كريم شفيق- صحافي مصري
بينما تردد تنظيم جند الأقصى الذي تشكل في سوريا، كأحد التنظيمات المسلحة والجهادية، التي تهدف إلى الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، وتخوض الحرب الأهلية القائمة بشقيها المحلي والإقليمي، بين فكرين وأيديولوجيتين؛ تمثلان جبهة النصرة، وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، كان كبير أحمد، المكنى بـ”أبي سمية البريطاني”، يحسم أمر نفسه، على مستوى ارتباطه التنظيمي، وعضويته في جند الأقصى، فقرر الانتقال إلى تنظيم داعش، في العراق.
في إحدى الوثائق التي تسربت للعلن وحصل مركز المسبار للدراسات والبحوث على نسخة منها، أخضعها لمراجعة ودراسة، يرد اسم كبير (عبدالكبير) أحمد أو أبو سمية البريطاني؛ وتحوي الوثيقة معلومات أساسية عنه، تُعرف بـ”بيانات مجاهد”، وضمن القسم المعروف في تنظيم “داعش” بـ“الإدارة العامة للحدود“.
يتضح من خلال تلك البيانات، أنه مواليد بريطانيا، في النصف الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 1983. التحق بصفوف تنظيم “داعش” في رمضان عام 2013. حصل على تدريب في كشمير بباكستان، كما تزعم الوثيقة “التي حوت أسئلة محددة بعقلية أمنية عسكرية، تناسب احتياجات التنظيم الإرهابي” وأجابت عن معلومات تخص “الجهادي” السابق ومكانه. بيد أنها لا تذكر الفترة التي قضاها وتاريخ وصوله.
أعلن “أبو بكر البغدادي“ (قتل 2019) أواخر عام 2013، عن تمدد تنظيمه، الذي زعم أنه صار “الدولة الإسلامية في العراق والشام“، عوضًا عن “الدولة الإسلامية في العراق“، الأمر الذي يعني أن يلتحق تنظيم “جبهة النصرة“، بقيادة أبي محمد الجولاني لتنظيم الدولة، مما تسبب في تصدع بينهما على المستوى التنظيمي والفكري. وعلى إثر ذلك، انشق العشرات من العناصر التابعين لجبهة النصرة، ممن رفضوا الاقتتال الحاصل بينهما، وشكلوا تنظيمًا تحت مسمى “سرايا القدس“، والأخير تحول إلى “جند الأقصى“.
قاد الانشقاق محمد يوسف عثمان العثامنة، المكنى بـ“أبي عبدالعزيز القطري“، مؤسس جند الأقصى، وهو غالباً فلسطيني، من مواليد العراق، تربطه صلات وطيدة بتنظيم القاعدة في أفغانستان. بيد أنه انضم إلى صفوف تنظيم “دولة العراق الإسلامية“، عند عودته إلى العراق. وفي مطلع عام 2012، دخل إلى سوريا، برفقة الجولاني، بغرض تأسيس فرع للتنظيم في الشام.
إذاً، أعلن “أبو عبدالعزيز“ تأسيس جند الأقصى، الذي تشكلت بنيته التنظيمية بالأساس من خلال مجموعة من المقاتلين الأجانب، غير السوريين، ممن يعرفون بـ“المهاجرين“، وهم وفدوا إلى سوريا من بلدان عربية أو أوروبية، ولهم خبرات قتالية وأمنية عالية.
وفي أحد إصدارات التنظيم الإعلامية، رفض أبو عبدالعزيز المشاركة في القتال بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة، واصفاً الخلاف بين الجولاني والبغدادي بـ“التنظيمي“، ولا يجوز الدخول فيه.
وحسب ما هو موضح في الوثيقة محل النظر؛ فإن أبا سمية البريطاني، متزوج وله ابنان، لكنه ترك أسرته وهو يصعد إلى عالمه الجديد والمتخيل، حيث كان في العقد الرابع من عمره، حين التحق “بتنظيم الدولة”، كما يحفل تاريخه بمحطات لا يستهان بها في النشاط الجهادي؛ بدأ بخلفية مع تنظيم القاعدة، وقد تدرب في معسكراتها في باكستان، بالإضافة إلى أن له نشاطاً دعوياً بالأساس، منذ كان في بريطانيا، وتحديداً في مدينة ديربي، التي قطن في أحد شوارعها، والتي هي بحسب الوثيقة: ( “108Madeley st derby de 238 ex –Britain“).
