا لشعب إسرائيل، ولم يكن الحب أوضح ما في الزواج، بل الخيانة والشقاق المتكرر، والغيرة التي تشير إلى التملك. في المقابل صار الرب في العهد الجديد عريسًا للكنيسة أي لشعب الله الذي يتسع نظريًا لجميع البشر، وصارت العروس طاهرة بتأييد الرب ورعايته الدائمة، فهي بتعبير بولس ” مجيدة لا دنس فيها ولا غض أو شيء من مثل ذلك، بل مقدسة وبلا عيب” ( أفسس الثانية 5/27).
يستغرق الخب العلاقة كليًا، ومع ضمان القدسية والخلاص من قبل الرب، تبقى علاقة الزواج في حالة العرس الدائم المليء بالمسرات والفرح.
ورغم أن العهد الجديد ظل يتحدث عن الكنيسة والشعب، إلا أن الذات الفردية صارت أوضح حضورًا في خطابه قياسًا إلى خطاب العهد القديم، حيث كان الرب يدخل في علاقة مع الشعب بما هو جماعة سياسية، أكثر مما يدخل في علاقة مع الإنسان بما هو ذات. وهو ما يكشف عن المضمون الاجتماعي التاريخي للعلاقة بطابعها الفقهي، ويشرح فقرها من الناحية الروحية خصوصًا جانب الطرف الثاني الذي كان عليه التعبير عن حبه للرب بشكل تشريعي رسمي.
على مستوى اللغة تبدو صياغات العهد الجديد، بنفسها اليوناني، أقل حسية من صياغات العهد القديم، التي أشارت إلى الزواج بعبارات مكشوفة تنتمي إلى القاموس الجنسي الصريح. ( قارن أمثلة ذلك في: هوشع 2/1-4، وإرميا 3/6-9، وخصوصًا حزقيال 33/2-18). ومع ذلك فالشروح المسيحية ستعود فتتبنى هذه النصوص كجزء من الكتاب المقدس، وفي إطار تأويلي ستعيد التوفيق بينها وبين المفاهيم المسيحية المبكرة ذات الطابع الروحي المثالي الذي يذهب إلى تقديس البتولية ( راجع كنموذج، التأويل المسيحي، المتأخر خصوصًا، لسفر الإنشاد حيث يصبح المسيح هو العريس المشتاق إلى ” جسد” العروس التي هي الكنيسة).
-3-
في المسيحية كما في اليهودية –إذن- يمكن تصور الإله في علاقة حب مع الإنسان، ويمكن تصوير هذه العلاقة بلغة العشق والهوى بين الرجل والمرأة بما في ذلك مفردات الرغبة وأشواق الجسد. ومن الواضح أن هذا المعنى حاضر على مستوى النصوص، أي في صلب المدونة الرسمية، خلافًا للإسلام الذي لم يستحضر هذه اللغة إلا من خلال التصوف، وهو نمط تدين يشتغل من خارج المدونة الرسمية التي يهيمن عليها الفقه، ورغمًا عنها. أما على مستوى النصوص فتحضر مفردة الحب بين الله والمؤمنين، لكن في صياغات كلية مجردة، بعيدة عن إيحاءات العشق.
من هذه الزاوية، أعني على مستوى المدونة، تبدو المسيحية ذات نفس صوفي أوضح، مقارنة بالإسلام. ومع ذلك ظل على المسيحية كما على الصوفية تأويل العشق عند التعبير عن الحب الإلهي. ما يستدعي النقاش هنا هو السؤال عن مشكل العشق في الوعي الديني التاريخي. وهو سؤال مزدوج يمكن طرحه في صيغتين متقابلتين؛ الأولى: لماذا يستخدم الدين عبر تاريخه الطويل صياغات العشق للتعبير عن علاقة الإنسان بالإله، رغم ظهور طابعها المثالي الروحي؟ والصيغة الثانية هي: ولماذا يجب استنكار هذا الاستخدام أصلًا، طالما أن العشق نمط طبيعي من أنماط الحب البشري، ورما كان أقدرها على التعبير عن عمق النزوع؟
تاريخيًا، يشير التراث الديني ( قبل الكتابي) إلى ممارسات طقوسية وتعبيرية تكشف عما يمكن وصفه بنزوع مشترك في أنساق التدين القديمة إلى الاتصال بالإله والاندماج معه من خلال مفهوم التزاوج. وهو ما يستدعي التساؤل من جديد: هل كان الطابع الروحي في هذه العلاقة ظاهرًا حقًا؟ وقبل ذلك: هل كان ثمة وعي أصلًا بالتناقض بين الروحي والحسي في ثقافات التدين المبكرة الأقرب إلى الالتصاق بالطبيعة، والأبعد زمنيًا عن أفكار المثالية اليونانية، التي ستمعن في تقسيم الإنسان وتجزيئه؟
-4-
يرجع هذا النزوع بجذوره إلى الأنثروبولوجيا الطبيعية في الزمن السحيق، حيث لم تكن قد ظهرت بعد ثقافة التحقير من الغريزة الجنسية. وهو جزء من الموروث الإنساني اللاوعي. الذي يستبقي على الدوام شذرات من الثقافة. فإلى وقت ظهور الحضارات الزراعية في العصر الحجري الجديد، كانت الميثولوجيا الدينية لا تزال تربط بين الآلهة والإنسان والجنس في إطار طبيعي سلس.
