-1-
كيف يمكن، بالتأسيس على معطيات قابلة للقياس، تكوين تصور إجمالي لمسار التدين الإسلامي في المراحل القادمة؟ لقد أمكن استنادًا إلى مشاهدات الواقع تجاوز السؤال عن “قابلية” النظام الديني للتغير في المدى الطويل، فهذا النظام يتغير بالفعل نتيجة لضغوط التطور في النظام الاجتماعي، ويجري هذا التغير على نحو تدريجي بطيء بسبب خاصية “التجميد” الديني المحصنة بفكرة المطلق/ المقدس، لكنه يصل –كقاعدة- إلى نقطة التحول الجذري عندما تبلغ المواجهة بين النظامين حد التناقض الكلي.
النظام الديني الذي يُقرأ هنا من موقع المفعولية، لا يكف طوال الوقت عن تأثيره الفاعل في مفردات النظام الاجتماعي، لكن هذا التأثير الذي يكون قويًا في المراحل المبكرة القريبة من حقبة التأسيس، يأخذ في التقلص تدريجيًا مع تفاقم التناقض الاجتماعي وتصاعد حدة الضغوط الصادرة عنه، وصولًا إلى حالة الصدام التي تستدعي الحديث عن موقف المقاومة وهو موقف دفاعي صريح.
في النسق الإسلامي، كاليهودي، حيث تغلب المضامين السياسية التشريعية على بنية الديانة، قياسًا إلى المعاني المطلقة والروحية الخالصة، يتشابك الديني بالاجتماعي على نحو مربك يوحي بصعوبة الفصل بينهما، وهو ما يترجم في العقل الإسلامي التقليدي إلى إنكار فكرة المقابلة بين الديني والاجتماعي كنظامين منفصلين واقعيًا. وذلك على الرغم من أن هذه الفكرة تقوم ببساطة على مصادرات الطرح الكتابي ذاته، التي تؤسس الدين على مبدأ الوحي الإلهي المفارق أي القادم من خارج الاجتماع.
المعنى الإشكالي للتشابك بين الديني والاجتماعي يأتي من وجود منطقة مشتركة يتقاطع فيها المطلق مع الزمني، وهو ما يظهر في مفهوم الشريعة/ الدولة الذي يحتل موقعًا مركزيًا في بنية الديانة. مفهوم الشريعة الذي استحدثه نسق التدين العبري، يعني تمديد الدين إلى القانون، أي تحويل القانون إلى معطى مؤبد من خلال إلحاقه بدائرة المطلق. وهو معنى متناقض ذاتيًا، لأن الشريعة بما هي قانون واجبة التغير، وبما هي مطلقة واجبة الثبات.
-2-
مشكل الديانة الكتابية مع الاجتماع يكمن -إذن- في شقها الزمني التاريخي الذي يتعلق –غالبًا- بالمجال العام (الجمعي)، وليس في جوهر الدين المطلق الذي ينصب على الإيمان والروح الأخلاقي، ويتعلق غالبًا بالمجال الخاص (الفردي). ومهما قيل عن اجتماعيتها، تبقى الفكرة الإيمانية والأخلاق أقل تاريخية من القانون، وأكثر قدرة على مقاومة التطور. ولذلك فإن النظام الديني عندما يشرع –تحت الضغط- في مسار التغير/ التخلي يبدأ من نقطة الشريعة، لا من نقطة القيم ولا من نقطة اللاهوت.
