عبدالغني عماد[1]*
لم تحظ مشاركة المرأة في تنظيم القاعدة باهتمام مؤسس التنظيم أسامة بن لادن ولا خليفته أيمن الظواهري، فقد بقيت خطاباتهم ورسائلهم على الأدبيات السابقة بعدم مشاركة المرأة في الأعمال القتالية، والحفاظ على أدوارها التقليدية في الدعوة والإعلام ورعاية المنزل وتربية جيل جهادي، لكن فروع القاعدة وخصوصاً فرع التنظيم في جزيرة العرب بقيادة يوسف العييري، بلورت صيغاً لمشاركة المرأة بطريقة أكثر فاعلية، وخصوصاً في المجالات الدعائية والدعوية والرعوية اللوجستية كجمع التبرعات ورعاية أسر “الشهداء” -حسب تسميتهم – و”السجناء”. جاء التطور الأبرز مع شبكة الزرقاوي التي أصبحت لاحقاً فرعاً للقاعدة في العراق.
نساء القاعدة… شبكات المصاهرة
لعبت شبكات المصاهرة وأنساق القرابة وعلاقات الصداقة دوراً هاماً في تأسيس مجتمع جهادي متماسك، وقد أدرك مبكراً أسامة بن لادن أهمية هذه الروابط التي ستشكل لاحقاً نواة الجهادية النسائية، فقد تزوج ابن لادن في حياته خمس مرات وأنجب عشرين ولداً وبنتاً، وفي وصيته المؤرخة في (14 ديمسمبر/ كانون الأول 2001) يوصي زوجاته من بعده بعدم الزواج ليكنَّ زوجاته في الجنة ويطلب منهن الاعتناء بأولاده. وقد عمد إلى تزويج بعض بناته وأبنائه من أبناء وبنات جهاديي القاعدة، إحداهن تزوجت الناطق باسم القاعدة الكويتي سليمان أبي غيث، وتزوج ابنه محمد بابنة أحد أبرز أمراء القاعدة العسكريين المصري أبي حفص. هكذا فعل أيمن الظواهري، فقد تزوج من ثلاث نساء وزوج بناته من جهاديين، أمثال أبي تراب الأردني وأبي دجانة المصري الشرقاوي، وأبي عبدالرحمن المغربي، وبعد مقتل زوجته أم محمد وابنتها عائشة بقصف أميركي في أفغانستان، تزوج أم خالد (أميمة حسن) وهي من أسرة جهادية، وأرملة لأحد الجهاديين، وتزوج مرة ثالثة من أم نسيم (سيدة حلاوة وهي أرملة لجهاديَّين مصريين أعدم الأول منهما عام 2000 في مصر وقتل الثاني في أفغانستان. الاستثمار في المصاهرة اتبعه أيضاً أبو مصعب الزرقاوي، فقد زوج إحدى شقيقاته الثلاث من جهاديَّين بارزين، وتزوج هو للمرة الثانية في معسكر هيرات في أفغانستان من ابنة ياسين جراد، الذي نفذ لاحقاً عملية استشهادية لاغتيال الزعيم الشيعي المعروف باقر الحكم عام 2003[2]. وبحسب شهادة سيف العدل، أحد قيادات تنظيم القاعدة، فقد نجح الزرقاوي ببناء مجتمع جهادي مصغر في معسكر هيرات، والذي ضم في بدايته نحو (80) عضواً مع عائلاتهم تحت إمرته.
وبالحديث عن شبكات المصاهرة والقرابة ودورها في عمليات التجنيد للتنظيم، يلفت مؤلفا كتاب “عاشقات الشهادة”[3] إلى مقولة الأنثروبولوجي الأمريكي سكوت أتران (Scott Atran)[4] ومفهوم “النادي الاجتماعي” الذي طوّره، والذي عنى به أتران: شبكة العلاقات الاجتماعية الرئيسة، بما تشتمل عليه من قرابات الدرجة الأولى من الأمهات والأشقاء، والأزواج، والأبناء، والأخوال، ثم “العلاقات البينية”، والتي تتركب على تلك العلاقات الأولية، عن طريق المصاهرة، والصداقة، والحوار، وما يصاحب كل ذلك من أنشطة اجتماعية مشتركة بين هذه المجموعات، تجعل من المجتمع الجهادي حميمياً ومترابطاً بشكل بنيوي. كما يشير المؤلفان إلى نوع ومستوى آخر من شبكات العلاقات الاجتماعية وهي علاقات الصداقة، والتي كان الأنثروبولوجي الفرنسي جيل كيبل أبرز من أشار إلى دروها وفاعليتها الكبيرة في التجنيد، حيث كانت هذه الشبكات فاعلة أكثر في “الجهادية الأوروبية”، والفرنسيّة خصوصاً.
