-1-
قال بهاء الدين ولد: “إن الرب يلتبس شكل النساء وشهوة الرجال. وإن عشق الرجال وذكور الحيوانات يصدر من أنهم يلامسون الرب في شكل المرأة أو الأنثى في أفعالهم في القبلات وما أشبهها. وقد يكتسب الرب شكل الرجال أو ذكور الحيوانات ليلامس الذات الأنثوية مثلما لامس مريم وكما تتلامس الأرواح الطيبة والشريرة. وقد يتخذ الرب شكل النباتات الخضراء والماء والهواء والأرض، ولا يعلم أحد أبدًا هيئته وطريقة هذا الاتصال وهذه الملامسة وهذا النكاح”.
ينتمي هذا النص إلى المدونة الصوفية المكتوبة بالفارسية في القرن السابع. وهو القرن الذي شهد اكتمال دورة التصوف النظري على يد ابن عربي. وبقدر ما يبدو صادمًا لحس المدونة الرسمية (الفقهية) التي تضعه في خانة التجديف، يبدو طبيعيًا في الوعي الصوفي الذي صار منفتحًا على وحدة الوجود ومجازاتها الحلولية:
ليس ثمة إلا الله، الذي يتجلى في صور الموجودات جميعًا. ولذلك فحين يحب الرجل المرأة ينصب حبه في الحقيقة على الله الذي “يلتبس شكل النساء” وحين تحب المرأة الرجل فهي في الحقيقة تحب الله الذي “يلتبس شهوة الرجال”.
ويسري ذلك على مفردات الطبيعة التي تتزاوج –بدورها- في نكاح إلهي دائم لا أحد يعلم هيئته ولا طريقته.
-2-
ستحظى هذه الفكرة بخدمات نظرية أوسع عند ابن عربي، الذي أعطى لوحدة الوجود إطارها النظري، وكرس حضورها في الثقافة الصوفية بشكل نهائي كنظرية موضوعية تفسر الوجود، وليس مجرد تعبير مجازي عن تجربة شعورية خاصة بذات فردية. وفي هذا الإطار أعاد ابن عربي تسكين الحب بوصفه “أصل الموجودات”:
“الإنسان صورة من الله، لأنه نفخ فيه من روحه، فما يشتاق إلا إلى نفسه.. ثم اشتق له منه شخصًا على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه، وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه. فحببت إليه النساء، فإن الله أحب من خلقه على صورته وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلى نشأتهم الطبيعية”.
إن الرجل يحب المرأة إذن، بوصفها صورة منه، مثلما يحب الله الرجل بوصفه صورة منه، “فما وقع الحب إلا لمن تكوَّن عنه”. وتحب المرأة الرجل بوصفه أصلها مثلما يحب الرجل الله بوصفه أصله.
وبحسب ابن عربي، يبلغ التعبير عن الحب الإلهي ذروته في الاتصال الجنسي، “فشهود الحق (الله) في النساء أعظم الشهود وأكمله”. ويشرح ابن عربي هذه المسألة في فصوص الحكم على النحو التالي: “ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة، أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح. ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أمر بالاغتسال منه. فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا ذلك:
فإن شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودًا في منفعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكون عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة، فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة. فلهذا أحب (صلى الله عليه وسلم) النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهده مجردًا عن المواد أبدًا.
وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعًا، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله. وأعظم الوصلة النكاح، وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه ليرى فيه نفسه”.
يحب الرجل النساء -يشرح ابن عربي- لأنهن محل الانفعال، وهن له “كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجه الإرادي والأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية (المادة الطبيعية)، وهمّه في عالم الأرواح النورية، وترتيب مقدمات في المعاني للإنتاج. وكل ذلك نكاح”. (الفصوص. فص حكمة فردية في كلمة محمدية).
-3-
يعود التصوف هنا ليلتقي من جديد مع فكرة التزاوج الإلهي، التي عرفتها سياقات التدين المبكرة. وهي سياقات تفكير “قبل يونانية” لم تفرق تفريقًا حاسمًا بين الحسي والروحي داخل الوعي الإنساني، فلم تنظر إليهما كمستويين متناقضين يسمو أحدهما على الآخر، ولم تتعاط مع الاتصال الجنسي كفكرة مرذولة في حد ذاتها، بل كمعطى طبيعي وثيق الصلة بفكرة الحياة وفكرة الألوهية معًا.
