ولد شكري مصطفى سنة 1942، وفي شبابه اِلتحق بجماعة الإخوان المسلمين ليعيش معهم محنة 1965، ولم يغادر السجن إلا بعد وفاة جمال عبد النّاصر مُثقّلا بأفكار سيّد قطب ناقما على نظام الحكم الذي نكّل بهم سجنا وتعذيبا وحشيّا، ويبدو أنّ تجربة السجن قد صقلت مواهب العديد من الإخوان ليخرجوا في قطيعة مع حركة الإخوان التي مازالت تعتقد بإمكانية التغيير عبر العمل الدّعوي والعمل السياسي، ويبدو أنّ مشاعر النقمة قد جعلت شكري مصطفى ينأى عن تنظيم الإخوان ليؤسّس “جماعة المسلمين” أو “جماعة الدّعوة والهجرة” أواخر سنة 1973، وأطلقت عليها الأجهزة الأمنيّة لاحقا تسمية “جماعة التكفير والهجرة”، ولم يكن شكري مصطفى صاحب فكر مؤسّس، ولكنّه سار مسار صالح سريّة في تشكيل تنظيمه مستفيدا من تجربته في السجن على المستوى العقائدي حين اِستوعب نظريّة سيّد قطب وأبي الأعلى المودودي من جهة، وعلى المستوى التنظيمي حين اِستقطب شباب الإخوان الغاضبين وجعلهم أمراء المناطق والجهات المصريّة من جهة أخرى، وأمر أتباعه بالاِنتقال لكور الجبال والمغاوير بعد بيع ممتلكاتهم في ما يسمّيه شرط الهجرة قبل الجهاد، وأخذت الجماعات تتدرّب في معسكرات عقائديّة وعسكرية، وهذه الهجرة يبدو أنّها كانت تطويرا لفكرة “العزلة والاِنفصال عن المجتمع الجاهلي” التي نادى بها سيّد قطب.
لم ينجح كتاب حسن الهضيبي “دعاة لا قضاة” في الحد من تغلغل التيّار القطبي لدى شباب الإسلاميين، بل إنّ أفكار سيّد قطب وقع تطويرها على يدي صالح سريّة في مرحلة أولى، وجماعة مصطفى شكري في مرحلة ثانية، وسبق هذا التطوير نقاشات داخليّة بين الشباب المسجون في كيفيّة التعامل مع المجتمع الجاهلي فظهر تياران: تيّار يدعو إلى الاِنفصال الزّماني بما يعني القطيعة الروحيّة مع المجتمع الجاهلي والاِنغلاق على ذات العصبة المؤمنة المجاهدة لتعيش زمان صحابة النّبي محمّد، وتيّار يدعو إلى الاِنفصال المكاني بما يعني الخروج عن المجتمع وإقامة تجمّعات للمؤمنين بطقوسهم وحياتهم المستقلّة في ما يسمّى العزلة أو الهجرة، وتزعّم هذا التيّار خرّيج أزهري كان في السجن وهو علي إسماعيل شقيق الشيخ عبد الفتاح إسماعيل أحد الذين أُعدموا مع سيّد قطب، ويبدو أنّ شكري مصطفى قد مال إلى التيّار الثاني، وصار زعيما لهذا التيّار بعد أن تراجع علي إسماعيل عن معتقداته في العزلة والهجرة بمناظرة بينه وحسن الهضيبي، فبعد الخروج من السجن طلب مصطفى شكري من جماعته مغادرة تجمّعات الجاهليّة في ما يسمّى “الهجرة”، وبالفعل هاجرت مجموعات من أتباع شكري مصطفى إلى الجبال والأحراش والأرياف، وحاولت إقامة مجتمعات صغيرة مغلقة، وتفطّن النظام المصري لهذه الحركة، فاعتقل عددا منهم ومعهم زعيمهم شكري مصطفى في 26 أكتوبر 1973، لكن سرعان ما أصدر أنور السادات عفوا خاصّا بعد حرب أكتوبر شمل شكري مصطفى وجماعته في 21 أفريل 1974، ضمن سياسة إقامة المعادلة السياسيّة بين القوى الاِسلامية والقوى اِلتقدّمية من ليبرالية وشيوعيّة.
