قرأت للطبيب مصطفى محمود (ت2009)، في مجلة “صباح الخير” المصرية، تحت عنوان “الطّب الإسلامي”، ولم أجد فيه ما يقلب الطِّب، الذي ليس له دين ومذهب، غير عبارة: “يكتب الطبيب على الوصفة: “الشِّفاء مِن الله”، ونِعم بالله، لكنْ كيف يصبح الطَّب بها إسلاميّاً! الدَّعوة التي كشف عنها الطَّبيب لأسلمة الطَّب بعد الاقتصاد، وهو صاحب المؤلفات والبرامج التلفزيونيَّة التي كانت تُعتمد في بدايات الصَّحوة الدِّينية.
ينطبق هذا على كتاب “البنك اللاربوي”، والذي دفعني لإعادة قراءته الباحث العراقي حسين سميسم، في بحث قيم، تحت عنوان “مشكلة الرِّبا”. نجد في الكتاب تبديل تسمية بأخرى ومعنى واحد، فالفائدة تصبح هدية، أو وفاء الدَّين وفائدته بالوكالة، أو إتلاف القرض على وجه الضَّمان، والبيع بالمرابحة، وكلها لا تعني غير الفائدة، التي تحصلها البنوك المدنية، ويسميها الإسلاميون “البنوك الرِّبوية”.
قيل أُلف هذا الكتاب محمد باقر الصَّدر (أعدم 1980)، بطلب مِن مؤسسة إسلامية، تريد معرفة إذا كان بالإمكان أن يُطبق الإسلام كنظام مالي واقتصادي، والطَّلب ذهب إلى أبي الأعلى المودودي (ت1979) وغيرهما. فلما عزم الصَّدر على الكتابة في الموضوع قال له أحدهم: “لكن البنوك عِلم واختصاص”! فأجاب الصَّدر: “نختص ثم نكتب” (العاملي، الصَّدر السِّيرة والمسيرة).
أما الاختصاص الذي جاء بعبارة “نختص ثم نكتب”، فتحقق بطلب مساعدة طالب محاسبة كان يراجع الصَّدر، وآخر كان يتعامل في السُّوق مع المصارف (نفسه)، والاثنان مِن “حزب الدَّعوة”. السؤال: هل يكفي هذا لاختصاصٍ في المال والبنوك! التي اضطرت الدول جعل عطلتها توافق عطلات البنوك العالمية، وهي ليست إسلامية، لأن خلاف ذلك تتعرض لخسارة فادحة.
ارتبط البنك اللاربوي بالصَّحوة الدِّينية، التي أخذت تدب داخل المجتمعات في السَّبعينيات، فالبنوك اللاربويَّة لم تكن معروفة مِن قبل، على الرَّغم مِن أن الأوروبيين عرفوا النظام البنكي بحدود القرن (14) الميلادي، وأُنشئ أول بنك عثماني في القرن (19)، ونشأ أوائل البنوك بمصر 1920 بإشراف المختص بالمال طلعت حرب (ت1941)، وفي حفل التأسيس قال أحمد شوقي (ت1932): “قف بالممالك وانظر دولة المالِ…” (خطب طلعت حرب).
فبعد (2003)، صار الحكم بيد الإسلاميين، من رئاسة الوزراء إلى محافظ البنك المركزي، إلى فتح عشرات البنوك بالتنسيق مع البنوك الإيرانية، وكان همها تحويل الدُّولار من العراق إلى الخارج، لم يسع الإسلاميون أن يؤسسوا لبنك لاربوي داخل العراق!
استفسرتُ مِن المصرفي المعروف ضياء الخيُّون عن وجود البنك اللاربوي خلال “الحملة الإيمانية”، التي دشنها النِّظام السَّابق، فأفادني: “تأسس أول بنك على أساس لا ربوي إسلامي بداية التسعينيات… وبدعم مِن الرَّئيس ومصرف الرَّافدين بحوالى أربعة مليارات دينار… وكان ربح المشاركة والمتاجرة أعلى مِن الأرباح التّجاريَّة، التي تستوفيها المصارف التِّجاريَّة، وتحت مسمى المرابحة الإسلاميَّة، وجميعها فشلت”.
جاء في “البنك اللاربوي” بعنوان “التَّخريجات المتعددة التي تستهدف تحويل الفائدة إلى كسب محلل؛ وتطويرها بشكل مشروع”، أو”إلغاء العنصر الرِّبوي مِن الفائدة”:
- تحويل الفائدة إلى “جعالة”، أي هدية على المال المقترض: “مَن أقرضني ديناراً فله درهم، وهذه الجعالة تُغري مالك الدَّينار (البنك) فيتقدم إليه ويقرضه ديناراً، وحينئذ يستحق عليه الدَّرهم، وهذا الاستحقاق لا يجعل القرض ربوياً” (البنك اللاربوي).