تعليق: وهذا يؤشر لأسبقية قتالية في أغلب أعضاء الجيل الأول لداعش، ولا يقلل من دعاية استقطابها للشباب الجدد فحسب، بل هي نازعت التنظيمات الجهادية الأخرى في كوادرها.
كانت المحطة التأسيسية في حياة أبي سمية، والتي دلف من بوابتها الواسعة إلى النشاط الجهادي المتنوع، بتنظيماته وخلفياته الأيديولوجية والعقائدية المتفاوتة، مع جماعة “المهاجرون“، حيث التحق بصفوفها ونشط في مجالها الدعوي، خاصة، تنظيم مظاهرات ضد الجماعات المؤيدة للمثلية الجنسية، والتعدي عليهم في الشوارع. تعليق: وهو مؤشر آخر ينبغي أخذه عن علاقة التطرف باليمين واليسار ومواقفه تجاه القضايا الحقوقية.
ومن بين أبرز قيادات التنظيم وأحد مؤسسيه، الداعية السلفي، عمر بكري محمد، وقد بدأ نشاطه في لندن، ثمانينيات القرن الماضي، حتى حظرت السلطات البريطانية نشاطها، عام 2010.
حصل أبو سمية على التزكية الشرعية، التي هي بطاقة المرور الرئيسة للتنظيم، من خلال وسطائه الموثوق بهم، بغية السفر والالتحاق بصفوف تنظيم الدولة، بعدما قرر الانشقاق عن تنظيم جند الأقصى في سوريا، من أبي طلحة الألماني، وآخر يدعى عمر الروسي، والأخير، يوجد في مدينة “سلقين“، التابعة لإدلب، شمال غرب سوريا، حسبما تذكر الوثيقة، والتي خضعت لمناطق سيطرة التنظيم في تلك الفترة. تعليق: وهو مؤشر على وجود علاقات اجتماعية وحلقات تواصل موازية للتنظيمات تحتاج إلى دراسة.
وعلى ما يبدو أن أبا سمية الذي حصل على تعليم عالٍ، كما تشير بياناته، بينما مستواه الشرعي محدد بـ“متوسط“.
وعليه، قرر أنه يغير هويته التنظيمية، ويبدل اختصاصه من الجانب “الدعوي“ إلى القتالي، حيث تشير بياناته بالوثيقة، بوضوح إلى اختياره أن يكون “استشهاديًا“؛ من بين خيارات أخرى، هي: “مقاتل“ أو “انغماسي“. وقد ساعده بالإضافة إلى ذلك، خبراته التنظيمية التي عرج إليها، في سوريا وباكستان، وحصوله على التدريب العسكري في كليهما.
يعد أبو سمية البريطاني، ثاني انتحاري في تنظيم الدولة، حسبما توضح وزارة الخارجية البريطانية؛ إذ نفد تفجيرًا في مدينة بيجي، شمال بغداد، أسفر عن مقتل ضابط شرطة عراقي، وسبعة ضباط آخرين، وقد سبقه إلى ذلك عبدالوحيد مجيد، (في الأربعين من عمره، بريطاني الجنسية، من كرولي في وست ساسكس، جنوب لندن) بواسطة شاحنة محملة بأطنان المتفجرات، في سجن بمدينة حلب في سوريا، يوم السادس من فبراير (شباط) 2013.
مواقف ضد حقوق المثليين
تشير المصادر البريطانية، سواء الصحافية أو الرسمية إلى ملمح آخر، عن البدايات الجنينية التي تشكل في مخاضها أبو سمية البريطاني، منذ كان في بريطانيا، حيث نشط ضد قضايا المثلية، على وجه الخصوص، في عدة وقفات احتجاجية، شهدت تعديات واشتباكات مع مظاهرات مؤيدة لحقوق المثليين، كانت بالتزامن معها، وقد دِين مرتين على إثر ذلك من القضاء البريطاني.
إذ اشترك و(30) مسلماً، جميعهم أعضاء في تنظيم “المهاجرون“، في لندن، في الدعوة إلى مظاهرة لمهاجمة المثليين، في آب (أغسطس) 2011، بينما اعتدوا في التوقيت نفسه على مظاهرة تدعو لحقوق المثليين.
