-1-
في القرن السابع الهجري كتب بهاء الدين ولد: “يمكن القول إنك ترقد في السجود على بديعة العينين، وتقبلها شفتاك بقراءة آيات الصلاة”.
لماذا لا يبرح الصوفي مدار العشق؟ لماذا تحضر المرأة دومًا في خيالاته وهو يتغزل في حب الله؟ ولماذا يتمادى بالغزل إلى أقصى درجات الشبق الجسدي؟
لا ترمي هذه الأسئلة -بالطبع- إلى استدعاء المشاكلة التقليدية بين الفقه والتصوف الإسلامي حول جواز وطريقة التعبير عن الحب الإلهي، بل إلى سحب المسألة لحقل الدراسات الإنسانية المعاصرة، التي تعيد قراءة الصوفية والظاهرة الدينية إجمالًا بما هي “واقعة” إنسانية تنشأ داخل الاجتماع، وبما هي، خصوصًا في علم النفس، “تجربة” ذاتية تنبع من باطن الوعي الفردي. بالنسبة لهذه القراءة، تبدو التجربة الصوفية من إحدى الزوايا وكأنما هي حالة وقوع في الحب الإلهي. يكاد المعنى الصوفي يُستغرق في العشق، الذي لا يجري التعبير عنه دائمًا بلغة عذرية، ويظهر السؤال عما يبدو أنه تشابك ضروري ومعقد بين الوعي الصوفي والحب الجسدي، وعما يبدو أنه تشابه مثير بين الاتحاد الصوفي والاتصال الجنسي.
في أشعار ابن عربي، كما تُظهر النقول السابقة من ترجمان الأشواق، كان بإمكانه مقاربة الحب الإلهي عبر التغزل في عيون المرأة وشفتيها وفي ساقيها وحركة أردافها، ولم يبتعد في ذلك عن مسار الشعر الصوفي بوجه عام. وفي شروحه التأويلية لهذه الأشعار، التي ضمنها كتابه ذخائر الأعلاق، اختبأ ابن عربي وراء فكرة “المجاز” الشعري كحائط صد أمام هجوم الفقهاء.
لكنه في كتاباته النظرية سيعبر عن مضامينه الحسية بلغة صريحة ومباشرة (ليست رمزية تمامًا)، وسيقدم تفسيرًا “طبيعيا” لحالة التشابك بين الوعي الصوفي والحب الجسدي، ولفكرة التشابه بين الفناء في الله والفناء في المرأة. شرح ابن عربي في “الفتوحات المكية” وبشكل أوسع في “فصوص الحكم” كيف أن “أعظم ظهور لله تعالى هو تجليه في المرأة للرجل وفي الرجل للمرأة”، وكيف أن الرجل يحب المرأة لأنها جزء منه كما أحب الله الإنسان لأنه صورته، وأن الرجل في حبه للمرأة إنما يحب الله في حقيقة الأمر، وهذا الحب هو ما يدفع الرجل إلى الفعل الجنسي بوصفه غاية الحب الطبيعية، “فليس في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أمر بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة”.
يقدم ابن عربي هذا الشرح في الفص السابع والعشرين “الكلمة المحمدية”، ويلاحظ أبو العلا عفيفي، وهو من أهم المعلقين المحدثين على تراث ابن عربي “أن أحدًا من شراح الفصوص لم يحاول صرف الفص عن ظاهره، مع أنه يكاد يكون من المستحيل فهم النص على ظاهره، إلا إذا اتهمنا ابن عربي بمادية شنيعة لا تتفق مع روح مذهبه”. ولذلك يتولى عفيفي بنفسه صرف النص عن ظاهره بغرض تبرئة ابن عربي من تهمة المادية (يقصد الحسية) الشنيعة فيذهب إلى أنه (يستعمل كلمة “المرأة” هنا رمزًا للدلالة على أي موضوع محبوب، و”الشهوة” رمزًا على الرغبة الملحة في الحصول على المطلوب و”وصلة النكاح” رمزًا على الاتحاد الصوفي، و”الاغتسال” رمزًا على الطهارة الروحية).
