لم تعد الساحة الدولية محصورةً بقطبٍ واحد، ولا بصراعٍ بين قطبين كما هو الحال قبل التسعينيات، بل ظهرت مجموعة من الأقطاب تتنافس على التأثير والنفوذ، وهذا أمر مفهوم ضمن التفتت الذي رسخته تحولات جذرية تبدّت أواخر القرن العشرين، وذلك ضمن مسارٍ يتحدث عن سقوط فكرة القطب الواحد، وانتشار الشظايا بوصفها مؤثراتٍ ترسم مسارات السياسة والجغرافيا والأفكار، والدليل الأوضح على ذلك ما نشهده اليوم من تنافس على التأثير بين أميركا والصين وروسيا، وبخصوص الأخيرة فقد أسهمت جهود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ترسيخ موسكو لمكانتها كدولة محورية في الساحة الدولية، تُسهم في رسم وتوجيه المسارات، بممارستها لسياسة خارجية مستقلة ومنفتحة على العالم.
سعت موسكو إلى زيادة قدرتها بالتأثير على المجريات السياسية، بإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، إذ أفصح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2000 عن عناوين السياسة الخارجية في بلاده، أو ما عرف بـ”مبدأ بوتين”، الذي دعا لإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، يكون لروسيا دور أساسي فيه، ويُفعل دور روسيا الإقليمي والدولي، ويتيح تنوع التأثير على المجريات الدولية.
عام 2008 قام الرئيس الروسي آنذاك دميتري ميدفيدف بتضمين تعدد الأقطاب كأحد المبادئ الخمسة الرئيسة للسياسة الروسية الخارجية قائلا: “ينبغي أن يكون العالم متعدد الأقطاب. أحادية القطب غير مقبولة”. وقد ورد هذا المبدأ في العديد من الوثائق الرسمية كذلك.
أفصحت استراتيجية الأمن القومي الروسي لعام 2009 عن عزم روسيا المشاركة بفاعلية “في تطوير نموذج متعدد الأقطاب للنظام الدولي”. وقد حدد مفهوم السياسة الخارجية لعام 2013 هدف “تأمين المكانة الرفيعة لروسيا في المجتمع الدولي كأحد الأقطاب المؤثرة والتنافسية للعالم الحديث”.
وثمة دول كثيرة ترقب هذه التصريحات باهتمام في عالم تقولب على الخيارات وعرف قيمة المنافسة التي تصنع التقدم والاستدامة والأفضلية. إلا أن التفكير فيما يتعلق بهيكلية النظام الدولي، يعود إلى مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة. إذ أعرب محللون عن وجهات نظر متزايدة بشأن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن الدول الكبرى -ومن بينها روسيا- تعاطت إيجابًا مع فكرة الاندماج في المنظومة الغربية في أوائل التسعينيات، فإن هذه الدول تسعى إلى التغيير في النظام. فالعالم الذي تتسع قمته لأكثر من رأي ودولة وتوجه ليس عدوًا لأحد. فالنظريات المتقدمة في المجالات كلها تُؤسس اليوم لفكرة التعددية داخل الوحدة ذاتها. فالشراكات الناجحة تتجمع أولاً برعاية وسهولة التعددية.
لقد ابتدأت موسكو وحلفاؤها في إنجاز مؤسسات إقليمية بديلة حيناً، ومنافسة أحياناً، للمؤسسات الغربية في أوقات أخرى. إذ دعمت موسكو الاتفاقات السياسية الأمنية والعسكرية البديلة، داخل منطقتها، مثل: (منظمة معاهدة الأمن الجماعي)، و(الاتحاد الاقتصادي للمنطقة الأوروبية- الآسيوية). هذا إلى جانب توثيق علاقاتها مع بكين. وقد سعت القوتان إلى دعم المؤسسات التي تقع خارج نطاق النظام الغربي، بما في ذلك: (المصرف الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية)، إلى جانب دعمهما لمجموعة دول البريكس، التي تتألف من (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا) BRICS.
العلاقات السعودية- الروسية في نظام دولي قيد التشكل
لقد برزت مكانة موسكو الدولية في السنوات الأخيرة، إذ اتخذت مواقف بارزة عديدة في العديد من القضايا الإقليمية والدولية. وقد انعكس تصاعد قوة موسكو على دورها وسياساتها تجاه الشرق الأوسط، ونجاح جهودها الدبلوماسية مع غالبية الدول المحورية في المنطقة.
وفي إطار ذلك، بالإضافة إلى قضايا أخرى، استشعرت كل من موسكو والرياض لزوم تمتين العلاقات الثنائية، بإيلاء الاهتمام إلى الأرضية المشتركة بينهما، على خلفية تنامي الدور الإقليمي لكل من القوتين في ظل عالم متغير تشوبه الفوضى. وفي ظل رؤية سعودية يُجمع حولها حلفاء الاستقرار؛ فإن كبح جماح التطرف والإرهاب والأزمات المالية والمآسي لن يتوقف طالما لم تنطلق التحركات والسياسات من مبدأ تعزيز الاستقرار، والاستدامة.