في هذه السياقات لا يظهر الجنس كرزيلة، بل فضيلة ترمز إلى الحياة والخصب. يتكلم فريزر في ” الغصن الذهبي” عن الاعتقاد القديم في قدرة الفعل الجنسي على شحن الطاقة الإخصابية للطبيعة، فيشير إلى بعض المناطق في جزيرة جاوة حيث كان الرجل يمارس الجنس مع امرأته في حقول الأرز من أجل مساعدة الشتلات على النمو. وفي الطقوس العشتارية كان الجنس يمارس بشكل جماعي في الأعياد لتنشيط دورة الطبيعة وحثها على المطر والنبات والتكاثر. وهو طقس متكرر في الطقوس الصينية الطاوية ( البعيدة)، التي تعتبر أن مضاجعة الرجل لعشر نساء في الليلة يحقق الخير ويدل في إطار الانسجام المنشود مع قوى العالم.
كان الجنس في المعابد يعبر عن الرغبة المقدسة في الاتصال بالآلهة.
وبدورها كانت الآلهة تتزاوج فيما بينها، وتمارس الجنس مع النساء والرجال. وهو تقليد متكرر في الميثولوجيا البابلية، والمصرية، واليونانية، والكنعانية: راجع نداء الإلهة عشتار في ملحمة جلجامش:” تعالى يا جلجامش وكن حبيبي. هبني ثمرتك أتمتع بها. كن زوجي وأكن زوجتك”. وفي مصر جاء إله الشمس إلى ريديت زوجة الكاهن الأعظم متنكرًا في هيئة زوجها فنام معها كي تنجب الملوك الأوائل”. وفي اليونان ظهرت آلهة الأوليمب من تزاوج بنتوس البحر مع غيا الأرض ” ذات الأثداء الراسخة” بتعبير هزيود.
أما الإله الكنعاني إيل- القريب من التراث الإبراهيمي العبري- فيصطاد طيرًا يشويه ثم يغوي المرأتين لينجب منهما إلهين. ويجري التعبير عن ذلك كالآتي:” أضحت المرأتان زوجتين لإيل. زوجتين له إلى الأبد. انحنى عليهما ولثم شفتيهما. شفتان حلوتان كالرمان. عندما تبادلا القبل حملت المرأتان. عندما عانقاه أصحبتا حبلاوين. جاءهما المخاض ولدتا الغسق والفجر”.
عند بدء التجربة العبرية كانت ثقافة السفور الجنسي قد تراجعت عمومًا بفعل التحولات التدريجية الواسعة في الاجتماع الطبيعي ومردوداته الاقتصادية. ورغم التطور اللاهوتي الذي أحرزته هذه التجربة فيما يتعلق بخصائص يهوه، ظل الكتاب العبري موصولًا بالثقافات الدينية المجاورة ونصوصها الميثولوجية. ومع التخفف- نسبيًا- من إيقاعها المباشر، ظل يستصحب لغتها الحسية المكشوفة، وظل يهوه بخصائص ذكورية واضحة يدخل في علاقة زواج مع إسرائيل المؤنثة. وعندما كان يهوه يصل إلى قمة غضبه، كانت اللغة الحسية، كما ينقلها الأنبياء، تصل إلى درجة الفحش ( راجع مثلًا حزقيال 23/2-18).
قد يشرح ذلك شيئًا من المفارقة في لغة العهد القديم وموقفه من الحب: فهو إجمالًا كتاب فقير روحيًا بالنظر إلى خطه الرئيسي الذي يدور حول مضامين اجتماعية سياسية تلخص الأهداف الدينوية للشعب العبري. وبالنظر أيضًا إلى لغته التعبيرية التي لا تتسم بالدفء، مما يظهر خصوصًا بالمقارنة إلى لغة العهد الجديد. وهو إلى ذلك يضع الكثير من المحاضير التشريعية على فكرة الاتصال بين الجنسين. ولا يظهر موقفًا وديًا حيال المرأة.
وبوجه عام، يصعب الحديث عن نفس صوفي صريح ( أعني بالمعنى الروحاني الضيق) في التدين العبري المكتوب في العهد القديم. ومع ذلك فهو يحتوي على كتابات صريحة في الحب الحسي، ومن بينها نصوص مطولة كنشيد الإنشاد الذي يستغرق سفرًا بأكمله من أسفار الكتاب، ويبدو كما لو كان مقحمًا عليه.
كيف تبدو لغة الحب في الكتاب المقدس بعهديه وبشروجه المسيحية قياسًا إلى لغة الحب في القرآن وفي التصوف الإسلامي؟ يتبع..