لكن هذا التأويل يبدو تحكميًا ومعاكسًا لرؤية ابن عربي، الذي أراد أن يجمع -عمدًا- في صعيد مفهومي واحد بين حب الصوفي لله وفنائه فيه وحبه للمرأة وفنائه فيها من خلال الفعل الجنسي. وعلى الرغم من أن شرحه لا يخلو كالعادة من الخلط الرمزي، يستخدم ابن عربي في مجمل النص لغة وصفية مباشرة، تناسب طبيعة الموضوع ومنهجية تناوله. كان ابن عربي على طريقته التركيبية يريد المزج بين الحسي والروحي داخل معنى الحب، ويقدم شرحًا في الفيزياء النفسية للإنسان التي تتسع لهذا المزج على نحو ضروري. وقد صرح بوضوح أنه “لما كانت النفس الجزئية متولدة من الطبيعة، فهي أمها والروح الإلهي أبوها، فإن الشهوة الروحانية لا تخلص من الطبيعة أبدا”.
لا يتوقف ابن عربي –كمجمل الوعي الصوفي- عند فكرة الفصل الحاسم بين الروحي والحسي والعقلي، وهي الفكرة التي تكرست في تراث الفكر التقليدي (بما في ذلك الفكر الديني الرسمي) بمؤثرات يونانية. وهذه واحدة من أهم خصائص الوعي الصوفي، بما هو تيار باطني “حر” يمارس التدين من خارج الأطر الرسمية للديانة. ومن هنا سهولة تلاقيه مع أنماط التفكير الروحي والباطني المتعددة سواء السابقة أو اللاحقة على الديانات الإبراهيمية. لقد كان التصوف في هذه المسألة يستأنف نسق التفكير الروحي في الديانات القديمة التي عرفت تداخلًا صريحًا بين المعنى الإلهي والحب الجسدي، وهو، بالطبع، نسق تفكير ما قبل يوناني. كارل جانج “Carl Jung” مؤسس علم النفس التحليلي، والمعروف بدراساته الموسعة في سيكولوجيا التصوف، يذهب مع مدرسته إلى ما هو أبعد، حيث يُعرَّف التصوف بوصفه “عودة إلى الحالة البدائية لعلاقات الحب عندما كان الوعي لم ينفصم بعد عن اللاوعي”.
-2-
في السياق المسيحي الموازي زمنيًا، كانت الصوفية المسيحية تنتج نصوصًا أيروسية مماثلة على طريقتها الخاصة. “قبل القرن الثاني عشر -يشرح كونستانس فيري- كان المسيحيون عادة يقرؤون نشيد الإنشاد كقطعة من الفن الرمزي، نص عن علاقة المسيح بكنيسته أو بمريم العذراء. لكن الراهب المسيحي برنارد أوف كليرفو وآخرين من شراح القرن الثاني عشر توقفوا مليًا أمام التصوير الزوجي والجنسي في نشيد الإنشاد لوصف الاتصال الحميم بين المسيح والمؤمنين. نحت بيرنارد مصطلحًا جديدًا عندما وصف نشيد الإنشاد بـ” كتاب التجربة”. ودشن بعمله هذا لظهور صوفية تجربيّة لا تظهر سماتها في لغة الزواج الصوفي فحسب، بل أيضًا من خلال لقاءات شبقية بين المؤمن والمسيح”. (Constance M,Fuery,Christian Mystusism, Cambridge Companion University Press2012)
الكتابات التي أخرجها المتصوفة التجربيون كانت حسية بشكل واضح، وتكلمت بإسهاب عن أغراض جسدية، وكما لاحظ فيري، لا تبدو معنية بإبراز البعد المجازي في عملية الاتصال؛ القديسة “Beatrice of Nareth” (ت 1268) تشرح تجربتها في الاتصال بالمسيح كالآتي: “العروق تنفجر والدماء تسيل، تجف الدهون وتذبل العظام، القلب يحترق والحلق ناشف، كان الجسد كله يشعر بهذه الحرارة الداخلية”.
