لا تبدو سيرة “ابن عمر الروسي”، الكنية التي اتخذها الشاب مراد بيتدايف، بعد التحاقه بتنظيم “داعش”، والمولود في العام 1995، في جمهورية قرشاي–شيركسيك، التابع لإقليم الشابسوغ على البحر الأسود، سوى فصل متكرر، يشبه غيره مع من وقعوا تحت هيمنة وتأثيرات الخطاب السياسي والأيديولوجي، لما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، والذي استهدف عناصر عربية وأجنبية عديدة.
في الملفات التي حصل “المسبار” على نسخة منها، وتشمل مجموعة من المعلومات التنظيمية، حول الأعضاء الجدد والوافدين، بعد التحاقهم بالتنظيم في سوريا والعراق؛ في ما يعرف بـ”بيانات المجاهدين”، وضمن قسم خاص، يعرف هو الآخر بـ”الإدارة العامة للحدود”؛ المسؤول عن توفير قاعدة بيانات رئيسة عن هؤلاء المجندين في صفوف داعش، فإن ثمة أسئلة عديدة وإشكاليات مثيرة، تنبعث فيما يخص واقع التنظيم، وهياكله الإدارية والتنظيمية، التي تعنى بحصر أفراده، وتصنيفهم من نواح عدة؛ سواء العمرية، والصحية، والتعليمية، والأسرية، وارتباطاتهم التنظيمية السابقة، والبلدان التي عبروا إليها وسبق لهم زياراتها.
ويُضاف إلى ذلك بطاقة “التزكية الشرعية”، التي دعمت مرور الأفراد إلى التنظيم، عبر أحد الشيوخ الموثوق بهم، وغيرها من الأمور ذات الصلة.
اللافت أن التنظيم منذ اللحظة التأسيسية الأولى، تعامل باعتباره دولة، يخضع الأفراد لنظمها الداخلية الخاصة، بناء على قواعدها التنظيمية، ونظم إداراتها للأفراد. فهو يضع قاعدة بيانات كاملة، توفر له معرفة تامة بالفرد، في محاولة لإخضاعه لأسرته الأيديولوجية الجديدة، وإجهاض ارتباطاته السابقة بأي أشكال تنظيمية مغايرة لها على صلة بالواقع المجتمعي والسياسي والتربوي الوافد منه.
تبدأ الوثيقة بشعار “داعش” وصورة للراية السوداء المكتوب بداخلها شهادة التوحيد: “لا إله إلا الله.. محمد رسول الله”، يتوسطها إعلان “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وفي أقصى الوثيقة لجهة اليسار “الإدارة العامة للحدود”.
تبدأ البيانات بمجموعة من الأسئلة. هي بالترتيب حسبما جاءت بالوثائق: الاسم واللقب، الكنية، اسم الأم، فصيلة الدم، تاريخ الولادة والجنسية، الحالة الاجتماعية، العنوان ومحل الإقامة، التحصيل الدراسي، المستوى الشرعي، ما هي مهنتك قبل المجيء، البلدان التي سافرت إليها وكم لبثت بها، المنفذ الذي دخلت منه والواسطة، هل لديك تزكية من أحد ومن؟، تاريخ الدخول، هل سبق لك الجهاد وأين؟، مقاتل أم استشهادي أم انغماسي؟، الاختصاص، مكان العمل الحالي، الأمانة التي تركتها، مستوى السمع والطاعة، العنوان الذي نتواصل معه، تاريخ القتل والمكان، ملاحظات.
ما يقارب الـ(23) سؤالاً، تحفر أسفل الطبقات الشخصية للفرد، الذي أمسى عضواً في تنظيم “داعش”. أسئلة تشكل صورة بانورامية حول العضو الجديد، للتعرف على هويته، وتحديد عناصرها الأولية، بدقة، بحيث يمكن تحليلها وإعادة تركيبها وتوظيفها، بالشكل الذي يستفيد منها التنظيم أقصى استفادة. حلقات عديدة ومعقدة، تصهره داخلها حتى لا ينفك بسهولة من حالة الطواعية والالتزام والانضباط.
في حالة ابن عمر الروسي، الذي لا يتجاوز (24) ربيعا من عمره؛ فإنه أعزب، بحسب الوثيقة، كما لم يكمل تعليمه الجامعي، بينما المستوى الشرعي الذي حصل عليه، كما يحدده: “بسيط”. إذ يحدد التنظيم ثلاثة مستويات من بينهم: “متوسط” أو “طالب علم”. بينما لم يسبق له الجهاد، تحت لواء أي تنظيم آخر، ولم يسافر إلى أية دولة، حتى مجيئه إلى “داعش”.
