في الحب والحب الإلهي (7)
العشق الصوفي (4)
مشكلة ابن عربي (2)
-1-
في ترجمان الأشواق، قدم ابن عربي بيانا نثريا مطولا لنصه الشعري ألقى فيه على القصيدة بحمولات ثقيلة من المعاني والمفاهيم الصوفية، غطت على جمال السر الكامن في الشعر، ونزلت بقيمة الخيال المضمر في المصطلح الصوفي ذاته. ما قيمة الشعر إذا كان يحتاج إلى كل هذه الشروح؟ وإذا كانت هذه الشروح ضرورية للمصطلح ففيم حاجته إلى الشعر؟
نفهم العلاقة الحميمة بين الصوفية والشعر. يعمل الشعر في خدمة الوعي الصوفي كآلية تعبير قادرة على بث نزوعاته الجمالية، وخيالاته الحرة المحملة بأشواق غامضة. كان الوعي الصوفي يختبئ وراء الشعر لتمرير إشاراته الممنوعة، ولتفجير شحنات وجدانية وموجات روحية عالية لا يحتملها العرف الفقهي النثري التوجه.
ينفرد ابن عربي -تقريبا- بين شعراء الصوفية بتقديم شروح تفصيلية لاحقة. اعتمد الشعر الصوفي المبكر –غالبا- على الكناية الكلية المفترضة التي يحملها الغزل. أما ابن عربي فلجأ -مضطرا- من خلال الشروح إلى تسكين مفاهيم التصوف داخل مفردات القصيدة، وأراد الإيحاء بأن هذه المفاهيم كانت حاضرة في وعي القصيدة منذ لحظة الميلاد. صحيح أن الشعر الصوفي المتأخر صار يحتوي مباشرة على صياغات معقدة للمصطلح الصوفي، لكنه لم يكن قط شعرا حقيقيا، أعني لم يكن شعرا جميلا، لأن الشعر الحقيقي هو الشعر الجميل.
على الرغم من تكوينه النظري، وتوافره على أدوات الصنعة، نقرأ لابن عربي أحيانا بعض الشعر الغزلي الجميل. وهو ما يمكن تفسيره بعمق التجربة الذاتية (معاناة حب لم يكتمل إشباعه)، وبنزعته “الإنسانوية” الجامحة، التي تظهر بقوة كلما تحرر من ضغوط الفقه.
تحت هذه الضغوط أخرج ابن عربي كتابه “ترجمان الأشواق”. صحيح أنه كان طوال الوقت في موقف دفاعي حيال مطاعن الفقه على مجمل رؤيته الصوفية ونظريته الصريحة في وحدة الوجود، لكنه لم يبد دفاعيا عبر كتاباته المتعددة مثلما بدا في هذا الكتاب، حيث قدم مذكرة إيضاحية مطولة لنصه الغزلي، أثقلت على النص نفسه، وخصمت من مصداقيته الجمالية.
-2-
تقلب ابن عربي في أشعاره بين أحوال الهوى، وتقمص أحيانا دور الشاعر العذري الغارق في عذابات الروح، وأفاض أحيانا في وصف مفاتن الجسد. وكان عليه أن يعيد تأويل مفردات العشق؛ القلب، والفؤاد، والشوق والحنين، والصد والوصال، والسهد والسهر، والشك والغيرة، والذهول والحيرة، والهذيان والجنون:
ليت شعري هل دروا أي قلـــب ملـــــــكوا
وفــــــؤادي لو درى أي شعب سلــــــكوا
أتــــــراهم سلـــــــموا أم تراهم هلـــــــكوا
حـــــــار أرباب الهوى في الهوى وارتبكوا
لا يعود الضمير في “هل دروا” على حبيبته الغائبة، بل على “المناظر العلى عند المقام الأعلى حيث الموارد الأحلى التي تتعشق بها القلوب وتهيم فيها الأرواح، ويعمل لها العمال الإلهيون“. أما القلب الذي ملكوه فليس قلبه، بل “القلب الكامل المحمدي لنزاهته عند التقيد بالمقامات”. وأما الشعب فهو “الطريق إلى القلب، لأن الشعاب الطرق في الجبال، فكأنه كما غابت عني المناظر العلى ترى أي طريق لبعض قلوب العارفين. واختص ذكر الشعب لاختصاصه بالجبل وهو الوتد الثابت يريد المقام فإنه الثابت، إذ الأحوال لا ثبات لها، وإذا نسب إليها الثبات والدوام فلتواليها لا غير على القلوب”.
في شروحه التالية سيعيد ابن عربي تأويل الجسد الأنثوي بأكمله؛ من العينين والخدين والشفتين إلى الثديين والخاصرة، والساقين والكعبين، وحتى الأرداف، بحيث تشير جميعا إلى معان علوية. ويتساءل المرء: كيف سيؤول ابن عربي الأرداف تأويلا علويا:
تمايل سكري كمثل الغصون ثنتها الرياح كمثل الشقيق
بردف مــــهول كدعص النقا ترجرج مثل ســـــــــــــــنام الفتيق
هي تمايلت عليه سكرانة بالهوى، كغصن ينثني بفعل الرياح، لكنه سيذهب بالمشهد بعيدا عن فحواه الحسي إلى معنى “الميل” القلبي البريء؛ يشرح ابن عربي: “قوله سكري يشير إلى مقام الحيرة، لأن السكران حيران، فإن الميل إلينا لا يكون إلا بقدر ما يقع من التفهم عندنا مما يناسب، كأحاديث الضحك والفرح والتبشيش وما أشبه ذلك”.
