-1-
ظل ابن عربي نصف صوفي ونصف فيلسوف؛ منعه نصفه الأول أن يكون مفكرًا خالصًا كما كان يُفترض أن يكون، ومنعه نصفه الثاني أن يكون روحيًا صافيًا كما أراد هو أن يكون. فهل كان أيضًا نصف عاشق توزع شوقًا بين حب المرأة وحب الله؟
ينفي ابن عربي من حيث المبدأ فكرة التناقض بين الحبين؛ فالمرأة -حسب وحدة الوجود- صورة من صور التجلي التي يظهر الله فيها، ولذلك فالرجل وهو يحب المرأة يحب الله في الحقيقة. بل إن حب الرجل للمرأة وفناءه جسديًا فيها، هو أكمل أشكال التعبير عن حب الله، لأن الرجل حين يضاجع المرأة يندمج فيها بكليته كما لا يندمج في أي شيء آخر، بما أنها من نفس طينية التي خلقها الله على صورته.
في “فصوص الحكم” استكمل ابن عربي بناءه النظري لوحدة الوجود كمبدأ كليِّ يفسر جميع الحقائق في الألوهية والطبيعة والنفس. وفي هذا الكتاب -وهو أهم وآخر كتبه الكبرى- شرح نظريته في الحب الإلهي بشكل مفصل. وهي نظرية جريئة، تبدو سابقة لسياقها الزمني (القرن 7هـ/14م) بآلياتها المنهجية التي تجمع داخل المصطلح الصوفي بين مباحث متفرقة تنتمي إلى الفلسفة، والفن، وعلم النفس (سيظهر توافق لافت بين رؤية ابن عربي وقراءات حديثة في علم النفس الديني، مثل قراءة وليم جيمس لخصائص التجربة الدينية، وقراءة زينر حول البعد الجنساني في التجربة الصوفية في كتابة “الصوفية، والمقدس، والمدنس”. راجع أيضًا: دراسة كريستينا مازوني حول “العصاب، والصوفية، والجنس” ودراسة كونستانس فيوري بعنوان “الجنسانية” ضمن كتاب جامعة كامبردج عن “التصوف المسيحي” تحرير آمي هوليوود).
في السياق الإشكالي العام لتصوف ابن عربي، تبرز نظريته في الحب الإلهي كبند رئيس ضمن لائحة الاتهام “الفقهية” التي لا تزال مشرعة في وجهه.
لكن ابن عربي كان قد دخل في مواجهة مبكرة مع الأوساط الفقهية قبل تبلور نظريته في الحب بشكل واضح في فصوص الحكم.
-2-
حول هذه المواجهة المبكرة أخرج ابن عربي كتابه المعروف “ترجمان الأشواق”. ويعكس هذا الكتاب بشكل واضح خصائص كتابته المعقدة التي تتسم بالغموض والالتواء، فهو عبارة عن مرافعة مطولة يدافع فيها عن نفسه بصدد تهمة لا ينفيها أصلًا، أو لا يكاد ينفيها.
وكان ابن عربي قد انتقل إلى مكة سنة 598هـ، حيث اختلط بعائلة الفقيه المحدث زاهر بن رستم الأصفهاني، الذي أحسن ضيافته بوصفه صوفيًا معروفًا، وجمع بينه وبين ابنته الشابة، التي فتنت الشيخ الصوفي بعينيها الساحرتين وقامتها الهيفاء (وهذا من وصف ابن عربي لها في ترجمان الأشواق) فراح يشبب بها في أشعاره التي انتشرت بين الناس.
في أجواء التربص السائدة بين الفقهاء والصوفية، أنكر الفقهاء أن يكون ابن عربي أراد بأشعاره حب الله، بل حب الفتاة الفارسية التي ائتمن على صحبتها، والتي تغزل في مفاتنها بشعر مكشوف: “كان الشيخ يتستر لكونه منسوبًا إلى الصلاح والدين”، مما يشير إلى اتهام “أخلاقي” مباشر يتضمن النفاق والكذب وخيانة الأمانة، فضلًا عن لغة العشق الفاضحة.