أدرك مصطفى شكري أنّه يجب أن يتحرّك بسرعة أكبر، لأنه صار مكشوفا للسلطات الأمنية، فسارع إلى اِستقطاب عـــدد مهم من الشباب المتحمّس في مختلف المحافظات المصريّة، وقد اِختار مديريّة التحرير الفلاحية التي أنشأها جمال عبد النّاصر لتكون مركزا لتجميع أعضاء الجماعة، وقام مصطفى شكري بشراء الأراضي وبناء المساكن من الطوب، وزوّج الشباب، وأقام مجتمعا متماسكا منغلقا على محيطه، ويبدو أنّ السلطة السياسية في مصر كانت مشغولة بنتائج حرب أكتوبر من جهة، وتراخت عن الإسلاميين لتقاوم مدّ الشيوعيين من ناحية أخرى، وهـو ما جـعل جماعة “الدعـوة والهـجرة” تمتدّ في كل المحافظات المصريّة، خاصة في الصعيد وفي الجامعات لتنافس طلبة الإخوان، وصار مصطفى شكري يفكّر في البحث عن الاِمتداد خارج مصر، فأرسل بعض الأعضاء للبحث عن التمويل والدّعم الخارجي، لكنّ طموحه في اِنتشار “جماعة المسلمين” جعله صارما مع أعضاء الجماعة، فقد كان يحكم بالقتل والتصفية لكل عضو خرج من الجماعة بعد الانضمام إليها، فحُكمه حُكم المرتدّ بدون استتابة، واِنتشر العُنف بين أعضاء الجماعة نتيجة صراعات داخليّة كشفت بعض ملامح التنظيم للأجهزة الأمنية، وهذا ما جعل صراعاتهم تنتشر في بعض وسائل الإعلام، وجعل المؤسسة الدينيّة الرسمية تصدر فتاوى في تحريم الفتنة وتجريم أفعال هذه الجماعة، ومن جديد تحرّكت الآلة البوليسيّة بالاِعتقالات والسجن، فأسرع مصطفى شكري لردّ الفعل باختطاف وزير الأوقاف وشؤون الأزهر السابق سنة 1977، ثم اِغتياله، وهو ما جعل الجماعة تدخل في مواجهة مع النظام المصري اِنتهى بإيقاف المئات من أعضاء الجماعة ومحاكمتهم، وتمّ إعدام مصطفى شكري في 30 مارس 1978 صبيحة زيارة السادات للكيان الصهيوني.
كل ما نعرفه عن مشروع مصطفى شكري يعود لمرافعته في المحكمة، ولا يعني ذلك أنّ الرجل لم يكن صاحب نظريّة ومشروع عقائدي حركي، بل إنّه أخذ في التأليف لأتباعه منذ سنة 1973 ليمنحهم مخزونا عقائديّا عمليّا، فحسب تصريحاته قد ألّف مصطفى شكري خمسة كتب في أربعة آلاف صفحة، وهذه المؤلفات محجوزة عند مباحث أمن الدّولة، توزّعت كالتالي:
- كتاب الإصرار: فيه ردّ تفصيلي على تأويلات المنتسبين لأهل السنّة.
- كتاب التبيّن: قواعد الحكم على الأفراد والمجتمع.
- مقدّمة لأصول الفقه: في الشبهات التي تعترض فكر الجماعة.
- وجوب الاِجتهاد وتحريم اِلتقليد (لم يكتمل).
- الإسلام ونواقضه (لم يكتمل).