نلاحظ بالطبع أن المرأة تحضر هنا حضورا حقيقيا لا كرمز. ويظهر الغرض الدفاعي سافرا ومباشرا، فيتحول “التمايل” الجسدي إلى “ميل” معنوي وقور، يناسب ما يقبله الرجل من ملاطفات بريئة كأحاديث الضحك والفرح والتبشيش. وهو معنى لا يتناسب مع إيحاءات السكر والانثناء، ولا مع “مقام الحيرة” الصوفي الذي يبدو مقحما على السياق.
أما الردف المهول فـ”يشير إلى ما أردفه من النعم المعنوية وغير المعنوية على عباده. وقوله مهول، فمن فكر في ذلك عظم عليه وهاله ما أردفه سبحانه من جسيم مننه التي لا طاقة للعبد على القيام بشكرها. وشبهها بكثيب الرمل لارتكاب بعضها على بعض، وتصرفها وكثرتها، وتمييز بعضها من بعض كما تنفصل دقيقة الرمل من الرمل. ثم شبه حركتها في قلوب العارفين بها مثل سنام الجمل العظيم في الرفعة والسمن، فإنه دهن كله، والدهن ممد الأنوار للبقاء، فكذلك هذه العلوم إذا قامت بقلوب من قامت بها، أورثتها البقاء في النعيم الأبدي”.
انتقال مفاجئ إلى الرطان اللغوي، فليس ثمة علاقة بين الأرداف والإرداف إلا الجناس اللفظي. لكنه ليس غريبا على طريقة ابن عربي التعبيرية، التي تعكس سيولة تفكيرية فادحة. لا فواصل حاسمة بين قنوات الوعي الذي يستمد معارفه من إلهامات الروح كما يستمدها من تجارب الحس ونواتج العقل. لا يكاد الخيال يشير إلى عالم مفارق لعالم الواقع، ويمكن للحلم أن ينتج معرفة تصلح مقدمة لترتيب نتائج منطقية.
يريد ابن عربي لشرحه التأويلي أن يبدو روحيا، ومع ذلك يمكن التقاط ما يسري فيه من نغمة حسية مضمرة؛ الأرداف تشبه كثيب الرمل وسنام الجمل في علوها، وتكورها، وحركة ترجرجها. وهو يصف هذه الصورة كما هي في “قلوب العارفين بها” أي في وعي من يدركها ويشعر بإثارتها، وهو بالطبع وعي ابن عربي نفسه. وهذه لفتة لعوب، فمفردة “العارفين” بحمولتها الصوفية تقحم على السياق، لتختلط الصورة الحسية لدى “العارفين بها” مع الصور المعنوية لدى “العارفين بالله”.
وهو خلط مفهوم بل ضروري حسب نظرية ابن عربي في الحب، حيث لا تبدو الفواصل حاسمة بين الحسي والروحي داخل الوعي البشري “فلأن النفس الجزئية متولدة من الطبيعة، فإن اللذة الروحانية لا تخلص من الطبيعة أبدا”. ويترتب على ذلك في المقابل أن اللذة الحسية لا تخلو من بعد روحي، وهي في جميع الأحوال تدخل في “ما أردفه الله من النعم المعنوية وغير المعنوية على عباده”. وقد سبق للغزالي طرق هذا المعنى في كيمياء السعادة.
يضيف النص وجها جديدا للمشابهة بين الأرداف وسنام الجمل ومن ثم بينها وبين العلوم العلوية، يشرح ابن عربي: “فحركتها في قلوب العارفين بها مثل سنام الجمل العظيم في الرفعة والسمن فإنه دهن كله، والدهن هو ممد الأنوار للبقاء، فكذلك هذه العلوم إذا قامت بقلوب من قامت بها أورثتها البقاء في النعيم الأبدي”.
من جانبي، أفهم تشبيه الأرداف بالسنام “في الرفعة والسمن” وإن كنت لا أستسيغه جماليا، (كان ابن عربي على الرغم من نشأته الأندلسية ينتمي لثقافة التشبيه الدارجة في العربية الكلاسيكية). لكني لا أفهم ولا أستسيغ كيف أن “الدهن هو ممد الأنوار للبقاء”. ما العلاقة بين الدهن والأنوار والبقاء؟
قد يتعلق الأمر بمعارف بيولوجية مستمدة من خلفيات محلية، وقد يشير إلى نوعية الذوق الجمالي ومقاييس الجاذبية الجنسية في الثقافة العربية الوسيطة ولدى ابن عربي (نموذج المرأة الطويلة الممتلئة الجسم، التي وصفها الشاعر العربي القديم: غراء فرعاء مصقول عوارضها/ تمشي الهوينى كما يمشي الوجى الوحل). لكننا، بالطبع، حيال صورة من صوره التركيبية المعقدة المبنية على استيهامات داخلية مبهمة.
ربما كانت تأويلات ابن عربي في “ترجمان الأشواق” أسوأ ما كتب في الحب، وقد فعل ذلك تحت ضغوط فقهية معروفة. لكنه سيعود في “فصوص الحكم” ليقدم نظريته الجزئية حول الحب والحب الإلهي في إطار رؤيته الكلية لوحدة الوجود. وفي هذه النظرية كشف ابن عربي عن نزوع إنسانوي جامح، وعن منهجية تحليلية مركبة وغير مسبوقة في سياقه المعرفي العام، وانتهت إلى نتائج موضوعية مثيرة ومربكة، تتوافق -إلى حد بعيد- مع مقترحات علم النفس الديني الحديث.
كيف تقرأ ظاهرة العشق الصوفي في علم النفس الديني الحديث؟ يتبع