وقد أسهمت بعض المتغيرات الهامَة في دفع العلاقات السعودية- الروسية صوب هذا الاتجاه. فبعد الفراغ الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وصعود قوى ظلامية لوراثة القوى الكبرى بعد 2011، هذه العوامل الدولية أتاحت المجال بشكل أكبر لروسيا في تعزيز الدور الذي تلعبه بالمنطقة. والأمر ذاته، قد شجع المملكة العربية السعودية، على توسيع دائرة حلفائها، والنظر إلى روسيا كشريك دولي جديد، يلعب دورًا إقليميًا ودوليًا فاعلًا .
ومن جهة أخرى، لقد وثَّقَ العلاقات الروسية- السعودية، تناسب مواقفهما في العديد من القضايا الدولية والإقليمية، وحاجة الطرفين إلى التعاون في ملفات محورية، كحاجتهما إلى استقرار أسعار النفط، وجهودهما المشتركة في المجالات المتنوعة، العسكرية منها والاقتصادية والتكنولوجية والتقنية وفي مجال مكافحة الإرهاب الدولي.
وبالنظر إلى الداخل السعودي، لقد دفعت رؤية 2030 التي أطلقها سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والتي تهدف إلى تنويع الاقتصاد، وتحديث المجتمع والأمة، إلى لزوم توسيع تحالفاتها الدولية، وفتح الطريق أمام الاستثمارات الأجنبية. فضلًا عن تنويع مصادر سلاحها، والانفتاح على الخبرات الروسية المتطورة في المجالات التقنية والعسكرية.
مستوى جديد من التعاون
لقد عكست الزيارة التاريخية للعاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز إلى روسيا عام 2017، أهمية كبرى لكونه أول ملك سعودي يزور روسيا الاتحادية. شكلت الزيارة انعطافة هامة في العلاقة بين الدولتين، وقد حققت مستوى جديدًا في تعزيز العلاقات الثنائية وتطوير التعاون المشترك، لصالح الدولتين وشعبيهما، وخدمة لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة. وقعت على إثرها الرياض وموسكو اتفاقيات ضخمة تقدر بالمليارات، بمجالات متنوعة تضم قطاع الطاقة والصناعات العسكرية والتكنولوجيا والاستثمار وغيرها.
وللإنصاف، لا بد من الإشارة إلى أن جهود ورؤية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان نجحت في إذابة الجليد عن العلاقات السعودية- الروسية. إذ قام بعدة زيارات قيِّمة للكرملين، التقى فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتباحث الطرفان قضايا إقليمية ودولية عدة. بالإضافة إلى مساعيهما في تعزيز العلاقات الثنائية بين الدولتين، وتكريس جهودهما على الأرضية المشتركة بينهما، خاصةً فيما يخص المبادرات النفطية. إذ اتفق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في لقائهما الذي تم على هامش قمة العشرين، على التعاون المشترك والمستمر، لتحقيق ما يلزم، سواء برفع الإنتاج مرة وخفضه تارة أخرى، تبعًا لما يجب، للحفاظ على استقرار أسعاره. الأمر الذي أخرج اتفاقًا نفطيًا إلى العلن OPEC+. الذي أتاح للمرة الأولى إمكانية تعاون دول منتجة للنفط، من خارج (أوبك). ونجحت صداقتهما الوثيقة في إطلاق مرحلة جديدة من التفاهم تدعم الاستقرار والسلام في المنطقة. ويتطلعان بكلٍ ثقةٍ إلى الأمام، لدحر التطرّف واجتثاثه. وفق حزمة مبادرات سعودية لتطوير مفاهيم ثقافة الاعتدال.
المصالح الاستراتيجية السعودية- الروسية أزاحت عوائق النجاح أمام علاقتهما
لقد أزاحت هذه الصداقة ومعها المصالح الاستراتيجية السعودية- الروسية عوائق النجاح أمام علاقتهما. تعمل الدولتان اليوم بشكل وثيق للغاية في مجال الأمن لمكافحة التطرف والإرهاب، وتتشاركان برؤية متشابهة للمشاكل والتحديات الموجودة في المنطقة والعالم. وتسعى كلتا الدولتين للتسوية السلمية للنزاع في سوريا على أساس بيان جنيف والقرار (2254) الصادر عن هيئة الأمم المتحدة. كما تأمل الدولتان أيضاً بتسوية الأزمة اليمنية على أساس القرار (2216)، كما تؤيدان المشاريع الأممية لترسيخ السلام في الشرق الأوسط. ويملك خادم الحرمين الشريفين وفخامة الرئيس فلادمير بوتين تفاهمًا عميقًا وتربطهما صداقة نادرة.
يبدو أن المسافة بين الرياض وموسكو ستميل للتقارب بشكل أكبر مستقبلًا، وهو طريق نحو تعزيز رؤية جزيرة الاستقرار العربية في محيط من الفوضى المصنوعة.
نشرت المادة في مجلة “رؤية روسية” Russian Viewفي عدد (يناير- فبراير) 2019.