وهناك كتاب لم تحجزه الأجهزة الأمنية بعنوان “الخلافة”، فهذه الكتب بعدد صفحاتها وموضوعاتها تــجعل من مصطفى شكري صاحب مشروع جهادي يــجمع بين الفكرة والتنفيذ، بـين العقيدة والحركة، وهي صورة مغايرة لما حاولت السلطة المصريّة إبرازه من كون مصطفى شكري كان رئيس عصابة إجراميّة، ولذلك نحن في حاجة لعرض التصوّر العقائدي الذي أسّس عليه مصطفى شكري نظريته إلى الإسلام الجهادي.
يقدّم مصطفى شكري أثناء محاكمته مدخلا نظريّا لتحديد وظيفة “جماعة المسلمين” ودورهم التاريخي، فينطلق من تصوّره للعقيدة لأنها ترتكز على أربعة ثوابت لا جدل فيها: أوّلا فطرة الإنسان من خلق الله، ثانيا خلق الكون ونظامه من عند الله، ثالثا الرسل حقيقة إلهية، وأخيرا الكتب التي أنزلها الله وهنا القرآن أساسا، والعلم عند مصطفى شكري لا يخرج عن هذه المواضع الأربعة القائمة على الخلق والأمر، ليستنتج أنّ الإسلام يجب أن يعتمد على الرأي والاِجتهاد بدل تقليد الأئمة والفقهاء، و”نحب أن ننبه أنّه منذ أن تُرك التلقّي من القرآن والسنّة واقتصر على اِلتقليد للرجال وآراء الرّجال الذين يسمّونهم الأئمة، فإنه قد سقط الإسلام”، فهو يدين الأئمة ويدعو إلى ترك تقليدهم، لأنهم غير معصومين، ولم يحيطوا بكل العلم لزمانهم وزمان غيرهم، وما كان الفقهاء ليتمّموا ما كان ناقصا في القرآن والسنّة، وهو ما جعل مصطفى شكري يعتقد أنّ المسلمين تركوا القرآن والسنّة وراحوا يبحثون عن هدي جديد من خلال مقولة “الإجماع وقول الجمهور” أو عمل أهل المدينة وهو مذهب مالك.
ويُضعّف مصطفى شكري الأحاديث التي تدعو لتقليد الأئمة والفقهاء والصحابة، ليطلب من المسلمين التعامل مع النصّ القرآني مباشرة دون وسيط أو شارح، بل يتمادى في تصوّره الفقهي إلى القول بوجوب رفض التتالي الترتيبي في التشريع من القرآن إلى السنّة، بل هما متجاوران متماثلان، “فقد وجب الجمع بين النّصين، وإمكانيّة الجمع موجودة عن طريق النّسخ.. حيث أنّ السنّة ما هي إلاّ بيان وشرح وتفصيل للقرآن، وأكثرها وكما هو معلوم ثابت، بل كلّها، بنصوص ترجيحيّة معظمها دون ثبوت القرآن”، وهو ما أثار المحكمة في القول بعدم ثبوت القرآن، وأكّد مصطفى شكري ثبوت النص القرآني من حيث الناحية العمليّة في العمل بأحكامه وتقديس الله وتوحيده، لكن من الناحية النظريّة هو نص تنسخه السنّة بالتفصيل والتخصيص والشرح والإضافة والتّبيين، كل ذلك من أجل أن يقرّر مصطفى شكري أن “جماعة المسلمين” ليست في حاجة لتقليد الفقهاء وأنها تحتاج أن تقرأ النص القرآني والسنة النبويّة بجهودها الذاتية فهما وشرحا وعملا واستنباطا.