وكما كان أسامة بن لادن متحفظاً على مشاركة المرأة في التنظيم، كذلك كان أيمن الظواهري الذي تولى قيادة التنظيم بعد مقتل ابن لادن، حيث أكد في أكثر من حوار نفيه بشكل قاطع وجود نساء في التنظيم، مشدداً على قيام زوجات المجاهدين بدور بطولي في رعاية بيوتهن وأبنائهن[5]. ويمكن تلمس بدايات التغيير في رسالة نادرة لأميمة حسن، زوجة الظواهري، وجهتها إلى الأخوات المسلمات ونشرتها مؤسسة السحاب التابعة لتنظيم القاعدة (ديسمبر/ كانون الأول 2009) توصي فيها النساء المسلمات بتربية أبناهن على طاعة الله وحب الجهاد وتحريض الإخوان والأزواج والأبناء عليه، وبمساعدة أسر الجرحى والمعتقلين والشهداء بالمال والتبرعات، ودعت فيها النساء إلى عدم الالتحاق بالجهاد، وعلى الرغم من أن “الجهاد فرض على كل مسلم ومسلمة” لأن طريق القتال ليس سهلاً بالنسبة للمرأة، فهو يحتاج إلى محرم “لأن المرأة يجب أن يكون معها محرم في ذهابها وإيابها”؛ لكنها في الرسالة نفسها تشير إلى أنه “علينا أن ننصر ديننا بطرق كثيرة.. سواء إعانة بالمال أو الخدمة والإمداد بالمعلومات أو الرأي أو المشاركة في قتال أو حتى بعمل استشهادي، فكم من أخت قامت بعمل استشهادي في فلسطين والعراق والشيشان…”[6]. وكانت حواء براييف أول أمرأة جهادية تنفذ عملية انتحارية في الشيشان في يونيو (حزيران) 2000، ثم تبعتها أخريات. وفي فلسطين بدأت الظاهرة بعد الانتفاضة الثانية مع وفاء إدريس في يناير (كانون الثاني) 2002، وهي تنتمي إلى “كتائب شهداء الأقصى”، وكانت دارين أبو عيشة من أوائل الاستشهاديات المتخرجات في حركة حماس التابعة لجماعة الإخوان المسلمين التي تلتحق براية العمليات الاستشهادية[7].
وكما أن القاعدة لم تجند النساء في أعمال قتالية، كذلك فإن شبكة الزرقاوي في بداياتها عند تأسيس جماعة التوحيد والجهاد (2003) حافظت على نهجها الذكوري، لكن ذلك بدأ بالتغير على وقع الصراع الدامي في العراق الذي أخذ بعداً طائفياً واضحاً. كان الزرقاوي يسعى لحشد السنة في حربه ضد الاحتلالين “الصليبي” الأميركي والصفوي “الشيعي”، كما كانت إيران تسعى لحشد الشيعة متحالفة مع ميليشيات طائفية، وفي سياق هذا الصراع المحموم استثمر الزرقاوي ما تتعرض له المرأة في السجن والاعتقال والانتهاكات الجنسية والاغتصاب في مجتمعات دينية محافظة، تشكل فيها قيمة العرض والشرف مسألة وجودية، لإثارة الحمية الدينية والقبلية وجلب المقاتلين، وهي القضية التي أسست لأنموذج “المرأة الاستشهادية” مقابل “الرجل المتخاذل” عن الالتحاق بساحات القتال[8]. حقّق هذا الخطاب نجاحاً ملحوظاً وارتفعت نسبة المتطوعين العرب والأجانب من الرجال والنساء، ودخلت ظاهرة الاستشهاديات مرحلة جديدة انتقلت فيها من القول إلى الفعل في العمليتين الانتحاريتين المتزامنتين في اليوم نفسه 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005 لكل من موريل ديغوك (البلجيكية الأصل) التي فجرت نفسها في حاجز أميركي بالعراق، وساجدة الريشاوي التي ساهمت بتفجير ثلاثة فنادق كبرى في عمان قبل أن تعتقل لعطل طرأ على الحزام الناسف الذي كانت ترتديه[9].
