دخل “الإرهاب النّسويّ”، أو ما يسمى عند الجماعات “الجهادية” المتطرّفة “بالجهادية النّسائية”، بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، التي مثّلت تتويجاً لخط الاستراتيجية القتالية الذي تبنّاه تنظيم “القاعدة” ضدّ العولمة العسكرية الأمريكية، طوراً جدالياً وازناً من إعادة التعريف لطبيعة دور المرأة الإرهابي ومكانتها ضمن التنظيمات الإرهابية المسلحة، إثر انسلاخها من عباءة أدوارها التقليدية صوب التلبّس برداء “الفعل” التنظيمي حدّ استلال ناصية العمليات الانتحارية.
ولا يعدّ مصطلح “الجهادية النسائيّة”، كمفهوم دلاليّ، حديثاً، إذ ظهر في مطلع تسعينيات القرن الماضي، فيما وجد جذور هويته الأيديولوجيّة في السلفية والإخوانيّة “القطبيّة”، نسبة إلى سيّد قطب الذي شكل الأرضية الفكرية الأم لكثير من الحركات الدينية السلفية المتطرفة، إزاء مناداته، مع “أبي الأعلى المودودي”، بمبدأ “الحاكمية”[1]، وتكفير الحكومات العربية والإسلامية، ومطالبته، في كتابه “معالم في الطريق”[2]، الذي أفرد فيه حديثاً عن النساء “المجاهدات”، بإعادة أسلمة الدولة والمجتمع عبر العمل المسلح العنيف، بوصفه أداة التغيير نحو “حلم” الخلافة الإسلامية، مما قاد إلى ولادة مفاهيم جديدة تصل حدّ تشريع إعلان الحرب ضدّ “الآخر” وداخل المجتمعات الإسلامية، ويسّر ولادة “جهاديّات” انبثقن من بين براثن خطابه السلفيّ، بوصفهن الأشد تمسكاً وانغلاقاً على المنظومة الدينية الإسلامية المتخيّلَة وفق أيديولوجية السلفية “الجهاديّة”.
إلا أن الاهتمام، المشوب بالقلق، نحو الحركات “الجهادية” المتطرّفة عامة، و”الجهادية النسائية” خاصة، تعزّز عقب أحداث سبتمبر (أيلول)، التي أفرزت، أيضاً، “قولبة” مفاهيمية حادّة عند إسباغ سمتي العدائية والإرهاب بالإسلام، والجنوح نحو التعميم الذي لا يأخذ بالمسوغات[3]. وقد صاحب ذلك “التفاتة” بحثيّة معتبرة نحو “الجهادية النسائيّة”، إزاء ظاهرة ارتفاع وتيرة انخراط النساء في المعاقل الإرهابية، العابرة للحدود الجغرافية والنطاقات الثقافية، فنشطت حركة فكرية “تأليفيّة” أسهمت في رفد المكتبة العربية والإسلامية، والغربية أيضاً، بمؤلفات زاخرة، رصداً وتشخيصاً وتحليلاً، ضمن إطار مغاير، نظير ما طرأ من اختلاف في أدبيات الصراع حيال ماهية الأطراف الداخلة فيه، لا سيما عقب أحداث سبتمبر (أيلول)، بعد أن أصبحت المواجهة تقع بين نظام عالمي مقابل جماعات وأطراف وليس دول، مما فتح دائرة جدل، لا متناهٍ، حول دور الدولة ووزنها في الساحة العالمية وقدرتها المضادّة للإرهاب، من دون أن يعني ذلك إلغاء الانشغال بالمحليّ والقوميّ لصالح الاهتمام بالكونيّ.
وبالرغم من أن الحضور النسائي في صفوف تنظيم “القاعدة” اتسم بمحدودية الأثر والتأثير، وبهامشيّة الدور الذي لم يخرج عن صنوف “التضامن” و”دعم” الأزواج الأعضاء فيه وتربية أبناء الإرهابيين، فإن “الأضواء” البحثيّة والإعلامية تسلطت عليه مع قيام “أبي مصعب الزرقاوي” (1966-2006) بإدراج النساء في العمليات الانتحارية بدءاً من العام 2005، الذي شهد تنفيذ “ساجدة الريشاوي”، مع إرهابيين آخرين، “تفجيرات عمّان” التي وقعت في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) من تلك السنة وأودت بحياة ستين شخصاً.