حرّم مصطفى شكري الصلاة في المساجد مثلما حرّم تقليد السلف، لأنّها مساجد لم تُبن على اِلتقوى، وزاد في تحريمه لصلاة الجمعة، لأن من شروطها التمكّن، فالنبي محمّد لم يُصلّها في مكّة،ولكنه أقامها بعد التمكّن في المدينة، “فالصلاة مع غيرنا غير واردة، إنّما أقصد أنّ صلاة الجمعة فيما بيننا هي المشترطة بتمكّين الجماعة المسلمة، لأنّنا نتكلّم عن شروط صلاة الجمعة، أي أنّها لا تقام إلاّ بهذا الشرط، إن كان هو النّبي بنفسه إمام الجماعة المسلمة .. لم يفرضها على نفسه وأصحابه من المستضعفين، وهذه حجّتنا”، فمصطفى شكري تجاوز مرحلة تكفير المجتمع والدولة إلى مرحلة وضع ضوابط تحرّك الجماعة المسلمة المؤمنة، هي جماعة مغلقة بتعاليم قطعيّة فيها تطبيق حرفي لنصوص القرآن ضمن سياقات تاريخيّة مختلفة، وخطة الجماعة “تقوم أصلا على الاِنسحاب من هذه المجتمعات ثم العودة إليها ثم العودة إليها لتغيير هذه المجتمعات من أساسها بكل ما فيها وقلبها رأسا على عقب.. حيث أنّنا لا نؤمن بسياسة الترقيع، ولا نؤمن بتزيين الجاهليّة بالإسلام”، وأثبت مصطفى شكري قدرة فقهيّة متميّزة أثناء محاكمته، فرغم أنّه خريج الزراعة ولا علاقة له بالفقه والتشريع، إلاّ أنّه قدّم رؤية فقهية تدلّ على تمكّنه من آليات الإستدلال والحجاج لكل الأسئلة العقائديّة التي طرحها عليه رئيس جلسة المحاكمة وتركه يعرض مشروعه بكل أريحيّة وقناعة مطلقة، فلم يكن الرجل مجرما ورئيس عصابة مثلما صوّرته الصحافة المصريّة وقتها، بل كان أمير حركة اِسلامية جهاديّة له من النبوغ وقوّة الحجّة ما جعله يفتن شباب الجامعات بمقولاته في التأسيس للإسلام الجهادي، ويبدو أنّه بنى أفكاره على ثوابت سيّد قطب في التكفير، لكنّه تعمّق في آليات التكفير والهجرة بالمفاصلة المكانية للمجتمع الجاهلي.
يستشهد مصطفى شكري بالآية “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّـهِ”(البقرة: 1/193)، لتعميم قتال النّاس أجمعين، لأنّ الخطاب في هذه الرسالة موجه للمؤمنين وليس للناس، والمؤمنون هم الجماعة المجاهدة والعصبة المقاتلة، وقتل المسلم لا يكون إلاّ بثلاث: “فقد علمنا أنّ النّبي إذا أمر بقتل أحد لا يخرج عن كونه ثيّبا زانيا أو قاتلا لنفس، فإن لم يكن: فلا يكون إلاّ كافرا مرتدّا مفارقا للجماعة”، وطبعا مفهوم الجماعة عند مصطفى شكري هو “جماعة المسلمين” التي يتزعّمها هو أميرا، وقام مصطفى شكري بتكفير كل الذين غادروا الجماعة وعدّهم مرتدّين، فلاحقهم وقام بتصفيتهم، وبالاِستناد إلى قواعد التكفير التي وضعها سيّد قطب فليس هناك اِشكال في القتال، لأنّ التصنيف يقسم النّاس مؤمن وكافر، ويسخر مصطفى شكري من بعض الصفات الفقهيّة من كون مرتكب الخطيئة والمعصية هو فاسق، فيقوم بتأويل النصّ القرآني ليعدّ صفات مرتكب الكبيرة والمذنب والفاسق من صفات الكفر المطلق، فبما أنّ الجميع دخل دائرة الكفر والشرك،”والكافر أصل الحكم فيه أنه حلال الدم والمال، ولا تنفذ القاعدة النظرية هذه إلا بشروطها، ومن شروطها البلاغ”، فالجهاد عند مصطفى شاكر قتال مطلق في الزمن الحاضر من أجل الدّين كلّه، فما بعد البلاغ والتبليغ تدخل “جماعة المسلمين” في قتال مباشر لفرض طاعة الله وتطبيق شريعته.
