-1-
ثمة أكثر من وجه لمقارنة اللحظة الإسلامية الراهنة في الشرق العربي بلحظة الانسداد المسيحي في القرن السادس عشر الأوروبي، حيث كانت تداعيات التطور الكلي (الاقتصادي/ العقلي/ السياسي) قد بدأت تكشف عن تناقضات صريحة بين “النظام الديني” المهيمن و”النظام الاجتماعي” الآخذ في التغير. قوة الضغط الناجمة عن التطور الاجتماعي فرضت على النظام الديني تراجعًا “نسبيًا” تمثل في استيعاب حركة الإصلاح البروتستانتي، لكن هذه القوة لم تكن كافية بعد لإجباره على تقديم تنازلات جوهرية واسعة ستفرضها لاحقًا ضغوط الحداثة المتفاقمة. (تاريخيًا، يتراجع النظام الديني كرد فعل لحركة التطور الاجتماعي ويتناسب معها طرديًا. وهي الصيغة الوحيدة الممكنة لتغير جذري في هذا النظام، الذي لا يقدم تنازلات طوعية على مستوى السلطة أو في منطوقه النظري بعد دخوله في مرحلة التجميد).
عند هذه اللحظة وبسبب مستوى الضغط، كان النظام المسيحي لا يزال قادرًا على التحاور مع قانون التغير، أي على تطوير نفسه داخليًا من خلال مادته اللاهوتية، وأدواته التأويلية، وجهازه المؤسسي الموروث، فالبروتستانتية في جوهرها، وعلى الرغم من طابعها التجديدي، كانت حركة دينية ذات دوافع وأهداف أصولية. ولذلك فهي تقرأ هنا كرد فعل داخلي (نوع من الاستجابة الجزئية) من قبل المسيحية لمثيرات التطور الاجتماعي، التي سيتصاعد إيقاعها لتسفر في القرن التاسع عشر عن انسحاب كلي للدين من المجال العام، وتقلص واضح لنفوذه التقليدي في المجال الخاص. (المساحة التي انسحب منها الدين في المجالين جرى اقتسامها بين الدولة و”المجتمع المدني” الذي كان يستعيد حضوره كـ”مقابل” طبيعي للدولة والدين معًا في ظل تصاعد الروح الفردي والإقرار بمشروعية التعدد).
-2-
يمثل القرن التاسع بالنسبة للغرب لحظة المد الأعلى للحداثة بالمعنى الأنواري، أي كمفهوم تغييري موجه بالأساس إلى النظام الديني. في هذا السياق كان السؤال عن مستقبل الدين يعني النقاش حول النبوءات التي أطلقها الفكر الوضعي، والتي تشير إلى مسار تراجعي متواصل للدين سينتهي حتمًا بزواله، توازيًا مع تطور العلم الذي يمثل آخر مراحل التطور البشري، والذي سيتمكن من معالجة الأسئلة الكبرى التي كان الدين يتولى الإجابة عنها، بما في ذلك سؤال الحياة والموت.
مع التطورات اللاحقة في القرن العشرين سيظهر مصطلح “ما بعد الحداثة” ليشير إلى موقف نقدي موسع من مجمل القيم الحداثية، التي لم تعد قادرة على استيعاب مشاكل الوعي المعاصر. تخلق الثقافة ما بعد الحداثية اشتباكاتها الجديدة الناجمة عن إفرازات الحداثة ذاتها، وخصوصًا التحولات الهيكلية التي جلبتها التكنولوجيا (من نوع ثورة الاتصالات والتطوير الجيني) بنتائجها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومردوداتها الفادحة على المستويين العقلي والروحي.
تظهر هذه الثقافة من جهة وكأنها تستكمل مشروع التغيير الذي لم تفرع منه الحداثة، وتظهر من جهة ثانية وكأنها تجاوزت هذا المشروع إلى مداراتها الخاصة، التي تصدر عن خلفيات ومشاغل مغايرة على مستوى الواقع ومستوى الوعي، لكنها تبدو وقد تراجعت نسبيًا عن موقفها المتشدد حيال الدين. فمع تصاعد حركة التطور بامتداد القرن سنستمع إلى نغمة أكثر تواضعًا حول القدرة المطلقة للعلم، الذي صار أكثر اعتدادًا بنفسه، وأقل اهتمامًا بفكرة المواجهة مع اللاهوت. واقعيًا، لم تعد المواجهة بين الطرفين تأخذ شكل المعركة، أو بعبارة أدق، لم يعد لهذه المواجهة توترها المبكر الذي ظل يلازمها وقت أن كان اللاهوت يخوضها من موقع السلطة.
لا يعني ذلك أن الثقافة المعاصرة تخلت عن التحفظات الأساسية للحداثة حيال الموقف الديني، بل يشير إلى تغير طريقة التعاطي مع الظاهرة الدينية، التي صارت تتخذ صيغًا إشكالية جديدة. لقد بدا الفكر الحداثي في سياقاته المسيحية وكأنه حسم النقاش حول علاقة الدين بالدولة والمجتمع، وذلك بالوصول إلى صيغة “العلمانية القانونية” التي تستبعد الدين من مجال الدولة، مع استيعاب حضوراته المتعددة (الفردية أساسًا) داخل المجتمع. لكن هذه الصيغة صارت تكشف عن أزمات جديدة، ولم تفلح في احتواء “المسألة الدينية” التي عاودت الظهور –خلافًا للنبوءات- بإيقاع أكثر توترًا.