يرد ابن عربي في ترجمان الأشواق بأن الفقهاء لم يدركوا حقيقة قصده، فهم لا يفقهون طريقه الصوفية “وما يأتون به في أقاويلهم من الغزل والتشبيب، ويقصدون في ذلك الأسرار الإلهية. فاستخرت الله تعالى تقييد هذه الأوراق، وشرحت ما نظمته بمكة المشرفة من الأبيات الغزلية في حال اعتماري في رجب وشعبان ورمضان، أشير بها إلى معارف ربانية، وأنوار إلهية، وأسرار روحانية، وعلوم عقلية، وتنبيهات شرعية. وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات، فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها، وهو لسان كل أديب ظريف، روحاني لطيف”.
اختزل ابن عربي المسألة في “طريقة التعبير الصوفية” التي لا يفقهها الفقهاء، فالمشكل يتعلق بلغة الغزل والتشبيب التي يشرح بها الصوفي عشقه لله، وهو مشكل اعتيادي متكرر في سياق الخصومة بين التصوف والفقه. لكن الفارق في حالة ابن عربي يكمن في وجود امرأة “حقيقية” وقع الرجل في غرامها وشبب بها في أشعاره، وليس امرأة “مفترضة” تحضر في القصيدة كوسيط رمزي يشير إلى المعاني الإلهية كما في معظم الشعر الصوفي.
لم ينكر ابن عربي غرامه بالفتاة المكية، فهي: “مسكنها جياد وبيتها من العين السواد ومن الصدر الفؤاد. أشرقت بها تهامة. وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فتمت أعراف المعارف بها بما تحمله من الرقائق واللطائف، عليها مسحة مَلَك وهمة ملِك”. وصرح في عبارة واضحة بأن غزلياته الشعرية كانت موجهة إليها: “فنظمنا فيها أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق وعبارات الغزل الرائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس ويثيره الأنس، من كريم ودها، وقديم عهدها، ولطافة معناها، وطهارة مغناها، إذ هي السؤال والمأمول، والعذراء البتول، ولكن نظمنا فيها بعض خاطر الاشتياق من تلك الذخائر والأعلاق، فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة، اهتمامًا بالأمر القديم، وإيثارًا لمجلسها الكريم، فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكنيّ، وكل دار أندبها فدارها أعني”.
ولكن ابن عربي يضيف بعد هذه العبارات قوله: “ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، جريًا على طريقتنا المثلى” يقصد الطريقة الصوفية المعهودة. ومعنى ذلك أن فتاة ابن عربي كانت بالنسبة له حبًا حقيقيًا ووسيطًا رمزيًا معًا (حيث لا تناقض). وهو ما يتناغم تمامًا مع نظريته في الحب الإلهي الذي يتحقق في أعظم صوره من خلال حب المرأة.
لكن ابن عربي –الذي استغرقه الغرض الدفاعي في ترجمان الأشواق- لم يحتج بهذه النظرية في معرض المواجهة مع السلطة الفقهية، فلم يتطرق إلى مشروعية حب المرأة وكونه أكمل صور التعبير عن حب الله، بل دافع عن نفسه بطريقة فقهية تقليدية نافيًا الوقوع في أي محظور شرعي، فبدا وكأنه يتبرأ من فعل الحب، وبدت المرأة عبر شروحه التأويلية مجرد رمز لا وجود له خارج القصيدة.
يعلن ابن عربي في مقدمة كتابه أنه أخرجه ردًا على اتهامات الفقهاء. لكنه تكلم فيه بلغة لا يفهمها الفقهاء، لغة التأويل الدارجة في الوسط الصوفي. لقد تجاهل المشكل كما طرحه الفقهاء وهو: عدم مشروعية الحديث عن الله بلغة العشق والغزل عمومًا، والتشكيك في مصداقية التأويل الروحي الذي يقدمه شرحًا لأشعاره بوجه خاص. وطرح المشكل بوصفه مسألة سوء فهم، أو سوء تفهم، يمكن رفعه بتأويل النصوص. لكن تأويلاته –بالطبع- لم تفلح في إقناع خصومه وظلت تلقي على موقفه ظلًا من التشويش والارتباك.
بالنسبة لي، وبعيدًا عن المقاييس الفنية البحتة، التي لا تحب الشروح، وتعتبر التأويل أسوأ طريقة ممكنة لمقاربة الشعر، خصوصًا من قبل الشاعر، وبغض النظر عن المقاييس الفقهية المغلقة، التي تتوجس من التأويل إجمالًا، وتحاكم الشعر بموازين النقل الحرفية، تبدو تأويلات ابن عربي لأشعاره في ترجمان الأشواق مفتعلة وركيكة، أعني مقحمة وظاهرة التكلف. كيف؟ يتبع
عبدالجواد يسن