إلى ذلك، فقد صدر بحقه حكمٌ بالسجن، لمدة (15) شهرًا، بتهمة ارتكاب جرائم كراهية ضد المثليين، وتوزيع منشورات تحريضية للمثلية الجنسية؛ بعضها حمل عبارات مثل: “المثليون جنسيًا سيذهبون إلى الجحيم، ونتمنى الموت لهم بالإيدز“. حسبما تذكر صحيفة “ديلي ميل“ البريطانية.
ومن جانبة، يعلق خالد عكاشة (مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية) أن أوروبا، بوجه عام، وبريطانيا، بوجه خاص، وفرت ملاذات آمنة لجماعات الإسلام السياسي، وعدد من الشخصيات الدينية الدعوية، المرتبطة بالتيارات الجهادية؛ إذ شكلت لهم غطاءً ودعمًا قانونيًا، وحقوقيًا، لممارسة أنشطتهم، والتأثير في الجاليات الإسلامية، وخاصة الشباب، بالإضافة للحصول على تبرعات مالية، وتعبئة الشباب المسلم من خلال سردياتهم الدينية الخاصة، وأيديولوجياتهم، التي تنبذ مفاهيم المجتمع والدولة والأسرة المدنية، لجهة تحقيق مشروعها السياسي، وفك ارتباط هؤلاء الأفراد التقليدي بهم.
ويضيف أن الأمر ذاته، ينطبق على جماعة “المهاجرون“، التي وجدت دفعة قوية ودعمًا في بريطانيا، ليتسع نشاطها وتتدفق موجاتها في التعبئة والتجنيد، بين أوساط الجاليات الإسلامية في بريطانيا، والذي تزامن مع نشأة عمليات الجهاد الإسلامي في أفغانستان، وحروب البوسنة والهرسك والشيشان؛ فوجد داعية سلفي مثل عمر بكري محمد (مؤسس التنظيم) الفرص مواتية لتحقيق أهداف التنظيم، دونما اعتراض من الحكومة البريطانية، والأخيرة استعانت بورقة الإسلام الأصولى، كإحدى وسائل الضغط في سبيل مصالحها السياسية والجيوبولتيكية، طالما لا يتعرض مجتمعها المحلي لمخاطر مباشرة. ولذلك، فإن بريطانيا، منذ نهاية الثمانينيات، أضحت مرجعية عبر منها العديد من شباب الجاليات البريطانية، ذوي الأصل الإسلامي للجهاد الديني العالمي.
يتفق مع هذا التوجه سعود الشرفات (الباحث الأردني بمعهد واشنطن، والمتخصص في قضايا الإرهاب والتطرف)؛ إذ يرى أن التنظيم استغل مجموعة من الظروف القانونية والاجتماعية، لتشكيل حاضنة للأصولية الدينية في لندن، أصحبت على إثرها، مركزًا أوروبيًا للجهاد والأفكار المتطرفة، خلال العقد الأخير، حيث تحولت كذلك إلى قناة يتم من خلالها عبور المتطرفين إلى تنظيم داعش، وهو ما يعكس تطور التنظيم على المستوى الدولي، وزيادة خطورته مستقبلاً، خاصة، في حال إذا سمحت بريطانيا بالعودة غير المشروطة لمقاتليها من سوريا والعراق. ويشير إلى أن المنتمين للتنظيم سعوا نحو تأسيس “دولة الخلافة الإسلامية“، في لندن، وتقديم نسخة مبكرة من داعش، كما ثبت ضلوعهم في عمليات إرهابية عدة وحوادث عنف؛ من بينها، تفجيرات لندن عام 2005.
وفي ظل تنامي دورهم، لم تجد الحكومة البريطانية مفرًا من حظرهم، عام 2010، وفقًا لقوانين مكافحة الإرهاب ببريطانيا، بحسب شرفات، فضلًا عن اعتقال، أنجم تشودري (Anjem Choudary) (أحد مؤسسي التنظيم)، عام 2015، حتى جرى الإفراج المشروط عنه، في 2019، وحظر الجماعات الفرعية التي انبثقت عنه. وعلى الرغم من تركيز التنظيم على الانتقاد الشديد والدائم للسياسة الخارجية البريطانية، والأمريكية، تجاه العالم الإسلامي، غير أن ثمة إشارات عديدة حول التنظيم، والقائمين عليه، تتصل بعلاقاتهم الاستخباراتية بأجهزة الأمن البريطانية.