-1-
سأناقش هنا ثلاثاً من زوايا المقارنة بين اللحظة الإسلامية الراهنة في الشرق العربي ولحظة الانسداد المسيحي في القرن السادس عشر الأوروبي: الأولى تتعلق بمستوى التطور في النظام الاجتماعي القائم؛ كيف تبدو المسافة بينه وبين النظام الديني؟ والثانية تتعلق بحضور نشاط أصولي قوي متكرر في اللحظتين؛ إلى أي مدى يمكن اعتبار الأصولية الإسلامية المعاصرة حركة بروتستانتية، من حيث البعد التجديدي وقابلية الاستيعاب في المستقبل؟ أما الزاوية الثالثة فتتعلق بخصائص النظام الإسلامي ذاته قياسًا إلى مثيله الكاثوليكي؛ ماذا يعني بالنسبة لمسار التطور المحتمل، حضور الشريعة/ الدولة كشق جوهري في بنية النظام؟ وماذا يترتب على غياب مؤسسة رسمية جامعة، تملك -كالكنيسة- صلاحية تمثيل الديانة ومحاورة التطور الاجتماعي نيابة عنها؟ أو كيف يؤثر هذا الحضور والغياب على وتيرة التطور الديني ونتائجه الموضوعية في المدى المنظور؟ ضمنيًا ستجيب المقارنة على السؤال “الثانوي” المضمر: هل يتخذ النظام الإسلامي بالضرورة مسار وشكل التراجع المسيحي في الغرب بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر؟
-2-
في اللحظة الإسلامية الراهنة لا تبدو المسافة واسعة بين النظام الاجتماعي (البنى الاقتصادية/ السياسية/ الثقافية) والنظام الديني (منظومة التكاليف الاعتقادية والتشريعية). يمكن الحديث بالطبع عن تناقضات مضمرة أخذت تكشف عن نفسها بإيقاع متصاعد منذ القرن التاسع عشر (لحظة الاحتكاك المباشر بالحداثة الغربية) لكن هذه التناقضات لا تبدو كلية وعميقة بالقدر الكافي لخلق حالة صدام عنيف بين النظامين، أعني بالقدر اللازم لتوليد ضغوط جدية، ومن ثم فرض تحولات جذرية في بنية النظام الديني. ويمكن القول إجمالًا بأن النظام الديني لا يزال قادرًا على التكيف مع حاجات النظام الاجتماعي، أو بأن النظام الاجتماعي لا يزال قادرًا على تحمل إكراهات النظام الديني. ومع ذلك فهذه الدرجة من التناقض تظل كافية لتفسير حالة التوتر والارتباك التي تخيم على علاقة النظامين في المحيط الإسلامي الراهن.
-3-
هذا التحليل برمته ينطلق من مبدأ “التغير” بوصفه قانونًا طبيعيًا من قوانين الاجتماع، وهو قانون يسري على النظام الديني بوصفه نظامًا اجتماعيًا (ينشأ ويشتغل داخل العالم)، خلافًا للرؤية اللاهوتية التقليدية التي تنفي قابلية الدين للتغير في الزمن بما هو مطلق كلي قادم من خارج الاجتماع. النقاش في مستقبل التدين هو بالضرورة نقاش في فكرة التغير، وهو يدور إجمالًا حول سؤالين: هل يتغير؟ وكيف يتغير؟
السؤال الأول يعالج الفكرة من حيث المبدأ، وهو يصدر بالأساس عن مشاغل أو أزمة العقل الكتابي (الإسلامي خصوصًا) الذي يتوجس من الحديث عن مستقبل الدين. فبما هو مطلق يبقى الدين الأزلي أبديًا ثابتًا لا يتغير في ذاته، بينما الحديث عن المستقبل يفضي إلى الربط بينه وبين حركة التطور الاجتماعي، وهو معنى ينطوي على نفي أو تأخير لفكرة المطلق.
يكشف هذا الطرح عن مشكل بنيوي في الوعي الديني التقليدي، الذي لا يفرق عادة بين الدين كفكرة والدين كنظام، أي بين الدين في الفكر والدين في الواقع التاريخي، ويخلط لا شعوريًا بين “مشروعية” التغيير و”قابلية” التغير، أو بين مسألة “الجواز وعدم الجواز” في الشرع ومسألة “الإمكان وعدم الإمكان” في الواقع. النهي هنا يرادف النفي، وعدم مشروعية التغيير تعني عدم قابلية التغير في الواقع. وهي نتيجة منافية للواقع.