حصل على “التزكية الشرعية”، كما ورد بالأوراق الخاصة به، من شخص يدعى “يعقوب الشيشاني”، ويحدد صفته التنظيمية كـ”مقاتل”، وليس “استشهادياً” أو “انغماسياً”، وهي ضمن الخيارات التي يحددها التنظيم لأفراده في الورقة التي يتسلمها لتصنيفه من “الإدارة العامة الحدود”. عبر إلى التنظيم من منفذ “جرابلس”، بواسطة شخصية أخرى، تدعى “أبو محمد الشمالي”.
مستوى السمع والطاعة غير محدد في حالة الشاب العشريني، كما أنه، حسب الوثيقة، لا تتوافر ثمة ملاحظات حوله، وليس هناك توضيح لتاريخ مقتله في حال إذا وقع ذلك من عدمه. غير أنه ترك جواز سفره في “الأمانات”، وترك رقمي هاتف للتواصل بشأنه، دون أن يحدد هوية أصحابهما.
وتوثق “الإدارة العامة للحدود”، تاريخ دخوله للتنظيم في 22 أغسطس (آب)، العام 1435 هجرياً. أي في العام 2014 ميلادياً. قبل نحو أربعة أعوام.
منفذ جرابلس الحدودي بين سوريا وتركيا، يمثل أحد المعابر الاستراتيجية التي استخدمتها المجموعات المقاتلة والعناصر المسلحة، على تباين أهدافها ومسمياتها، منذ أحداث ما عرف بـ”الربيع العربي”، خصوصاً، الحراك الاحتجاجي في سوريا، وسياقه المأزوم، حتى اللحظة الراهنة. إذ سيطر على معبر جرابلس في محافظة حلب، جماعة “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، قبل نحو خمس سنوات، ويقطن فيها حوالي (30) ألف مدني، وانتقلت من خلاله العناصر الجهادية، ودخول المجموعات القتالية، وتهريب السلاح.
ثمة أثر وملمح غير خافيين يتعلقان بمنفذ جرابلس، الواقع شمال سوريا، وارتباطه بطموحات تركيا، كلاعب إقليمي، يطمح إلى دور مؤثر في هذه المنطقة، كما تسعى لتأمين مصالحها، وتحييد الصراعات داخلها، لا سيما مع وجود القوات الكردية في مناطق انتشارهم، مما يثير توترات عميقة لدى أنقرة تجعلها تتوغل فيها، وتصنع ولاءات عديدة في تلك الجغرافيا المتغيرة، تبعاً للتحولات السياسية والميدانية، وذلك عبر توطين مجموعات من المعارضة المسلحة تدين لها بالولاء لخدمة أهدافها.
“أبو محمد الشمالي”، وهو الشخص ذاته، الذي ورد اسمه في الوثيقة، باعتباره ساعد ابن عمر الروسي، على عبور منفذ جرابلس الحدودي وبواسطته، تحفل سيرته بالعديد من المحطات المثيرة في النشاط الجهادي، منذ العام 2005، حين بدأت صلاته التنظيمية بالانضمام إلى تنظيم القاعدة، في العراق، قبل أن ينشق عنهم، ويلتحق بالتنظيم الجديد “داعش”.
تمكن أبو محمد الشمالي بين عامي 2013 و2015، من نقل وتهريب ما يقارب الـ(6000) عنصر، بغية ضمهم إلى صفوف تنظيم الدولة، وذلك من جنسيات مختلفة، من بينهم شخصيات عربية وأوروبية وآسيوية.
ورد اسم أبي محمد الشمالي، أكثر من مرة، في وثائق عدة؛ كأحد العناصر الفاعلة والمسؤولة، بصورة مؤثرة، عن تهريب ونقل العناصر الجديدة المنضمة لداعش، في سوريا، خصوصاً، من طريق غازي عنتاب، في تركيا، ومنها إلى مدينة جرابلس، المتاخمة للحدود السورية- التركية، والتي ظلت تحت سيطرة التنظيم، حتى العام 2016، بعد تحريرها منهم في معركة “درع الفرات”.
كما كانت أنقرة من بين أبرز المدن التي ساهمت بقوة في توطين عناصر داعش، وعبورهم إلى مناطق نفوذهم، بحسب العديد من الوثائق، التي برز فيها اسمها واسم منافذها الحدودية، بالإضافة إلى اعتبارها محطة كذلك، التقى فيها الوافدون الجدد بقيادات التنظيم، للحصول على ما يعرف بـ”التزكية الشرعية” والوصول إلى المهربين.