يؤيد الاستقراء هذه القاعدة عبر تاريخ الديانات الكتابية الثلاث: تاريخ اليهودية -التي تعرف أصلًا كديانة قانونية- هو من إحدى الزوايا سلسلة من روايات السقوط المتكرر للشريعة (من حقبة التأسيس الموسوية المبكرة حوالي القرن 13 ق.م حتى التدمير الروماني في القرن الأول الميلادي، وبعد الشتات). وهي نتيجة مفهومة في سياقات تدين متباينة سياسيًا وثقافيًا وديموغرافيًا عبر مدى زمني طويل. ظلت فكرة “استرجاع” الشريعة تمثل الهاجس الأول ومحور خطاب الأنبياء منذ الدولة الموحدة، وهي تكاد تستغرق مادة الأسفار الوسطى التي تشكل الجزء الثاني من أجزاء العهد القديم. والمسيحية -التي راكمت طوال العصور الوسطى نفوذًا سياسيًا وتشريعيًا واسعًا- تنازلت كليًا، تحت ضغط الحداثة، عن صلاحياتها السلطوية في المجال العام، لكن صلاحيتها الروحية في المجال الخاص ظلت حاضرة. وفي السياق المعاصر، أمكن للمجتمعات الإسلامية المركزية، في ظل الدولة الوطنية وقبل ظهور وتصاعد التيار الأصولي تمرير عدة قوانين وضعية لا تتوافق مع الشريعة الموروثة. وعلى نحو ما، كانت هذه الخطوة “الرسمية” ترجمة لتوجهات وممارسات عملية شائعة أو مقبولة على نطاق واسع داخل المجتمع.
بوجه عام، يبدي النظام الديني درجة استجابة أسرع لمثيرات التطور الاجتماعي من خلال نسق التدين الشعبي، الذي يمثل الوجه الثاني لهذا النظام، مقابل منطوق الديانة الرسمي المكتوب في المدونة. خلافًا للمدونة، التي تعمل كمادة نظرية ذات خصائص مثالية جامدة، يشتغل التدين الشعبي على أرض الواقع محكومًا بالغرائز الفردية وقوانين الاجتماع الطبيعي، ومن هنا تأتي مرونته النسبية التي تسبق حركة المدونة على الدوام بخطوة أو خطوتين.
-3-
في المدى الطويل، وكخط رئيس لمسار التطور، سيتخلص النظام الإسلامي من حمولته الاجتماعية المباشرة مع بقاء نواته اللاهوتية الأكثر صلابة. سيتخلى النظام عن نفوذه النظري في المجال العام (السياسي التشريعي) دون أن يفقد نوعًا من الحضور الإرشادي في المجال الخاص (الروحي الفردي). أشير هنا إلى التخلص الرسمي الذي سيصدر عن المدونة في نهاية المطاف؛ المدونة كما يمكن تصورها في صيغة جديدة محتملة (واسعة ومطورة). عبر هذه الصيغة سيتم الإقرار ضمنيًا بتحول مفهوم الدين من سلطة شمولية حاكمة للمجتمع والدولة، إلى حالة وعي روحي نابعة من تجربة الذات الفردية، وهو بالنسبة للإسلام التقليدي تحول جذري فادح، يتجاوز مستوى التطور داخل المفهوم إلى تغيير المفهوم ذاته.
في الخط الموازي، يصعب تقديم تصور نهائي لمسار التدين الروحي الفردي، حيث يصعب التنبؤ بتداعيات الثورة العلمية (خصوصًا التكنولوجيا الإلكترونية باشتباكاتها البيولوجية والسيكولوجية) ذات المردود المباشر على المستوى العقلي والروحي. لكن مع استمرار التدين كتجربة وعي فردي ذات مضمون روحي أخلاقي، سيعبر هذا الوعي عن نفسه بصورة مغايرة لصور التعبير الديني التقليدية الموروثة من اجتماعيات التفكير القديمة، وستفرض “التعددية” خصائصها في هذا السياق كقانون طبيعي من قوانين الاجتماع.
لكن في المدى القريب والمتوسط، وعلى الرغم من الانحسار المتوقع للمد الأصولي، سيظل السؤال مطروحًا حول قابلية النظام الديني -عند مستوى التطور القائم- للتخلي عن فكرة الشريعة المؤبدة، بما هي شق جوهري من بنيته النظرية (الحصرية الثيوقراطية)، وحول الجهة التي تملك إقرار هذا التخلي باسم النظام على المستوى النظري، في ظل غياب مؤسسة جامعة ذات صلاحيات مفوض بهاء سواء من قبل النص أو من قبل الجمهور.