تحول الدين إلى فكرة بدأ بفعل التنظير اللاهوتي في مرحلة متأخرة من تاريخ التدين. الحضور المقروء للدين لم يبدأ من نقطة الذات الفردية كخيار فكري، بل اتخذ منذ البداية صيغة “النظام” الجمعي، وفرض نفسه عمليًا على “المجتمع” كسلطة شمولية تهيمن على مؤسساته العضوية (العائلة/ العشيرة/ القبيلة الدولة) وتتداخل مع أنساقه التنظيمية (العرف/ الأخلاق/ القانون). وتكرس هذا الحضور الجمعي للدين مع ظهور النسق التوحيدي الكتابي، الذي بسط سلطته –من خلال الشريعة/ الدولة- على مساحة الاجتماع الكلية.
الخلط بين الدين كفكرة والدين كنظام يؤدي بالعقل الكتابي التقليدي إلى تجاهل البعد الاجتماعي في بنية الديانة، فيذهب إلى تعميم صفة المطلق على جميع مفردات الديانة بما في ذلك المفردات التي تنتمي بطبيعتها إلى الاجتماع التاريخي أي التي تخضع بحكم طبيعتها لقانون التغير. وهو يصدر في هذا التعميم عن مفهوم خاص “للنصية” موروث من سياقات التدين العبري الذي استحدث فكرة الكتاب.
-4-
تاريخيًا كقاعدة عامة، يتكون النظام الديني كإفراز مباشر للنظام الاجتماعي السائد في حقب التأسيس. لكن النظام الديني يتم تثبيته بفكرة المطلق المقدس، فيما النظام الاجتماعي يستمر في التطور بطبيعة الاجتماع وقوانين العالم، الأمر الذي يؤدي –عند لحظة ما- إلى تناقض ضروري بين النظامين. في المراحل المبكرة يكون التناقض طفيفًا، ومن ثم يمكن استيعابه من داخل آليات النظام الديني المصممة أصلًا على هياكل الاجتماع القديمة. وبوجه عام يظل التناقض قابلًا للاستيعاب طالما أن التطور الاجتماعي لم يصل إلى حد التغير الجذري قياسًا إلى اجتماعيات التأسيس.
بالوصول إلى نقطة التغير الجذري، يأخذ التناقض شكل الجدل العنيف، ويتحول إلى صدام يسفر عن “تراجع” تدريجي من قبل النظام الديني. يعني التراجع هنا كسر حالة “التجميد” السائدة منذ نهاية عصر التأسيس. ويجري التراجع عادة على مستوى الواقع، أي على مستوى التدين الشعبي الاعتيادي، قبل الإقرار به رسميًا على مستوى المدونة. أعني قبل التسليم به أو اعتماده من قبل المؤسسة التي تمثل الديانة وتشرف على حراسة المدونة (الكنيسة في السياق المسيحي الغربي، والدولة/ الفقه في السياق الإسلامي). واقعيًا، يؤدي التجميد إلى تعطيل حركة التغير الديني، أي تبطيء إيقاع الاستجابة للضغط الاجتماعي، لكنه لا يستطيع إيقاف هذه الحركة على المدى الطويل.
مؤدى هذا التحليل أن النظام الإسلامي –ككل نظام ديني تاريخي- معرض للتغير في المستقبل، وأن إيقاع وشكل التغير يتوقف على سرعة وحجم التطور (الاجتماعي/ الاقتصادي/ الثقافي) المتوقع في المدى المنظور. لكن علينا -الآن- أن نميز بين مستويين لقياس التغير الديني: مستوى المنطوق الرسمي للديانة كما تحمله المدونة التراثية بمصادرها التأسيسية (النصوص) والثانوية (المنظومة الفقه كلامية)، ومستوى التدين الاعتيادي (الشعبي) الذي يشير إلى ممارسات الدين في الواقع على الصعيدين الجمعي والفردي.