وكتبت القديسة “Gertude of Helfta” (ت 1268) تصف دخول الكلمة في جسدها: “أحسست كأن بريقًا لا يمكن وصفه يخرج من عينيك الإلهيتين.. ويدخل بنعومة. في البداية شعرت كأن عظامي تفرغ من داخلها، ثم صارت العظام وما فوقها من لحم تنكمش وتذبل، حتى إنه لم يعد ثمة شيء أشعر بوجوده في كل كياني إلا هذا الجمال الإلهي الذي كان أروع من أن أقدر على وصفه”.
وتحكي القديسة “Angela of Foligno” (ت 1301) كيف اتحدت بالمسيح في غرفة المقبرة: كانت جميع أعضاء جسدي مستثارة بالفرح”، ” قبلت أولًا صدر المسيح، ثم قبلته في فمه.. وأخذت يده فوضعتها على خدها وهي تدفع بنفسها لتلتصق به”.
ويشرح جيمس فيتري في كتابه عن حياة القديسة “Marie of Oignies” (ت1309) كيف “بقيت مع عريسها في السرير ثلاثة أيام: كلما استشعرت الرب زادت رغبتها. كانت تتعذب، وصرخت عاليًا تستجديه أن يبقى ومنعته من المغادرة. احتضنته بين ذراعيها وتضرعت إليه أن يكشف نفسه لها أكثر”.
أما النموذج الأكثر شهرة في هذا السياق فهو القديسة الإسبانية “Teresa of Avilas” (ت 1582)، التي جذبت كتاباتها ذات الإيقاع الأيروسي اهتمام الباحثين في تاريخ التصوف المسيحي الوسيط، على مستوى الأدب، وعلم النفس، والطب النفسي، وحتى الفن التشكيلي.
في تعليقها على نشيد الإنشاد، التي أمرتها السلطة الكنسية بحرقها، كتبت تيريزا: “دعه يقبلني قبلة من فمه.. ثدياك أحلى من الخمر لأنها تفرز عبقًا من الروائح الرائعة”، وهذا يتوج فقرة تجمع فيها بين الزوجي والشبقي معًا؛ يشرح فيوري:”المزج بين العروس والطفل، بين العريس والأم، بين من يرعى ويعتني ومن يعاقر اللذة، يكشف كم هو صعب أن تفرق بين الحاجة إلى الطعام والحاجة إلى التلامس والنوم والجنس، بين الاستثارة والإشباع”.
تقدم تيريزا وصفًا تفصيليًا لواقعة اختراقها بسهم الملاك: “في يديه رأيت سهمًا ذهبيًا هائلًا، تظهر في حافته الحديدية نقطة من نار. دفع السهم إلى قلبي عدة مرات حتى تغلغل في أحشائي، وعندما أخرجه أحسست كأنها خرجت معه وتركتني وقد اجتاحني الحب العظيم للرب. كان الألم قويًا وأطلقت تأوهات. لذة الألم كانت طاغية لدرجة أن المرء لا يتمنى توقفها، ولا تريد النفس شيئًا إلا الرب”.
في القرن السابع عشر يلتقط النحات الإيطالي بيرنيني هذه اللحظة من النشوة ويسجلها في تمثاله الشهير لتيريزا، مصورًا إحساسها العارم بالإثارة تحت الملاك: “يدها مفرودة بعيدا عن جنبها، قدم عارية تندفع من تحت الثوب، ووجهها يتلوى إلى أعلى بفم مفتوح، وجفونها نصف مغمضة، وسواد عينيها يدور إلى الوراء”. وفي القرن العشرين سيعلق المحلل النفسي جاك لاكان على هذه الصورة بصراحة صادمة: “إننا نشاهد امرأة لحظة بلوغ شهوتها، لا شك في ذلك”. (Furey,Christian stisism,P.328) MY
كانت التجربة الصوفية بأبعادها الشبقية قد دخلت في القرن التاسع عشر إلى مجال علم النفس والطب النفسي حيث صارت تناقش كظاهرة عُصابية تقرأ في سياق التحليل النفسي وعلم الأمراض، وتطور النقاش إلى الحديث عن أعراض هستيرية مصاحبة للتجربة خصوصًا لدى القديسات الإناث. وبوجه عام صار الموضوع الجنسي مبحثًا متكررًا في دراسات الظاهرة الصوفية.
يتبع