فيما تعاظم الاهتمام البحثيّ والفكري والإعلامي خلال حقبة صعود تنظيم “داعش” التي شهدت تنامياً في عمليات الاستقطاب والتجنيد للنساء، وتطوراً لافتاً لأدوارهن “الجهادية” التقليدية، بعد أن احتفظت المرأة في زمن الاستعمار، الذي خضع له العالمان العربيّ والإسلاميّ في نهاية القرن الثامن عشر، بأدوارها التقليدية “كمساندة” و”ميسّرة” أيديولوجية، ومن ثم “تضامنيّة” في مرحلة الحرب الباردة وبروز المسألة الأفغانيّة، عام 1979، وصولاً إلى حقبة الاحتلال الأمريكي للعراق، عام 2003، التي تعدّ أهم مراحل تطوّر الأيديولوجية “الجهادية” المتطرّفة عبر دمج البعدين “المحلي” و”العالمي” والمزاوجة في القتال بين “العدو القريب” و”العدو البعيد” من خلال تنظيم “القاعدة” الذي نحا صوب السيطرة والتمكين، حيث ابتعدت النساء داخل الحركات “الجهادية” المتطرفة عن الأدوار التقليدية نحو الانخراط في الأنشطة الإرهابية والعمليات الانتحارية، التي بلغت مداها مع تراجع حضور تنظيم “القاعدة” في الأوساط “الجهادية” وتصاعد نفوذ تنظيم “داعش” في مساحات شاسعة من سوريا والعراق، وتأسيسه كتيبة خاصة بالنساء، عام 2014، تسمى “كتائب الخنساء”[4]، التي باتت جزءاً من البؤر الإرهابية المشاركة في العمليات العسكرية، وذلك قبيل بلوغه طور الانحسار.
انتقل الجهد البحثيّ والفكري إلى مرحلة أكثر جديّة وعمقاً، عام 2011، مع انطلاق الحراك العربي للتغيير، أو ما يسمى “الربيع العربي”، الذي آل “ربيعاً جهادياً متطرفاً” بامتياز، وذلك لرصد وتحليل ظاهرة حضور “الجهاديات” المنقّبات المشاركات في المظاهرات الاحتجاجية، والذي بات مألوفاً إبان صعود “الإسلام السياسي” في المنطقة، لفترة قبيل انكفائه، فضلاً عن التغطية البحثيّة المسهبة للأدوار التي لعبتها النساء داخل المعاقل الإرهابية، لا سيما تنظيم “داعش”، والتي وصفتها الباحثة “سيران دي ليدي”[5] “بالخطيرة” نظراً لحساسيتها وطبيعة خدماتها، التي تتنقل بين مراتب “الداعمات” و”المجنّدات” و”الميسّرات” و”المعينات” و”الانتحاريات” وفق المهام المنوطة بهنّ، والتي لا تقل أهمية عن الدور الذكوري داخل التنظيمات الإرهابية المسلحة، باعتبارها مكملة له. وتتمثل تلك الأدوار في دعم الإرهابيين، كزوجات وأمهات، وتنشئة جيل جديد من المتطرفين، والتجنيد والترويج للأفكار الإرهابية، وجمع الأموال، وتهريب السلاح، والحسبة، والشرطة، والتعليم، والعمل الاستخباراتي، والجهاد الإلكتروني، والأنشطة القتالية، والعمليات الانتحارية، أسوة بطعن البريطانية من أصل بنجلاديشي، “روشونارا شودري”، في مايو (أيار) 2010، عضو البرلمان البريطاني لتصويته لصالح الحرب على العراق عام 2003، وتنفيذ إحدى بنات أم خالد الوهاجي، عملية انتحارية ضدّ وحدات حماية الشعب الكردي في معركة عين العرب “كوباني”، بعد سيطرة “داعش” على الموصل عام 2014.