الجهاد عند مصطفى شكري هو فعل حربيّ باِمتياز، تتخذه الجماعة وسيلة لتطبيق كتاب الله وأحكامه في الأرض، وجداله في المحكمة حول آيات القرآن في القتال والسلم والعهود والبدء بالقتال، يعطيه تأويلا تاريخيّا لمسار الدّعوة المحمّدية ويقيسه على واقع الحال، فالآيات لا تتعارض، بل تنسخ بعضها في قراءة تاريخيّة، هي نسخ يرتبط بالجماعة التي تخرج من حالة الاِستضعاف إلى حالة التمكين، حين يكون سيف الجهاد قتلا لكل من لم يذعن للجماعة وليس الدّين وحده، والآيات مرتبطة بالمرحلة، “لأنها مرتهنة بحالة معيّنة تتصل بحال الحركة الاِسلامية، وهي بصدد بلوغها غايتها النهائيّة يمرّ المسلمون بحالة إستضعاف وكف يد وصفح وعفو ودفاع وقتال على الجزية ومعاهدات، ثم قتال على الإسلام لذات الإسلام، وهذه كلها مراحل تقدّر بقدرها، ومن الأمثلة على القتال على الإسلام لذات الإسلام قوله تعالى: “ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يقتلون”(الفتح: 48/20)”، وغاب عن مصطفى شكري أنّ المرسل إليه هم الأعراب في أوّل الآية بما فيها من تحذير وتحفيز وتقريع، والقتال بالنسبة له حُكم عام مطلق غايته ظاهر الدّين وليس باطنه لتبرير عدم الإكراه في الدّين التي نصّ عليها القرآن، فالقتال ليس من غاياته تحقيق الإيمان القلبي، ولكنه من أجل الإخضاع والإذعان لحكم الإسلام، وهو “ما يعني بعد إقامة الحجّة على النّاس، وبعد أن تكون أدّيت مهمّتك في البلاغ فلست عليهم بمسيطر ولا أنت مكره أحدا على إدخال الإيمان في قلبه، ولا أنت تهدي من أحببت.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، فهي إذا مسألة ترتبط بمفهوم السلطة السياسيّة ذات المرجعيّة الدينيّة، ولقد كان مصطفى شكري واعيا أنّ العقيدة سلاح للسياسة، وأنّ السياسة لا يمكن لها أن تكون سلاحا للعقيدة، فالإخضاع والسيطرة هو خلق للنظام بمعزل عن المسائل العقائديّة، فحتى العبادات هي إقرار بالظاهر من حيث أنّ تارك الصلاة كافر وجب قتله، ولكنّ ممارستها تصبح دلالة على الخضوع للسلطة السياسيّة.
إنّ الجهاد عند مصطفى شكري في المرحلة الراهنة لا يجب أن يتوجّه لليهود، فالقضيّة الفلسطينية واِحتلال اليهود للأراضي المصرية والسورية لا معنى له، لأنّه يعتبر أنّ كل الأراضي واقعة تحت حكم الكفّار، وأنّ جماعة المسلمين مطالبة بقتال الكافرين الذين يعيشون بجوارهم قبل قتــال اليهود، “فــالأرض التي احتلها اليــهود ليست إلا جزءا من أرض الإسلام التي يحتلّها سـائـر الكافرين في الأرض قبل اِحتلال اليهود.. والخطة الاِسلامية في إعادة هذه الأرض كلها لله تحت السلطان المباشر للجماعة المسلمة ليست بالضرورة تبدأ بقتال اليهود، ولم تكن كذلك أيام محمّد، بل قد أمر بقتال غيرهم قبلهم”، وهذا يثبت أنّ خطة الجماعات الاِسلامية غير معنيّة بالصراع العربي الصهيوني، وأنّ كفار المجتمع والنظام أولى بالقتال من اليهود والنصارى إلا في حالة الدّفاع عن النّفس ويكون ذلك عن مضض لأنّ جماعة المسلمين ستجد نفسها تقاتل جنبا إلى جنب مع الجيش المصري الكافر، بل تبدو حجة مصطفى شكري في المحاكمة أكثر غرابة في إقصاء اليهود من أية عداوة مع جماعة المسلمين، فلا حاجة لجهادهم في ظل الأنظمة الكافرة حتى في حالة الغزو لمصر، فيعترف علنا : “غير أنه من الناحية الواقعيّة الآن فإنه ليس لليهودي أي أثر على الجماعة، وفي ذات الوقت فإنّ الجماعة لقيت من مباحث أمن الدولة ما يجعلها في نظر الجماعة الذي تجب مواجهته.. ولو أني كنت أعتقد أنّ اليهود سيدخلون مصر.. فليس بالضرورة أن يكون سلوكي تقديم شباب جماعة المسلمين للموت في هذه المعارك، إنّما قد يكون سلوكي هو ترك مصر وينتهي الأمر”.
