المنظور المقابل
-1-
في الجانب الإسلامي تتعدد أشكال التعاطي مع الظاهرة:
على المستوى الأصولي تقرأ “الإسلاموفوبيا” كموقف طبيعي متوقع ومفهوم من قبل الغرب ” الصليبي” الكافر، الذي لم يتوقف قط عن كراهية الإسلام والتآمر عليه، بغض النظر عن تحولاته الحداثية وخطابه العلماني المعلن. وتقرأ في الوقت ذاته كعلامة تشير الى قوة المد الإسلامي التي صارت كافية من جديد لإثارة الخوف في معسكر الأعداء.
تصدر هذه القراءة عن نسق تفكير قروسطي لا يزال يصنف العالم من منظور ديني حصري، حيث يلزم على الدوام نفي الآخر المخالف. وفي هذا الإطار يظهر الصدام الراهن بالغرب كحلقة من سلسلة الصراع الضروري والطويل بين الحق والباطل. الغرب هنا معطى ديني، والصراع معه في جوهره صراع ديني، بغض النظر عن حيثياته الثانوية الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية المباشرة. وهي تلتقي في ذلك مع قراءات مقابلة في الفكر الغربي المعاصر، كقراءة هنتنجتون التي تستعيد الزخم للبعد الديني الثقافي كمثير محوري للصراع بين الحضارات في المراحل القادمة (على حساب البعد القومي الأيديولوجي)، وترشح الإسلام كطرف ثقافي مقابل للغرب في صراعه الحضاري الوشيك.
قياسًا إلى قراءات إسلامية أقل تشددًا، تبدو القراءة الأصولية أكثر وعيًا بالعمق التاريخي للظاهرة، وتعمل على تفعيله. وهي تماهي بين نفسها وبين الإسلام في أصوله التأسيسية (النص) وليس في مصادره الثانوية (الفقه). الأصولية هنا ليست شيئًا آخر غير الإسلام ذاته، وفي ذلك أيضًا تلتقي مع قراءات واسعة الانتشار داخل اليمين الغربي المحافظ، لا تفرق بين الإسلام والحركة الأصولية الإسلامية، ولا تقر من ثم بوجود تمايزات حقيقية داخل هذه الحركة تسمح بالحديث عن تيارات معتدلة أو أقل تشددًا. ليس ثمة فوارق جوهرية بين داعش، أو القاعدة، والإخوان والأحزاب السياسية التي ترفع شعارات إسلامية، فجميعها يسعى إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي النهائي ذاته، وجميعها يصدر عن مرجعية واحدة تعكس طبيعة الإسلام كدين راديكالي عنيف.
يمكن التمثيل لهذه القراءات (التي تتنامى في الغرب خصوصًا في أمريكا بعد حوادث سبتمبر/ أيلول) بتحليلات مشيل فلاين (المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي) الذي كتب يقول: “نحن في حرب عالمية ضد حركة مسيانية هائلة لأناس شريرين يستلهم معظمهم أيديولوجيا شمولية هي الإسلام الراديكالي”. هذه الأيديولوجيا تجمع بين الأحزاب السياسية الإسلامية، والجهاديين السنة، والثوريين الشيعة. هناك “قتلة متعصبون يعملون نيابة عن حضارة فاشلة”.
هل يترجم فلاين في إطار نظري ( ثقافوي) طبيعة التفكير الشعبي الذي لا يستطيع التمييز بين الفكرة وممثليها من جهة، ولا بين الفكرة ومستويات تمثلها من جهة ثانية؟ أم إن المسألة تتعلق برؤية أكثر تركيبًا، حيث يعمل الفكر النظري بنزوعه التعميمي على تكوين صورة كلية لن تتطابق تمامًا مع مفردات الواقع، تلك المفردات التي يستطيع الوعي الشعبي التقاطها والتعبير عنها أسرع من الفكر؟
يسترجع فلاين المعنى الحضاري للصراع حيث يعمل الدين كمحرك أساسي. لكن هذا المعنى لا يحضر بشكل مستاو لدى الطرفين. بل يظهر بوضوح لدى الطرف الإسلامي. وبالنسبة له، المواجهة ليست بين الإسلام والمسيحية بل بين الإسلام والغرب الذي يمثل -في حد ذاته- حضارة كاملة أوسع من رافدها التراثي المسيحي. هذا المعنى يتقاطع مع الموقف الأصولي الذي ينظر إلى المواجهة كصراع ديني خالص بالنسبة لطرفيه، لا لأحدهما فحسب. في الموقف الأصولي طرفا الصراع هما: الإسلام، والغرب المسيحي الصليبي المتآمر على الإسلام. وليس الغرب الكولونيالي الإمبريالي، أو الرأسمالي المتوحش، أو الحداثي الحر والغني، كما يريد اليمين الأمريكي أن يصدر الصورة.