وانبرت أقلام بحثيّة وفيرة لرصد “الإرهاب النسائي الإلكتروني” في سياق الحديث المسهب عن التجنيد الإرهابيّ عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ومن أبرزها “الفيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب”[6]، لما تشكّله بالنسبة لهنّ من منبر وازن لبث الرؤية “الجهادية” المتطرّفة، وجمع التمويل، من خلال التحويلات المالية البينيّة، ونيل التبرعات المرفقة بفتاوى دينية تدعو للتضحية بالأموال والأنفس، وتنفيذ الأنشطة الإرهابية[7]، وكسب المتعاطفين وتوسيع قاعدة الأنصار والمريدين، لا سيما بين صفوف الفئة الشابة عند التغلغل بين ثنايا الأزمات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، المجتمعيّة وطرح أنموذج “الخلافة” القائم على “يوتوبيا” الحق والعدالة والمساواة، بدون تقديم خطة محددة للحل، مما يسهل تجنيدهم من شتى أنحاء العالم ونقلهم إلى بؤر القتال، عدا عن كسب الدعم المعنوي، حيث شهدت بعض الصفحات الإلكترونية ما يسمى “البيعة الافتراضية” لزعيم تنظيم “داعش”، “أبي بكر البغدادي”، من جانب آلاف السلفيين الجهاديين، عقب إعلان “تنظيم الدولة”، في 29/6/2014، عن قيام “الخلافة الإسلامية” ومبايعة زعيمه “خليفة للمسلمين”، ودعوة المسلمين للهجرة إلى دولته، في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، مما ساهم في انتشاره وتنامي مؤيديه عبر العالم الافتراضي.
إن قراءة معمّقة لجهود المنظور البحثي، التي تم الاطلاع عليها، في تناول ملف “إرهاب النساء”، أو “الجهادية النسائية”، تفضي إلى الملاحظات التالية:
أولاً: أثّرت أحداث سبتمبر (أيلول)، والمرحلة اللاحقة بها حتى اليوم، في الاتجاه البحثيّ نحو “الإرهاب النسوي”، وفق قاعدة التوافق بأن الإرهاب لم يعدْ “ذكورياً” خالصاً، بل نسائيّ خطير، أيضاً، وذلك عند الإحالة إلى ازدياد أعداد النساء المنخرطات ضمن التنظيمات الإرهابية المسلحة، لا سيما تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، واتساع النطاق الجغرافي لانضوائهن، وتعدد أدوارهن، وارتفاع منسوب مشاركتهنّ في العمليات الانتحارية، حتى بلغت في العام 2016 وحده (29) مشاركة[8]، وسط انتشار الفتاوى الدينية الإسلامية التي تحث المرأة على الجهاد لنيل الشهادة والظفر بالجنة.
وبالرغم من “الالتفاتة” البحثية نحو “إرهاب النساء”، فإن الدراسات المعنيّة بها لا تزال قليلة، نسبة إلى نظيراتها المختصّة بالحركات “الجهاديّة” الإرهابية، والتي يغلب عليها المنطوق الذكوري، عبر التركيز على قادتها ومنفذي عملياتها، مع قلة الاهتمام بدراسة علاقة النساء بالعنف[9].
ثانياً: تقف، أحياناً، أجندات سياسية وأيديولوجية وإعلامية مغلفة بأفكار نمطيّة وصور مقولبة عن ظاهرة “النساء الإرهابيات”، فيما تختلط، أحياناً، التصورات المتخيلة والدعايات السياسية والإعلامية بالتوصيف المعرفي والموضوعي المتعلق بها، لا سيما مع صعود تنظيم “داعش”، عند تناسل عناوين لافتة مثل “جهاد النكاح”، على الرغم من الشكوك التي تكتنف صحته ومصدره، و”عرائس الجهاد”، و”زوجات البغدادي”، والتي لا تستند إلى أساس ثابت ودقيق، فإنها ارتبطت، أساساً، بحالة البلبلة وسوء الفهم والتشويش التي صاحبت دراسة الجماعات “الجهادية” المتطرفة، نتيجة مقاربات أيديولوجية استشراقية وثقافويّة مختزلة، عكست نفسها معرفياً على “الجهادية النسائيّة”، إذ “لطالما كانت المسألة الجندرية موضعاً لأخيلة وبحوث المستشرقين”[10]، مما أدى إلى غلبة مشهد ضبابيّ أثّر في دراسة الظاهرة وفهم واقعها وحجمها والشروط الفعلية التي دفعت مئات الفتيات إلى السفر، أو محاولته، للأراضي الواقعة تحت سيطرة “داعش”.