لم يكن مصطفى شكري وفيّا لكل نظريّة سيّد قطب، بل إنّه يصرّح في المحكمة أنّ مشروع سيد قطب ظلّ منقوصا بعد وفاته، ولذلك اِعتقد أنّ واجبه تطوير تلك الرؤية، فحافظ على المقولات الرئيسيّة للمشروع القطبي من حيث المرتكزات الثلاثة: الحاكميّة، جاهليّة المجتمع، الجماعة المؤمنة، وهي مرتكزات تعطي للعقيدة الاِسلامية بُعدها الحركي، لكن هذا البعد الحركي لا يجب أن يقتصر على الجانب السياسي بتكوين الحزب الإسلامي والاِنخراط في الممارسة السياسيّة المباشرة، بل البعد الحركي يجب أن يتجلّى في مفهوم الجهاد الذي غيّر به النّبي محمّد واقع كفّار الجزيرة العربيّة ليخرجهم من الجاهليّة إلى النّور، غير أنّ مصطفى شكري اِستحضر من تجربة النّبي محمّد مفهوما حركيّا مركزيّا يعتقد أنّه السبب الرئيسي في نجاح المشروع التوحيدي وقيام الدولة الاِسلامية ألا وهو مفهوم الهجرة، فحسب رأيه لا يمكن للجماعة المسلمة أن تنجح في تحقيق رؤيتها وهي تعيش منسجمة ومختلطة مع النظام والمجتمع، فكانت دعوته للعزلة أو هي الهجرة، غير أنّ تلك الهجرة كانت هجرتان: هجرة شعوريّة داخل المجتمع بالعزلة والاِنفصال عن قيم المجتمع وأخلاقه ودينه، لأنها قيم الجاهلية ومظاهرها، فصارت لجماعة المسلمين بيوت منفصلة وجلسات خاصة في دائرة مغلقة، وكانت أقصاها هجرة مساجد الدولة وتحريم صلاة الجماعة والجمعة في تلك المساجد، والهجرة الثانية هي هجرة جغرافيّة خارج المجتمع في اِتجاهين: نحو كور الجبال والضيعات والمغـاور للعــيش والتدريب وتــجربة نموذج الدولة الاِسلامية، واِتجاه الهجرة خــارج مصر لشباب الجماعة حتى يوفّروا الدّعم المالي للجماعة، ومن هنا كان مفهوم الهجرة ومفارقة المجتمع الجاهلي مفهوما مركزيّا، وهي إستراتيجيّة عقديّة لمقاومة الجاهليّة التي أنتجت جيلا من الشباب الإخواني المطارد من المجتمع والأجهزة البوليسيّة، فكانت هجرة للهروب والتخفّي والرفض لعصر الاِنفتاح الاِقتصادي والأخلاقي.
