شكلت “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” التي وقع عليها الحبر الأعظم البابا فرنسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة شيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيب، يوم 4 فبراير (شباط) 2019، في الإمارات العربية المتحدة، بدعوة بادر إليها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في الدولة، خطوة نوعية وبنّاءة في طريق مدّ الجسور بين أبناء الديانات على مستويات عدة.
تطرقت الوثيقة إلى مسائل الحوار الإسلامي _ المسيحي، وتناولت قضايا عالمية تشغل مجتمعاتنا المعاصرة مثل: الفقر والتهميش، والمهاجرين، والحروب، والتعصب الديني، والصراعات الدولية والتقدم العلمي والتكنولوجي ومخاطره، وافتقاد عدالة التوزيع للثروات الطبيعية، والإرهاب، والحرية والتعددية والاختلاف في الدين، والعلاقة بين الشرق والغرب، والمرأة والطفل والمسنين. للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الإسلامية _ المسيحية، تلتقي مرجعيتان دينيتان كبريان وتوقعان على وثيقة من هذا النوع، ولا ريب أن هذا الحدث التاريخي ترك تأثيراً إيجابياً، في مسارات العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وهي مسارات حاضرة في التاريخ، على الرغم من التوترات التي شابتها في محطات تاريخية عدة.
في إطار الجهود المبذولة لتحقيق أهداف الوثيقة، أصدرت “اللجنة العليا للأخوة الإنسانية” في الثامن من مايو (أيار) الجاري، بياناً[1]، دعت فيه القيادات الدينية وجموع الناس حول العالم للصلاة والصيام والدعاء من أجل تجاوز وباء كورونا الخطير، وذلك يوم الخميس 14 مايو (أيار) الجاري.
استقبلت هذه المبادرة بحفاوة كبيرة من قبل المؤسسات والقيادات الدينية في العالم، ليس في المجال الإبراهيمي (اليهودية والمسيحية والإسلام) فحسب، وإنما أيضاً من قبل الهندوس والسيخ وغيرهم. وقد أعلن قداسة البابا فرنسيس، وفضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، ترحيبهما ومشاركتهما في هذا الحدث الإنساني العالمي، إلى جانب بطريركية أنطاكية وسائر المشرق المارونية، وشخصيات سياسية ورؤساء دول، نذكر منهم: “منتدى الحوار الإبراهيمي في ألمانيا والشرق الأوسط”، و”مجلس الكنائس العالمي” في سويسرا، و”المجلس الإسلامي النيجيري”، والرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو. يذكر أن لجنة الأخوة الإنسانية أطلقت الموقع الرسمي لمبادرة “الصلاة من أجل الإنسانية” الذي أعلن عنه الأمين العام للجنة الأخوّة الإنسانية، المستشار محمد عبدالسلام، خلال مؤتمر صحافي “عن بُعد” في 12 مايو (أيار) الجاري.
والحال، كيف يُفهم السياق العام لمبادرة “اللجنة العليا للأخوة الإنسانية” في الحقبة المضطربة التي نمر بها جميعاً؟ وهل هي دعوة دينية بحتة؟ أم تتخطاها باتجاه فضاء إنساني عالمي أوسع؟ إن المحنة المترتبة على فيروس “كوفيد 19” تركت تداعيات سلبية على مجمل المجالات البشرية: الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، ولا ريب أن واضعي البيان على دراية كاملة بالدور الحاسم “للطب والبحث العلمي في التصدي لهذا الوباء الخطر”، وفي الوقت نفسه يحاولون إطلاق مبادرة جامعة موجهة لكل فرد أو جماعة، بصرف النظر عن الانتماءات الدينية أو الإثنية أو العرقية.
نقرأ هذه المبادرة ضمن ثلاثة اتجاهات: أولاً، وهو الأهم: الإيمان بدور “العقل الطبي” وإنجاز المختبرات الطبية في التغلب على هذا الوباء والانحياز لهما؛ يتقاطع ذلك مع مجموع المؤشرات التي يمكن ملاحظتها على هوامش هذه المحنة العالمية، حيث حاول المستثمرون في الحقل الديني، الاستثمار في خوف الناس، فانتشرت الخرافات الدينية لدى بعض الفئات المجتمعية بدل الالتزام بتعليمات الأطباء وتعليمات الدولة. ثانياً: التأسيس لخطاب ديني إنساني شامل له قوة رمزية ومعنوية، يهدف إلى الحد من خوف المؤمنين وقلقهم في هذه المحنة، ويساهم في دعم جهود الدول والحكومات، لا سيما من قبل المؤسسات الدينية الرسمية؛ وذلك مع كامل إدراكنا أن السياساتِ غيرُ الديانات في معالجتها القضايا والملفاتِ الشائكةَ، لكن السياسة كما الدين محكومان بالبعد الأخلاقي أو المعايير الأخلاقية من أجل توطيد دعائم السلام والنهوض بالمجتمعات. ثالثاً: أهمية الدور الذي تضطلع به الإمارات العربية المتحدة في سياق الحوار الديني، والمساهمة اللافتة في إرساء ودعم منطلقات الإسلام المتنور والحداثي، وهي مهمة ليست سهلة في زمن الانغلاقات والتوترات، والمخاطر الناجمة عن التطرف الإسلاموي الحركي.