وقد انسحب تأثير تداعيات أحداث سبتمبر (أيلول) حيال الإسلام على صورة المرأة “الجهادية”، حيث تم وضعها في صيغة نمطية وتم اختزال دورها باعتبارها إما ضحية للجماعات الجهادية أو مستغلة من طرف الجهاديين، أو لناحية تسليط الضوء على العنف الإرهابي المرتكب ضدها، من خلال الخطف والزواج القسري والاغتصاب والاسترقاق والبيع، مما يعزز الأفكار المقولبة الخاصة بالجنسانية، “بحيث لا تعتبر النساء غالباً إرهابيات محتملات، ولا ينظر إليهن كأفراد يشكلون خطراً على غرار نظرائهن من الذكور في حال تورطن بالإرهاب”[11]. وهذا ما حاولت كل من الدكتورة آمال قرامي والباحثة منية عرفاوي التركيز عليه في كتاب “النساء والإرهاب: دراسة جندرية”، عند دراسة الظاهرة الإرهابية من زاوية الاهتمام بمنزلة النساء في صناعة العنف وممارسته، عبر تجنيد المرأة للقتال أو اصطفافها وراء التنظيمات المتطرّفة، بحيث “لم تعد ترمز إلى السلام أو الطمأنينة أو الضعف أو النقصان، وغيرها من التصوّرات التقليديّة التي يحملها المجتمع البطريكي عن النساء”[12]، بحسبهما.
ثالثاً: يعدّ “إرهاب النساء” ظاهرة معقدة إزاء تداخل جوانب نفسية وأيديولوجية ومجتمعيّة متعدّدة ضمنها، ناجمة عن خصوصيّة جندرية، لا سيما في المجتمعات العربية والإسلامية[13]، التي يتم فيها تحديد موقع مغاير لدور المرأة عن نظيره الخاص بالرجل، وهي قضية إشكالية تبرز في الأوساط “الجهاديّة” التي ترى أن عملية “الفصل” والتمييز بينهما مسألة دينية فقهيّة تستند إلى أحكام ثابتة ومستقرّة لا جدال فيها، مما يخالف مسار التنظيمات “الجهاديّة” المتطرفة، مثل تنظيميّ “القاعدة” و”داعش”، وبصورة أقل حدّة تنظيم “جبهة النُّصرة”، التي زجّت بمئات النساء في أتون هياكلها التنظيمية وعملياتها الإرهابية، الأمر الذي يتطلب دراسة الجدالات الفقهية والفكرية الواسعة في الأوساط “الجهادية” المتطرّفة المتعلقة بدور المرأة وموقعها من العملية “الجهاديّة”، عدا ضرورة فهم التحولات الأخيرة التي أصابت انتقالها من حيز الأدوار التقليدية إلى خانة العمليات الانتحارية، بعدما تخطّت الحركات “الجهاديّة” معضلات دينية فقهية لبلوغ المرحلة التي ضمّت فيها قرابة (550) امرأة “جهاديّة” مهاجرة من أوروبا وحدها إلى مساحات الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، إلى جانب أقرانها من مئات النساء اللواتي هاجرن من دول عربية وإسلامية إلى ما يسمى “دولة الخلافة” العتيدة. إلا أن الدراسات التي عنيت بهذا الجانب المهم قليلة، ونشير منها، على سبيل المثال لا الحصر، إلى كتاب “عاشقات الشهادة: تشكلات الجهادية النسوية من القاعدة إلى الدولة الإسلامية” للباحثَين حسن أبو هنيّة ومحمد أبو رمان[14]، الذي تناول بإسهاب معمّق التشكلات التاريخية الحديثة والمعاصرة للجانب النظري الخاص “بالنسائيّة الجهاديّة”، وكتاب “الإرهاب والنساء: دراسة جندرية” للباحثتين قرامي وعرفاوي (سابق ذكره)، الذي أفرد حديثاً غنيّاً ومحورياً عن التأريخ لظاهرة الإرهاب، ورصد الصلة التي تجمع بين الجماعات “الجهاديّة” المقاتلة، فضلاً عن تقديم تحليل للأيديولوجيا التي تنهض عليها، عبر مقاربة جندرية في معالجة ظاهرة الإرهاب، وهو جهد وازن من الباحثتين. فيما تأتي أهمية دراسة الباحثة “سيران دي ليدي” المعنونة “المرأة في الحركة الجهادية: نظرة تاريخية” (سابق ذكره)، التي تبحث بعمق في الدور التاريخي للمرأة في التنظيمات الإرهابية والمتطرفة، والجانب النظري المتعلق بالأيديولوجية التي ترتكز عليها الحركة الجهادية.