على مستوى المنطوق الرسمي لا تشير المقدمات إلى تحولات هيكلية محتملة في المدى المنظور (القريب والمتوسط) خصوصًا في الشق اللاهوتي الخالص (الثوابت الكلية للعقيدة) الأكثر تعبيرًا عن فكرة المطلق، والأكثر احتماءً بسلطة النص وسلطة المنظومة الفقه كلامية، التي تلعب دورها كمؤسسة معنوية حارسة بالتداخل مع سلطة الدولة “الوطنية” المعاصرة. التغير على هذا المستوى يشير إلى تنازلات جوهرية في صلب الديانة، وهي عملية لا تقدم عليها المدونة الدينية بشكل طوعي أو تحت ضغط جزئي، بل تجرى قسرًا تحت ضغط التطورات “الجذرية” في الاجتماع الكلي، عبر تراكم تدريجي بطيء وطويل المدى. وفي هذا السياق يُظهر اللاهوت قدرة أكبر على المقاومة/ البقاء قياسًا إلى الأحكام التكليفية ذات الطابع التشريعي وبقية مفردات الديانة.
أما على المستوى الواقعي للتدين فيمكن توقع معدلات تغير أسرع:
قياسًا إلى المدونة المكتوبة، يبدي التدين الشعبي وتيرة استجابة أعلى للمثير الاجتماعي، أعني درجة مرونة حيال التحولات الاقتصادية والثقافية والسياسية، تسمح بالحديث عن انزياحات جديدة عن مسار المدونة الحرفي في المدى الزمني المتوسط وحتى القريب. تاريخيًا كقاعدة طبيعية، تبقى ثمة مسافة بين منطوق المدونة بطابعها المثالي المتعالي، وتمثلاتها الواقعية في السلوك الشعبي، الذي تحركه الغرائز الفردية وقوانين الاجتماع. (المدونة في الأصل عبارة عن اجتماعيات مراحل التأسيس وقد تحولت إلى “أفكار” فيما التدين الشعبي مطالب بإعادة تحويل الأفكار إلى “اجتماعيات” في الحاضر. ثمة نسبة هدر ضرورية لدى التحول من الواقع إلى الفكر ومن الفكر إلى الواقع. هي بعينها المسافة الفاصلة بين المدونة الدينية والسلوك الديني). التغير الديني على مستوى السلوك الشعبي في المستقبل، يعني تفاقم الانزياح عن المدونة إلى معدل أعلى من معدله الراهن.
-5-
مقاربة المسألة من هذا المدخل (الأنثروبولوجي) الكلي تختلف، بالطبع، عن المقاربات “الإصلاحية” التي تطرح تحت عنوان “التجديد”. في الحالتين يجرى التعامل مع سؤال المستقبل تحت ضغط التطور الاجتماعي الجزئي. لكن المقاربة الأولى تعتمد على منهج الملاحظة والرصد التجريبي، وتشتغل على قوانين الاجتماع الطبيعي، فيما تستند الثانية إلى منهجية التأويل النصي، وتشتغل على قوانين النظام الديني ذاته. ولذلك فهي تظل مقاربات تحليلية وذات بعد غائي (تهدف إلى إنقاذ النظام الذي تؤمن بقدرته على البقاء بما هو مرادف للدين المطلق) وتظل مقاربات جزئية (تعمل على تسكين مفردات حداثية تفصيلية داخل أبنية النظام التقليدية).
مفهوم التجديد ينطلق أصلًا من أرضية النظام الداخلية، وينحكم بموجهاتها الذهنية المسبقة، ما يعني تجاهل الأصول الجذرية للمشكل، التي تكمن في العلاقة المربكة والمركبة بين فكرة المطلق والاجتماع الخام: كيف تشتغل فكرة المطلق الثابت داخل النظام الاجتماعي المتغير في اللحظة الراهنة، حيث لم يعد النظام الديني مطالبًا بالتعاطي مع أسئلة الحداثة التقليدية فحسب، بل أيضًا مع الأسئلة الإضافية التي تثيرها السياقات بعد الحداثية؟ كيف يمكن تلزيم الوعي الكتابي الرسمي بوجود شق اجتماعي متحرك بالضرورة في صلب الفكرة الدينية؟ إلى أي مدى يقبل النظام الديني بالتنازل عن مبدأي الحصرية والتأبيد، أو إلى أي مدى يتقبل مفهومي التعددية والتطور؟
يتبع
عبدالجواد يسن