- تحويل الفائدة مِن الحرام إلى الحلال، يعتمد على جعل القرض شيئاً آخرَ، “فلا تكون الفائدة رِباً قرضاً، وتصبح بالتالي جائزة” (نفسه). مثل بيع البنك الثَّمانية دنانير بعشرة دنانير مؤجلة، فهذه فائدة لا تُعد رِباً، لأنها بيع!
- تصبح الفائدة غير ربوية عندما يقوم البنك بتسديد الدَّين -شكلياً- وهنا يُتلف المال ويدخل في ملكية البنك.
- يقوم البنك بمهمة الكتابة، عند القرض، والكتابة تكون مدفوعة الأجر، لأنها عمل، فالبنك يأخذ الفائدة من طالب القرض كأجرة كتابة.
- المرابحة أو المبايعة أن يشتري لك البنك اللاربوي البيت، ويضع مبلغاً إضافياً عليه، فتكون مرابحة لا رِباً.
عموماً هي الفائدة تُسمَى “جعالة” (هَدية)، و”أجرة كتابة”، ومرابحة، وماذا يفعل البنك (الرِّبوي) غير منح مبلغ مِن المال ويُقدر عليه فائدة، أي الثَّمانية دنانير تستوفى عشرةً، وباتفاق. كُل هذا جرى ويجري لخدمة مال الإسلام السِّياسي، وخصوصاً البنوك التي افتتحها الإخوان المسلمون وبقية الجماعات الدِّينية، بداية مِن السَّبعينيات، محاولة فصل المجتمع عن المدنية، والحرب على البنوك الرَّسمية، للهيمنة على أهم مفصل مِن مفاصل الدَّولة وهو الاقتصاد، فأسلمة الاقتصاد تفضي إلى أسلمة المجتمع، لكن بألفاظ مختلفة ومعانٍ واحدة.
أن الإشارة إلى البنوك التِّجارية بأن التعامل معها يُعد حراماً، وهي في الغالب منها بالدّول العربية على وجه الخصوص، تابعة للدولة، على أن الفوائد، التي تأخذها البنوك على القروض والتي يأخذها المودع أيضاً، على أنها الرِّبا، مما يُشجع، بشكل أو بآخر، سرقة البنوك نفسها مِن قِبل العاملين فيها مِن المتدينين أو المنتمين للأحزاب الدِّينية، ومِن الذين يجدون في هذا التَّحريم عذراً وذريعة للسرقة، بينما البنوك تُعد عماد الاقتصاد وشريانه الأبهر. فلا أستبعد أن فكرة البنك اللاربوي، وتحريم التعامل مع البنوك الرّسمية له علاقة بالفساد الذي استشرى مثلاً في العديد مِن الدُّول، والعراق مثلاً على ذلك، فالذين يديرون المال العراقي هم مِن الأحزاب الدِّينية، التي تعتبر كتاب “البنك اللاربوي” نصاً مقدساً، بما يتعلق من منزلة مؤلفه عندها.
أقول: إذا كان الطَّب يتحول إلى إسلامي بعبارة، فالبنك الحرام يصبح حلالاً بتبديل اللفظ، واستخدام المفردات الفقهية. لعبيد بن الأبْرَص الأسدي (قبل الإسلام، وعُدَّ أحد أصحاب المعلقات العشر)، البيت الذي تداولته كتب “الفتوح”، عند إيلياء أو بيت المقدس (15هج): “هيَ الـخـمـرُ تُـكْـنَـى الـطِّـلاءَ/ كمَا الذِّئبُ يُكنَى أبَا جَعْدَة” (البيهقي، السُّنن الكبرى). هذا، ومَن يُراجع “فقه اللُّغة وسِرُّ العربية” لأبي منصور الثَّعالبي (ت429هج) سيجد للبئر والأسد والمطر وبقية الأشياء والكائنات عشرات الأسماء.
إن وجود اقتصاد إسلامي أو مسيحي ضرب مِن الوهم، فهو علم كبقية العلوم، مهما زُيِّن بالألفاظ لا يغير في الأمر شيئاً، كلّ هذا نشأ مع الإسلام السِّياسي. أما أنه في كلّ أزمة اقتصادية ومالية يطرح الإسلاميون بضاعتهم كبديل، فهذا لا يخرج من دائرة الادعاء.