-3-
خلافًا للنبوءات، لاحظ الفكر الغربي أن فكرة الدين لم تظل حاضرة فحسب، بل عادت إلى التعبير عن نفسها بشكل تصاعدي منذ منتصف القرن العشرين: كانت الكنيسة قد نجحت في الحفاظ على وجودها كمؤسسة رسمية بعد أن أبدت مرونة لافتة لإعادة التكيف مع التطورات الحداثية. (التخلي عن فكرة احتكار المعرفة لصالح العلوم/ الإقرار بالطبيعة المدنية الخالصة للدولة/ التراجع المتدرج عن فكرة الحق الحصري). وفيما تواصلت ثقافة التدين الشعبي الذي تحتضنه المؤسسة، ظهرت صور جديدة للتجمع الديني تعمل من خارج الإطار المؤسسي في شكل حركات ذات طابع سياسي أو مدني، وجرى رصد ظاهرة التدين الذاتي أو الاختياري كتجربة روحية خاصة وذات طابع انتقائي تصدر عن الحس الفردي.
تحدث هابرماس عن “ظهور عالمي جديد للدين” تبدو مؤشراته في تزايد النشاط التبشيري، والراديكالية الأصولية، والتوظيف السياسي للعنف الكامن في كثير من ديانات العالم”، ولاحظ أن فكرة المراهنة على اختفاء الدين بتواصل الحداثة بدأت تتآكل”. وبحسب بيتر بيرجر فإن بحث الإنسان عن الدلالات النهائية لم ينفد بعد من العالم، ولذلك تبدو الديانات التاريخية في مستوى القدرة على تحمل آثار الحداثة، سواء من خلال أشكالها التراثية القديمة، أو بإعادة تكييف هذه الأشكال مع الواقع الجديد.
في هذا السياق صار السؤال عن مستقبل الدين يعني النقاش في كيفية التوفيق بين اللاهوت ومفردات الحداثة؛ مما شكل الاستجابة المتوقعة من قبل الدين لحركة التطور. ناقش هابرماس –مثلًا- بنوع من التفاؤل إمكانية الوصول في المدى المنظور لأرضية مشتركة بين الدين والعلمانية (نظرية الفعل التواصلي). وناقش بيرجر مصير الدين أو ردود أفعاله المحتملة حيال واحدة من أهم ظواهر الحداثة وهي “التعددية” الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تترسخ بقوة في المجتمعات المعاصرة.
هذا الترسخ -بحسب بيرجر- وضع جميع المؤسسات التي أنتجت في الماضي عوالم رمزية قارة، وزعمت أنها قادرة على تقديم تفسير نهائي للعالم، في أزمة.
في ظل التعددية صار الفرد يسعى إلى تشكيل دينه الخاص. مناخ التنافس العام الذي تسانده سياقات العولمة يساعد على “العبور الطليق” إلى الرموز الوافدة من مختلف المشارب الثقافية والدينية، ويحدث امتلاك حر لهذه الرموز من جانب الأفراد. والحال كذلك يمكن توقع الانتقال من “دين مرئي” محدد إلى “دين غير مرئي”، أو من واحدية في نظام الاعتقاد إلى تعددية في العوالم الرمزية تفهم كوضعية تدين مقبولة اجتماعيًا، وتوقع نوع جديد من التدين “عابر الحدود” يتجاوز فيه الفرد حدود دينه الأصلي.
(A Far Glory-1992).
مراهنة هابرماس على إمكانية المصالحة بين الدين والعلمانية تستبطن بالطبع، ثقافة التجربة المسيحية في الغرب، التي عاينت بالفعل تراجع نفوذ الكنيسة أمام الدولة المدنية، وهو تراجع لا يتعارض مع الأصول النظرية للاهوت المسيحي الذي يقر بشرعية طبيعية لسلطة الدولة على المجال العام. لذلك نفهم أن أطروحة هابرماس تناقش المسألة الدينية في إطارها العام، الذي يعبر عن نفسه بشكل صاخب في المحيط الإسلامي خصوصًا. (يسهل ملاحظة الإيقاع الهادئ لعودة الدين في الغرب قياسًا إلى مثيله الزاعق في الشرق الإسلامي) حيث لا يزال الدين يهيمن عمليًا على مجمل الثقافة، وحيث يصعب تقديم تأصيل لاهوتي لفكرة استبعاد الشريعة بوصفها شقًا من بنية الديانة، ومن ثم فكرة التخلي عن المجال العام لصالح دولة مدنية. (وهو المشكل الذي يزداد تعقيدًا في ظل الحضور الفعلي للدولة الوطنية).
وفي توقعات بيرجر تظهر ملامح واضحة لوعي غربي ما بعد حداثي، بعيدة تمامًا عن مشاغل وهموم الواقع الإسلامي الراهن، التي تحركها بالكاد مثيرات الحداثة التقليدية. فهذا الواقع لا يزال غارقًا في إفرازات المشكل في نسخته الأصلية (الثيوقراطية الأوتوقراطية) كما كان يناقشها إسبينوزا وهوبز ولوك ورسو، وذلك بحكم طبيعة الحاضر الموروث في جملته من الماضي قبل الحداثي. (وهو المشكل الذي يزداد تعقيدا بفعل الاحتكاك الضروري بالثقافة ما بعد الحداثة).
من هذا المدخل المقارن، كيف يمكن في اللحظة الإسلامية الراهنة، قراءة السياقات المحتملة للتدين في المدى المنظور؟
يتبع
عبدالجواد يسن