لكن الفكر الغربي يتسع لتيار مقابل يستطيع التمييز بين الإسلام كدين سلمي نسبة إلى مبادئه الكلية، والأصوليات الإسلامية كجماعات سياسية يمارس بعضها العنف في سياقات اجتماعية/ اقتصادية/ ثقافية غير مواتية. ويستطيع رؤية فوارق واضحة داخل هذه الأصوليات بين جماعات عنيفة، وأخرى معتدلة، أو حتى سلمية.
يبدو هذا التيار أكثر احتكاكًا بتفاصيل الخارطة السياسية والاجتماعية المعقدة في المنطقة الإسلامية، أو أكثر اهتمامًا بالاعتبارات الدبلوماسية ومشاعر الجمهور المسلم. وينتمي إليه مؤيدو الطرح الأمريكي السياسي الذي كرسه الديموقراطيون، والذي يروج للتحالف مع الإخوان المسلمين كجماعة معتدلة وقادرة على امتصاص التطرف والعنف الأصوليين:
مارك لاينش (الباحث في جامعة جورج واشنطن) يشير إلى مقاربة فلاين “كنموذج تجميعي ساذج، يصنع من التيارات والحركات الشعبية عدوًا كبيرًا واحدًا، ويراها متوافقة مع مواقف الأنظمة العربية التي تريد نزع الشرعية عن خصومها السياسيين المعتدلين”. وحسب لاينش “أفكار وممارسات الإسلاميين قابلة للتكيف بسهولة مع تحولات الواقع، وهي تتحول عبر الزمن استجابة للظروف السياسية، ولا يمكن اختزالها من خلال القراءة في نصوص كلاسيكية أو مقولات أيديولوجية. الإسلاميون عمومًا لا يتحدثون باسم المسلمين، والإسلاميون الجهاديون ليسوا كالإسلاميين في نموذج الإخوان المسلمين. والتعاطي معهم جميعًا كجزء من حركة واحدة ينتج تحليلًا فقيرًا، ويؤدي إلى نتائج عكسية”. هنا يحضر البعد السياسي الاجتماعي في تحليل الظاهرة على حساب البعد الديني، الذي يتم تغييبه أو تأخيره تأسيسًا على موقف نظري، أو دواعٍ عملية (سياسية) مباشرة.
-2-
لا تستغرق الأصولية بالطبع مساحة التفكير الإسلامي، وأسبقيتها هنا تأتي في سياق دورها كمثير مباشر لظاهرة الإسلاموفوبيا. في الإطار الإسلامي يلزم قراءة الموقف الأصولي المتشدد والعنيف، قياسًا إلى موقف التيار العام المعتدل والسلمي إجمالًا. الحديث عن التيار العام يعني الحديث عن نسق التدين الشعبي، الذي يضم الغالبية العظمى من المسلمين من جهة، والحديث عن نسق التدين الرسمي، الذي يمثل خطاب المدونة الرسمية، من جهة ثانية. وسأقصر الحديث هنا على هذا النسق الأخير المحكوم بضوابط الفقه واعتبارات القرب من الدولة؛ كيف يبدو موقفه حيال العنف وحيال الآخر، ومن ثم حيال الأصولية، والغرب، وظاهرة الإسلاموفوبيا؟
بصرف النظر عن موقفه العملي المتوازن عادة، يقدم التيار الرسمي قراءات مضطربة حيال مسألة العنف. وهو في ذلك يعكس الاضطراب الكامن في المدونة المرجعية الإسلامية التي يصدر عنها، والتي تحتوي على مبادئ كلية سلمية، ونصوص تحريض قتالية. ويعكس في الوقت ذاته الاضطراب الناتج عن ضغوط الثقافة الحداثية، التي تدفع باتجاه التعددية والتسليم بوجود الآخر.
ينفي الخطاب الرسمي “تهمة” العنف عن الإسلام، ويعتمد في ذلك على آليات دفاع تبريرية وتأويلية متنوعة، تروج لفكرة التفريق بين الإسلام وتاريخه السياسي المشبع بالعنف من ناحية، وبينه وبين الحركات الأصولية القائمة التي تمارس العنف باسمه من ناحية ثانية.
لكن الفكر الإسلامي المعاصر -الذي لم يطور آلياته الأصولية الموروثة- لا يزال يواجه صعوبات حقيقية في الترويج لهذه الفكرة، بسبب بقاء الأسئلة الشائكة التي تدور حول “صلابة” التأسيس الأصولي لممارسات العنف. فهذا التأسيس لا يستند إلى الروافد الثانوية للمدونة (الفقه الاجتهادي) فحسب، بل إلى مصادرها الأصلية ممثلة في النصوص (آيات القتال الهجومي الصريحة في القرآن المدني، والممارسات العنيفة المنسوبة إلى الرسول).