ومع تأسيس “مجلس شورى المجاهدين” تنامت قدرات الفرع العراقي للقاعدة، إلا أن مقتل الزرقاوي (2005) وتولي أبي عمر البغدادي وإعلان ما يسمى “دولة العراق الإسلامية” عام (2006) لم تؤدِ إلى تراجع الظاهرة، بل إلى زيادة أدوار المرأة اللوجستية والقتالية، ولتتحول من ظاهرة فردية إلى عمل جماعي، حيث أعلن التنظيم عن تشكيل أول كتيبة استشهادية في العراق باسم كتيبة “الخنساء”. وبين ربيع عام 2007 وصيف 2009 بلغت الأرقام حول عدد العمليات الانتحارية النسائية، على الرغم من تضارب الأرقام، ما يقرب من (90) عملية[10]. وبعد مقتل أبي عمر البغدادي إلى جانب وزير حربه أبي حمزة المهاجر عام 2010 حدثت تحولات عميقة مع تولي أبي بكر البغدادي قيادة التنظيم، والذي ترافق مع استكمال الانسحاب الأميركي من العراق (2011) لتصبح الساحة تحت هيمنة النفوذ الإيراني ونفوذ السلطة العراقية الجديدة المتحالفة معها وسياساتها الطائفية الإقصائية التي وصلت إلى ذروتها مع حكومة المالكي.
[1]* أستاذ جامعي وباحث أكاديمي لبناني متخصص في الحركات الإسلامية.
[2]– نفذ ياسين جراد والد الزوجة الثانية لأبي مصعب الزرقاوي في نهاية أغسطس (آب) 2003 تفجيراً انتحارياً في مدينة النجف أدى إلى مقتل عشرات الأشخاص المدنيين، وكان بين الضحايا آية الله محمد باقر الحكيم الذي كان من الشخصيات البارزة في حركة المعارضة لنظام صدام حسين . الزرقاوي فخخ والد زوجته لقتل باقر الحكيم في النجف، موقع دنيا الوطن، 9 فبراير (شباط) 2005، على الرابط التالي:
https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2005/02/09/17088.html
[3]– محمد، أبو رمان، وحسن، أبو هنية، عاشقات الشهادة، مرجع سابق، ص293.
[4]– انظر كتاب سكوت أتران: الحديث إلى العدو، الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم، ترجمة: طاهر لباسي. جداول للنشر، بيروت، ومؤمنون بلا حدود، الرباط، 2015.
[5]– أيمن الظواهري: اللقاء المفتوح مع الشيخ أيمن الظواهري، مؤسسة السحاب، منبر التوحيد والجهاد (15 فبراير/ شباط 2009) انظر: الجواب على سؤال رقم (3/12) على الرابط التالي:
[6]– انظر: أميمة حسن: رسالة إلى الأخوات المسلمات، مؤسسة السحاب (4 يناير/ كانون الثاني 2015) على الرابط التالي:
[7]– في المجال العربي سجلت عمليات انتحارية في لبنان منذ عام 1982 بعد أيام من الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وكان حزب الله أول من استخدم هذه الاسترتيجية في تفجير مقر الحاكم الإسرائيلي في صور، لأنها بقيت حكراً على الرجال إلى أن أدخلت الأحزاب العلمانية النساء على خط العمليات الانتحارية التي اعتمدها الحزب القومي السوري الاجتماعي والحزب الشيوعي في الجنوب اللبناني. وكانت سناء محيدلي من الحزب القومي أول فتاة انتحارية فجرت سيارة مفخخة بدورية إسرائيلية في الجنوب اللبناني، ثم تلتها لولا عبود وهي شيوعية من الطائفة الأورثوذكسية وبعدهما نفذت تسع نساء عمليات انتحارية بتخطيط من الحزب القومي والحزب الشيوعي وبعض الأحزاب العلمانية .
[8]– محمد أبو رمان وحسن أبو هنية، المرجع السابق، ص121.
[9]– ساجدة مبارك عطروس الريشاوي (44 عاماً)، انتحارية عراقية شاركت في تفجيرات فنادق عمان الثلاثة في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، لكنها نجت عندما لم ينفجر حزامها الناسف في التفجير الأخير، ولجأت بعدها إلى معارفها في مدينة السلط (30 كلم غرب عمان) حيث ألقت القوات الأمنية الأردنية القبض عليها بعد أيام عدة. وأوقعت تفجيرات فنادق عمان الثلاثة “راديسون ساس” و”جراند حياة” و”دايز إن” التي يطلق عليها في الأردن اسم أحداث “الأربعاء الأسود”، (62) قتيلاً وأكثر من (100) جريح. وتبنى زعيم تنظيم القاعدة في العراق آنذاك الأردني أبو مصعب الزرقاوي تلك الهجمات الدامية.
[10]– ميلاد، الجبوري، أجيال الموت، انتحاريات تحت ظلال قتلة غرباء، شبكة أريج، 6 يوليو (تموز) 2011، على الرابط المختصر التالي:
https://cutt.us/mZhwd