ويصدر التصوف هنا عن منهجيته الخاصة بما هو نسق تدين حر. أي بما هو نسق يفكر في الدين من خارج الإطار الرسمي للديانة، وإن لم يقطع معها كليًا. وكذلك بما هو نسق تدين مباشر يعول على القلب أكثر من تعويله على العقل، مما يسمح بإطلاق الطبيعة الحيوية للإنسان، وتحريك وعيه الوجداني، وهو التوجه الذي صار يتفاقم في ظل التأويلات الكلية لوحدة الوجود. يشرح ابن عربي في الفصوص كيف أن العقل يمثل حجابًا كثيفًا بين السالك إلى الله والحقائق الكشفية في أول الطريق الصوفي، ولذلك عليه أن “ينزل عن حكم عقله إلى حكم شهوته، وليكن حيوانًا مطلقًا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة عدا الثقلين، فحينئذ يعلم أن قد تحقق بحيوانيته” (الفص22).
-4-
منذ البداية يظهر الحب في أدبيات التصوف كفكرة مركزية. وربما كانت هي نقطة الصدام الأولى بين الصوفية الناشئة وسلطة الفقه النقلية القريبة من الدولة، قبل ظهور الشطحات الحلولية التي سيطلقها البسطامي والحلاج في نهايات القرن الثالث. لكن التعبير عن الحب الإلهي في المرحلة المبكرة كان يجري بطريقة مباشرة ذات نفس وجداني. أعني خالية من الرطان النظري، ومن التشبيهات الحسية. وظهر ذلك –غالبًا- في قالب شعري قريب من التقاليد العذرية، وفي كثير من الحالات اكتفى الصوفية بتمثل أشعار العذريين شرحًا لأشواق الوجد التي لا تنتهي إلى الذات الإلهية.
يشتكى ذو النون المصري:
أموتُ وما ماتت إليك صبابتي ولا رويت من صدق حبك أوطاري
وتتكرر الشكوى على لسان البسطامي:
شربت الحب كأسًا بعد كأس فما نفد الشراب وما رُويتُ
ويبث الحلاج معاناته في لغة عذبة:
يا نسيم الريح قولي للرشا لم يزدني الورد إلا عطشا
لي حبيب حبه وسط الحشا إن يشا يمشي على خدي مشى
لكن سمنون يستعذب آلام الشوق ويكتفي بالأحلام:
أحلى الهوى أن يطول الوجد والسقم وأصدق الحب ما حلت به التهم
ليت الليالي أحلامًا تعود لنا فربما قد شفى داء الهوى الحلم
تكشف هذه النماذج عن خصائص اللغة الصوفية الدافئة وهي تعبر عن الحب الإلهي في القرن الثالث. وهو القرن الذي شهد تبلور الصوفية كتيار متمايز داخل الثقافة الإسلامية. صار التصوف يعبر عن حالة أوسع من حركة الزهد العفوية المبكرة التي انطلق منها، ويشير إلى موقف موضوعي ومنهجي مغاير لموقف التيار الفقهي المهيمن. ويؤشر هذا التطور بالضرورة على حضور درجة من الوعي النظري، لكنه يظل محدودًا بالقياس إلى النشاط التنظيري الواسع الذي ستشهده المراحل اللاحقة، والذي سيبلغ ذروته في القرن السابع.
راكم التصوف مادة نظرية واسعة ذات قوام نثري في اللغتين العربية والفارسية. وانعكس ذلك بالطبع على مفهوم ولغة الحب الصوفي، الذي صار موضوعًا للتحليل أكثر مما للتعبير، وتحول من منطقة الفن إلى منطقة الفكر. لم ينقطع حضور الشعر في الأدب الصوفي، لكنه اكتسب نفسًا نثريًا جافًا بعد أن صار معنيًا بشرح النظرية الصوفية أكثر من التعبير عن مشاعر الذات.
يظهر التطور في مفهوم ولغة الحب الإلهي بين القرنين الثالث والسابع من خلال المقارنة بين الحلاج وابن عربي. يتبع