رابعاً: تناولت الدراسات البحثيّة المعنية “بالجهادية النسائيّة”، عبر إسهاب تحليلي معمّق، المسوّغات التي تدفع مئات النساء من فضاءات العالم المترامية إلى الانتماء ضمن صفوف “داعش” وارتضاء التضحية بكل شيء سبيلاً دؤوباً للالتحاق بالأراضي التي تقع تحت سيطرته، على الرغم من “انتهاج التنظيم سياسة دينية تؤسس لمجتمع بطريكي أبويّ لا مكان فيه للمساواة والحريات والمواطنة الكاملة، وغيرها من القيم التي أرستها الحداثة، وكرستها المواثيق والمعاهدات الدولية”[15]. وأجملت غالبية الدراسات[16] تلك الدوافع ضمن أسباب شخصية وأسرية وسياسية وتعليمية ومجتمعيّة، تقف وراء اعتقاد المرأة بقدرتها على تغيير واقعها المعيش من خلال السير في طريق التطرف، بدون إغفال محفزات أخرى تتعلق بالفئة العمرية الشابة التي يسهل التأثير عليها، ووجود نزعة العنف، واضطرابات الهوية، والإيمان الواعي بأفكار “داعش”، الذي لجأ إلى التوظيف الديني والسرد التاريخي سبيلاً للاستقطاب والتجنيد.
ومن الملاحظ هنا استناد غالبية الجهد البحثيّ إلى فرضيات تربط ظاهرة “الجهادية النسائيّة” بمستويات التعليم المنخفضة، والظروف الاقتصادية المتدنية، والخلفيات العائلية غير المستقرّة، والتهميش المجتمعيّ، وهي أسباب مهمة وقائمة، إلا أن الرؤية التقليدية “للدوافع” سرعان ما تغيرت مع ارتفاع منسوب تأييد “داعش” ونصرته بين صفوف الفئة الشابة المتعلمة والمرتاحة ماديًّا والمستقرة اجتماعياً، مصحوباً بتنامي أعداد المقاتلين العرب والأجانب، من مختلف المستويات العلمية والمجتمعية، بحيث لم يعد النمط السائد منحصراً ضمن أصحاب الطبقة الوسطى الدنيا أو الفقيرة ومن مستويات تعليمية بسيطة، وذلك للاصطفاف بالقتال إلى جانب “داعش”، الأكثر راديكالية والأقل تخففًا من تأثير الشيوخ ومصدّري الفتاوى لمصلحة غلبة القادة الميدانيين، إذ إن شروط القوة والعنف والسيطرة هي صاحبة الكلمة الأولى عند هذا “التنظيم” الإرهابيّ.
خامساً: انشغل الفكر البحثيّ المعنيّ “بالجهادية النسائية” بإيراد الدوافع والأسباب على حساب المعالجة ووضع الحلول المقترحة الكفيلة بدرء تبعات “عودتهن”، مع أبنائهن، لدولهن، ومحاولة نقل تجربتهن القتالية المتأثرة بأجندة “القاعدة” و”داعش” ضمن ساحاتها، محاكاة للحالة الأمنية التي مثلها أولئك العائدون من أفغانستان والعراق، عدا منذور تشكيلهن، مع نظرائهن الإرهابيين، “خلايا نائمة”، مرتبطة أيديولوجياً بالتنظيمات المسلحة، للعمليات الإرهابية، وقيام “ذئبات منفردات”، تحملن الولاء لـ”داعش”، بتنفيذ هجوم إرهابي، لا سيما بعد الإعلان عن هزيمة التنظيم ودحره “جغرافياً” عن آخر جيوبه الإرهابية في بلدة الباغوز السوريّة، في 23 مارس (آذار) 2019، من دون القضاء عليه نهائياً، مما يشي بمنذور اتساع نطاق العناصر المتطرفة المنتمية، فكرياً أو تنظيمياً، للتنظيمات الإرهابية، ويفتح الباب أمام تنفيذ عمليات مشابهة من قبل أنصارها المنتشرين في ساحات مختلفة من دول العالم.