إن هذه الصلاة المشتركة من أجل الإنسانية الجامعة لأبناء الديانات، ليست الأولى من نوعها، فقد سبقتها “لقاءات أسيزي للصلاة من أجل السلام” في إيطاليا التي دعا إليه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني (1920-2005) في إطار التطبيق العملي لمقررات المجمع الفاتيكاني الثاني (Second Vatican Council) (1962-1965). كان اللقاء الأول هو يوم الصلاة العالمي الذي أُقيم في 27 أكتوبر (تشرين الأول) 1986[2]، وقد نظمه الفاتيكان لدعوة جميع الديانات الرئيسة في العالم للصلاة من أجل السلام، وتلاه لقاءات أخرى بين عامي 1993 و2019.
تحظى مدينة أسيزي (Assisi) الإيطالية برمزية دينية، فهي موطن القديس فرنسيس (ت 1226)، هذه الشخصية المسيحية المعروفة بدورها السلمي خلال الحملة الصليبية الخامسة (1217-1221)، ولا سيما الحوار الذي أقامته مع السلطان الملك الكامل الأيوبي، فأصبحت أنموذجاً للتلاقي الديني والروحي.
عربياً، جرت صلوات مشتركة عدة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان وفلسطين ومصر وأتت في مناسبات مختلفة. غالباً ما يتم مصادرتها من قبل المتطرفين من الجانبين، ولكن هذا لا يمنع ضرورة المتابعة، والتصدي للخطاب الإقصائي، وتفعيل الحوار بين الديانات ومن ضمنها تلك المنضوية في المجال الإبراهيمي، والتي تقف على أرومة دينية مشتركة، فمن المفيد أن يدخل كل طرف الخبرة الدينية للطرف الآخر لكي يفهمه من الداخل، وهذا لن يؤدي إلى زعزعة الإيمان بل يسمح بالمعرفة العميقة بالآخر، بعيدًا من الإطلاقيات والاصطفاء الديني الخلاصي.
يمكن النظر إلى مبادرة “الصلاة من أجل الإنسانية” في مضمار التواعد الإنساني الجامع، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار الزاوية العابرة للديانات فيها، أي تلك المتأسسة على نزعة الأنسنة في الدين، التي نحن بأشد الحاجة إليها اليوم وغداً، ليس في أزمنة الأوبئة فقط، بل أيضاً في سبيل ملاقاة الآخر واختراق جدران العزلة الدينية، التي تتعذى منها الأصوليات والإحيائيات الجديدة، وذلك في ضوء السيناريوهات التي تتوقع صراعاً أشرس للهويات، ورقابة أقوى على الحدود، وتداعيات اقتصادية واجتماعية مؤلمة، ومخاوف على استقرار الدول ومؤسساتها.
[1] – صدر البيان بـ(14) لغة هي: العربية، الإنجليزية، الصينية، الإسبانية، الألمانية، الإيطالية، الفارسية، العبرية، التركية، الأوردو، البشتو، السواحلية، الإندونيسية والفرنسية.
[2] – عندما أعلن البابا يوحنا بولس الثاني عن اليوم الأول للصلاة من أجل السلام في أسيزي، عام 1986، كان هناك كثير من الشكوك من جانب المسلمين، ولم يشارك إلاَ عدد قليل منهم، ومعظم كان ذات تمثيل شخصي ولم يكن يمثل جالية أو مجموعة. وبحلول موعد اليوم الثاني للصلاة عام 1993، في أوج الحرب في البوسنة، اقتنع المسلمون أكثر بالمشاركة في الصلاة، وعندما دعا البابا القيادات الدينية للصلاة عام 2002، بعد ستة أشهر على الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له الولايات المتحدة في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، كان هناك الكثير من المسلمين الذيت تجاوبوا. انظر: ميشال، توماس (اليسوعي)، بناء ثقافة الحوار، ترجمة: ناصر محمد يحيى ضميرية، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 2010، ص 166-167.