ارتبطت مدينة “جرابلس” السورية والمتاخمة لتركيا، بشخصية أبي محمد الشمالي، القيادي في تنظيم الدولة، وأمير منطقة دير الزور السورية، والذي كان مسؤولاً عن “إدارة الحدود”؛ ومهمته هي استقبال المتطوعين والأفراد الجدد، وتوفير الإمكانات اللوجيستية حتى تسليمهم لأماكن نشاطهم الجهادي في مناطق سيطرة التنظيم. وبحسب وزارة الدفاع الروسية، فقد تم التخلص من أبي محمد الشمالي؛ إذ قضى مع أربعين آخرين من قيادات التنظيم، في غارة شنتها طائرات روسية، في مدينة دير الزور، شرق سوريا، بعدما استهدفت “مركز قيادة” و”مركز اتصالات” تابعين للتنظيم.
لدى الصحافي الكردي في معهد واشنطن، باز علي بكاري، شهادة يخص بها “المسبار”، حيث تصادف وجوده، في مدينة جرابلس، في العام 2016، أثناء عملية “درع الفرات”، التي شرعت في تنفيذها تركيا، بواسطة مجموعة من المعارضة السورية المسلحة، المتحالفة مع أنقرة، حيث يقول: “بعد أيام عدة من سيطرة تركيا على المدينة، نقل لي بالحرف أحد قادة الفصائل السورية المسلحة المعارضة: “نحن لم نخض أي معركة. في الليل قال لنا الأتراك سنتحرك، وفي الفجر دخلنا المدينة وكانت فارغة من عناصر داعش”.
ويضيف، أن تركيا عملت على تأمين عبور آمن للجهاديين، من كل دول العالم، ولتسهل تنفيذ مهمتها؛ أبقت على المعابر الحدودية مع سوريا، لكن معبر جرابلس لم تسلط عليه الضوء. فمنذ بداية الثورة، كان التركيز الإعلامي على معبري أعزاز وتل أبيض، مما سهل لتركيا أن تستخدم المعبر مع جرابلس ليعبر من خلاله الجهاديون.
ويردف: “استفادت تركيا من الجهاديين، وبالأخص تنظيم داعش، ويمكن تلخيص هذه الفائدة في وضع جرابلس، حيث إن تركيا حين قررت تقديم نفسها للعالم بأنها تحارب داعش، كان بهدف التصدي لأكراد سوريا، ومنعهم من ربط مناطقهم في كردستان سوريا بعضها ببعض. وفي ليلة وضحاها خرجت داعش، ودخلت تركيا مع مجاميع مسلحة محسوبة على المعارضة السورية، وأعلنوا نصراً على داعش، ومن ثم، نجحت تركيا في توظيف داعش، بهدف تمرير مخططاتها، وتقدمت جزئياً في ذلك.
ومن جهته، يشير قيادي في الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني (تحفظ على ذكر اسمه)، إلى أن معبر جرابلس ظل قنطرة لتدفق الجهاديين إلى تنظيم الدولة، كما ظلت توفر لهم الحماية والدعم، وتقديم كافة الخدمات اللوجيستية، وبالرغم من عدم وجود وثائق معلنة، حتى الآن، تكشف عن مضمون تلك الاتفاقات بينهما، لكن سير الأحداث يرجح ذلك الاعتبار، بالإضافة إلى الشهادات اليومية، إذ لم يحارب الجيش التركي التنيظم الإرهابي الموجود على حدوده لسنوات، وهو الذي يزعم أن محاربة الإرهاب على حدوده تدخل في سياق أمنه القومي.
ويضيف: “خلال العام 2014، وأثناء سيطرة التنظيم على قبر سليمان شاه، كنا نرى الإمدادات والمساعدات اللوجيستية، تصل للجنود الأتراك، الذين يحرسون القبر، ولا يتم ذلك إلا من خلال عناصر تنظيم داعش. بينما عملية “درع الفرات” والتي حققت هدفها في أقل من ساعة، تفضح وجود تنسيق مع الطرف التركي، وممثله المحلي من المعارضة المسلحة في سوريا، حيث إن مدينة جرابلس قد خلت من عناصر داعش، بدون مقاومة، وهو أمر غير معتاد على عناصر التنظيم، الذين لا يفرطون بأي مدينة إلا بعد معارك ودمار لمدنها، وهو ما شاهدناه خلال عمليات تطهير قوات سوريا الديمقراطية للمدن التي كانت تحت سيطرة داعش. بيد أن ثمة شهادات من قيادات تنظيم داعش، ممن هم محتجزون لدى قوات سوريا الديمقراطية، تكشف عن وجود علاقة وتعاون بين الطرفين، وأن الانسحاب من مدينة جرابلس كان مرتبا له ومتفقاً عليه”.