وفي المحصلة؛ فتحت أحداث سبتمبر (أيلول) الباب واسعاً أمام جهد بحثيّ وازن، على الرغم من قلته نسبياً، لتناول ظاهرة “الإرهاب النسوي”، إلا أن الرصد التحليلي للدوافع والمسوغات التي وقفت وراءها جاء على حساب المعالجة ووضع الحلول الكفيلة بدرء تبعات عودتهن مع أبنائهن إلى دولهنّ، واحتمالات تشكيلهن بؤراً إرهابية “نائمة” أو “ذئبات منفردات”، في ظل انكفاء “داعش” عن ساحات سيطرته بدون القضاء عليه نهائياً.
[1] -Sayyed Abulala Maudoodi, Towards Understanding Islam, 8th ed, Lahore, Islamic Publications Limited, 1967, p.p.4-113.
[2]– سيد قطب، معالم في الطريق، الطبعة التاسعة، القاهرة، دار الشروق، 1982، ص36، ص54-55.
[3] -Bernard Lewis, Islam and the West, New York, Oxford University Press, 1993, p.4.
[4]– هاني نسيرة، “النساء والإرهاب… قراءة جندرية”، جريدة الشرق الأوسط، 16/10/2017، على الرابط:
[5] -Seran de Leede, “Women in Jihad: A Historical Perspective”, International Centre for Counter-Terrorism, September 2018.
[6]– انظر في ذلك: أماني المهندي، “توظيف التنظيمات الإرهابية لشبكات التواصل الاجتماعي في استقطاب الشباب: الاستراتيجيات وآليات المواجهة”، المركز الديمقراطي العربي، 12/3/2018. على الرابط:
https://democraticac.de/?p=52894
Dean C. Alexander, FAMILY TERROR NETWORKS, Book Baby, 2019.
جاسم محمد، “دور شبكة الإنترنت بالترويج للجماعات الإرهابية”، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 24/5/2017. على الرابط:
[7]– ندوة حول ”الإرهاب و المرأة”: إجماع على أن ارتفاع منسوب مشاركة المرأة في العمليات الإرهابية ظاهرة جديدة تستحق الدراسة، وكالة “باب نت” للأنباء التونسية، 3/1/2019. على الرابط:
[8]– المرجع السابق.
[9]– نيفين مسعد، “إرهاب النساء”، جريدة الشروق، 9/8/2018. على الرابط:
https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=09082018&id=be3300f7-463e-4453-b53c-59a3223e26f3
[10]– جوزيف مسعد، اشتهاء العرب، ترجمة: إيهاب عبدالحميد، دار الشروق، الطبعة الأولى، 2013، ص29.
[11]– النساء والراديكالية الإرهابية: التقرير النهائي، الطاولات المستديرة لخبراء مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فيينا، 2013، على الرابط:
/http://www.osce.org/ar
[12]– آمال قرامي، منية عرفاوي، النساء والإرهاب: دراسة جندرية، تونس، مسكلياني للنشر والتوزيع، 2017، ص53.
[13]– آمال قرامي، الجهاد النسائيّ: الإرهاب بنتاء التأنيث، المركز العربي للبحوث والدراسات، 20/6/2015. على الرابط:
[14]– حسن أبو هنيّة، محمد أبو رمان، عاشقات الشهادة: تشكلات الجهادية النسوية من القاعدة إلى الدولة الإسلامية، الأردن، فريدريش آيبرت، 2017.
[15]– قرامي، “الجهاد النسائيّ: الإرهاب بتاء التأنيث”، مرجع سابق.
[16]– انظر في ذلك: إقبال الغربي، الإرهاب النسوي: الأسباب والدوافع، الأردن، جامعة الزيتونة، 13/4/2016. على الرابط:
ميادة أبو طالب، “المجاهدات”: تفاصيل أخطر دراسة عن النساء المقاتلات في تنظيم “داعش”، وكالة الموجز للأنباء، 5/1/2015. على الرابط:
http://www.elmogaz.com/node/195222
قرامي، عرفاوي، “النساء والإرهاب: دراسة جندرية”، مرجع سابق.