يبدو أنّ تجربة مصطفى شكري كانت مختلفة عن تجربة صالح سريّة التي لم تدم أكثر من سنة ونصف لتنتهي بمحاولة اِنقلابيّة فاشلة، بينما كان لمصطفى شكري الكثير من الوقت في السجن كي يستوعب نظريّة سيّد قطب من خلال الجدل الذي وقع في السجون بين مساجين تنظيم 1965 الإخواني، فبعد مغادرته للسجن بدأ مصطفى شكري مباشرة العمل الميداني والتنظير للمشروع الحركي الجديد، فجنّد قرابة ثلاثة آلاف عضو في ما سمّاه “جماعة المسلمين” التي صارت تُعرف بجماعة “الدعوة والهجرة”، واِستطاعت هذه الجماعة أن تكون حلقة من حلقات التطبيق الجهادي لنظرية سيّد قطب وأبي الأعلى المودودي، واستغلّ مصطفى شكري حالة الرخاوة الأمنيّة، التي تعمّدها نظام السّادات من أحل خلق توازن سياسي مع القوى الشيوعية الصاعدة ضدّ سياسة الاِنفتاح التي اِنتهجها، ليرتّب صفوف جماعة المسلمين ويخلق مجتمع مغلق له أدبياته وأخلاقه وتدريباته، وظهرت قدرته على الإقناع من خلال اِعترافات بقيّة المتهمين في نفس القضية التي أعدم فيها مصطفى شكري، وبلغت حالة العزلة لدرجة نكران الابن لأبيه، وهجران الزوجة لزوجها واِلتحاقها بالجماعة، وهذه العزلة كانت أشبه بردّة الفعل لشباب الصعيد والأرياف على حالة الضياع التي عاشوها في العاصمة القاهرة حين اِلتحقوا بالجامعات.
“لا جهاد دون هجرة”، هو الشرط الذي وضعه مصطفى شكري بصورة إلزامية لمحاكاة التجربة النموذجيّة المحمّديّة، والجهاد يستند إلى مشروعيّة تكفير ما دون جماعة المسلمين، وشرطه التّبليغ، ثمّ الدّخول في مرحلة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وهذا أدنى درجات الجهاد والإيمان في الإسلام السياسي، وأعلاه القتال في سبيل الله ويبدأ بتصفية من غادر “جماعة المسلمين” وصولا إلى رأس نظام الكفر وكل من إشتغل معه، ولذلك تمّت تصفية وزير الأوقاف الذي هو في الأصل شيخ دين أزهري، لم ينفعه علمه ودينه أمام آليّة التكفير التي رسم ملامحها سيّد قطب وترجمها أولاده،
يمثّل مصطفى شكري حلقة مرجعيّة في تطوير مفهوم الجهاد المعاصر بصيغته القطبيّة، وما كان له أن يؤسّس مشروعه الحركي الجهادي لولا تمكّنه من المخزون العقائدي الذي حوّله من مجرّد مهندس زراعي إلى منظّر فكري للإسلام الجهادي، وبعد إعدام القيادة مكثت قواعد “جماعة المسلمين” في السجن فترة كانت كافيّة لمزيد تعميق الأفكار والخروج مشاريع جهاديّة مستقبليّة، وكانت “حركة الجهاد الإسلامي” المصريّة قد اِستوعبت ابناء صالح سريّة ومصطفى شكري، فلئن بلغ تعداد من جنّدهم صالح سريّة المائتين، فإنهم تضاعفوا مع مصطفى شكري فصاروا ألفين، وسيكون مسار تنظيم “الجهاد الإسلامي” المصري مختلفا عن سابق التجارب، والذي سيستوعب الألاف وتمتدّ في الزّمان لعقدين من الزمن بعمل ميداني جهادي واجه النظام المصري وأرهقه، وهو الذي في رصيده نجاح باهر حين قام بالتخطيط والتنفيذ في اِغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات وهو يحتفل بأعياد النّصر بين “ابنائه” مثلما كان يسمّيهم.
تنويه: كل الشواهد في المقال هي ملفوظ شكري مصطفى في محاكمته سنة 1977.