بوجه عام، يقر التيار الرسمي بمشروعية “الجهاد” كحكم فقهي منصوص. ومن داخل هذا الحكم يقرأ “الفتوحات الإسلامية” كفعل ديني مشروع، لا كفعل سياسي تاريخي يعبر عن فائض القوة واندفاع الدولة. لكنه يتكلم “أحيانًا” عن الغرض الدفاعي للجهاد، وعن شروط تفصيلية مطلوبة فيه (تتعلق بالأطراف/ الوسائل/ التوقيت/ الملاءمة/…)، ويناقش مدى انطباقها على ممارسات الأصولية الجهادية، التي تتماثل حججها مع التبريرات الفقهية لحركة الفتوح.
يظهر هذا التيار بشكل أساسي في خطاب “المؤسسة” الدينية المندمجة –تقريبًا- في الدولة، والتي تعاني من صعوبات التوفيق بين مفاهيم الفقه وحاجات الدولة الوطنية. كما يظهر في أدبيات الإسلام الثقافي التقليدية (المنتسبون الإسلاميون من خارج المؤسسة وخارج الأصولية) المعنية بإشكاليات التوفيق بين المدونة الموروثة وثقافة الحداثة.
-3-
في تعاطيه مع ظاهرة الفوبيا، يبدو الخطاب الرسمي معنيًا في المقام الأول بتبرئة الإسلام من تهمة العنف، وفي المقام الثاني بتقمص دور المدافع عن مصالح المسلمين المهاجرين في الغرب. في الحالتين يُظهر الخطاب تجاهلًا نسبيًا (متعمدًا بالطبع) للعمق الديني التاريخي للظاهرة، بالتركيز على سياقاتها السياسية الاقتصادية المعاصرة، ليلقي باللائمة على موجة التطرف اليميني المتشدد التي تجتاح المجتمعات الغربية، ومثيلتها الأصولية الإسلامية المقابلة، التي يتفاقم حضورها في هذه المجتمعات، ويدفع ثمنها المسلمون المهاجرون بالذات.
تظهر المسألة هنا كمشكل حادث وآني، نوع من “الأزمة” يتعلق أساسًا بالمهاجرين، ويمكن مواجته بآليات سياسية وإعلامية قصيرة أو متوسطة الأجل. وفي هذا السياق يأتي الحديث عن أداء المسلمين المهاجرين وصعوبات الاندماج.
بنوع من التقمص الحداثي صار الخطاب الرسمي يدعو المهاجرين إلى الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، لكن مع الحفاظ على هويتهم الإسلامية. وهي دعوة تتسم بالتبسيط الشديد، لأن الاندماج الحقيقي (الفاعل) يعني ما هو أكثر من الانخراط السياسي القانوني في نظام تعددي قائم نظريًا على فكرة المواطنة. الاندماج الحقيقي في جوهره هو عملية تتعلق بالهوية ذاتها، أي بالعمق الاجتماعي النفسي الثقافي. أيّ عملية اندماج تنطوي بالضرورة على تنازل جوهري، أي على درجة من التحول على مستوى الهوية.
ومع ذلك، فحتى عملية الانخراط السياسي القانوني صارت تتحمل بمفردات الشحن الديني المحموم من الطرفين، أي صارت تتحول إلى عملية هوياتية، ثمة في الواقع إشكاليات ناجمة عن التسرب الأصولي المتفاقم في وعي المهاجرين المسلمين في الغرب، والذي يتزايد على وقع الاحتكاك اليومي بالتيارات الراديكالية والأصولية المقابلة. لكن المشكل الأكثر عمقًا يتعلق بالوعي الإسلامي الكلي أصلًا، أعني بمكوناته التأسيسية الموروثة من ثقافة تدين تاريخي، ذات طابع جمعي وإجماعي. الأحادية الحصرية نقيض مباشر للتعددية ولمعنى الاندماج.
يتجاوز هذا المشكل بالطبع، إمكانات الفكر الإسلامي المعاصر، لا بسبب قصور أدواته السلفية التقليدية، التي لا تزال تتعامل مع المشكل كمسألة فقهية فرعية فحسب، بل -أصلًا- بسبب القصور العام في حركة التطور. أعني وتيرة التغير في الهياكل الكلية (الاقتصادية/ العقلية/ الاجتماعية في المحيط الإسلامي). التحولات الكبرى في الثقافة، تأتي كرد فعل تدريجي بطيء لتحولات الاجتماع الكلي، وليس بالإدارة المنفردة للفكر. وهو ما يذهب بالمشكل إلى حلول الأجل الطويل.