-1-
تمثل البيولوجيا نقطة الاشتباك الأكثر حضورًا بين الدين والعلم في التراث الإسلامي. وفي النموذج السني وحده يمكن الإشارة إلى أكثر من ثلاثين كتابًا في الطاعون والوباء، إضافة إلى المعالجات الموسعة في كتب التفسير والتاريخ، حيث تختلط أقوال الرسول وشروح الفقهاء، ببعض التفسيرات العامة ( غير التجريبية) التي يدلي بها ” الأطباء” الذين هم في الغالب فقهاء أيضًا.
في هذا السياق الثقافي الخاضع تمامًا لهيمنة الفقه، حيث لا تظهر حدود فاصلة بين مادة الفقيه وسائر المواد التي ستندرج لاحقًا تحت مصطلح “العلم”، يدخل الطب في جملة المسائل التي يجري تناولها من خلال النصوص وخصوصًا الحديث. وعلى المستوى النظري لا تظهر أي مؤشرات عن تناقض صريح، أو مشكل تصادم بين الدين والعلم؛ الدين الذي يهيمن منفردًا على مجمل الثقافة، والعلم الذي لم يكن قد تبلور في الوعي العام كنوع تخصصي منفصل عن اللاهوت من حيث المنهج والموضوع، ولا كطرف تنافسي مقابل للدين من حيث السلطة، كما سيظهر -لاحقًا- في سياق ثقافي مغاير مع الحداثة الغربية.
ومع ذلك كان ثمة نوع من الجدل بين الفقه والمعارف “الطبية” الشائعة التي توفرت على درجة من التطور والاستقلال التخصصي في المحيط الإسلامي قياسًا إلى مثيلاتها في الثقافات الوسطية. لكنه لم يكن جدلًا عنيفًا، وأمكن على الدوام احتواء هذه المعارف داخل الإطار الفقهي العام، إما من خلال النفي أو بالتوفيق التأويلي.
-2-
ثمة ما يمكن وصفه بتراث فقهي واسع في الطاعون، الذي يشير تارة إلى مرض محدد معروف بأعراضه الخاصة، وتارة إلى مطلق الوباء أي المرض المعدي الذي ينتشر على نطاق واسع في وقت قصير. وتعكس رؤية الفقه للوباء ثقافة العصر الوسيط الإسلامي بخصائصها الثلاث:
- الروح الغيبي العام، الذي يفكر في الأشياء كموضوع إلهي.
- مرجعية الشريعة، التي تستند في الغالب إلى روايات الحديث.
- مستوى المعارف الطبية، الذي لم يصل – منهجيًا أو موضوعيًا- قط إلى نقطة التناقض الكلي مع الرؤية الفقهية.
من حيث المبدأ يجري التفكير في الطاعون/ الوباء كفعل إلهي، لا كمعطى ناجم عن أسباب في الطبيعة، أو بغض النظر عن كونه ناجمًا عن هذه الأسباب. وهو آلية من آليات “الجزاء” الذي يعجّله الله “كعقاب” للكافرين والعصاة، وهذا هو الأصل فيه. لكن الله يرسله أحيانًا “كابتلاء” للمؤمنين ويشار إليه في هذه الحالة بوصفه رحمة.
أما السبب المباشر للطاعون فهو طعن “الجن”. وهذا ما يميزه عن الوباء، فحسب ابن حجر العسقلاني شارح البخاري الشهير: ” ما يفترق به الطاعون من الوباء، أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون، وهو كونه من وخز الجن”.
ويصرح ابن حجر بأن الجن “شوهد بالشام ( وقت الطاعون) عيانًا على خيل كالجراد تطعن المارة بالرماح في بعض أزقة الصالحين”. وهو تصريح يدعو للتساؤل عما اذا إذا كانت هذه المشاهدة تنقل المسألة من دائرة الميتافيزيقياالميتافيزيقا، أي تجعل الجن كائنًا طبيعيًا قابلًا للإدراك بالحواس، أم تنقل الميتافيزيقا إلى دائرة الاستدلال الطبيعي. لكنه يشير في الحالتين إلى نسق الثقافة الغيبية السائدة في الوعي الديني الإسلامي والوسيط عمومًا.
-3-
تقوم هذه الرؤية على إسناد “نصي” مباشر قوامه جملة من الروايات المنسوبة إلى النبي، والتي تم اعتمادها كأحاديث مقبولة/ صحيحة بمقاييس علم الحديث. ويمكن الإشارة هنا إلى نصين رئيسيين رئيسين مرويين بصياغات متفاوتة في البخاري ومسلم وبعض كتب الصحاح والمسانيد السنية:
- حديث عائشة: ” سألت رسول الله (ص) عن الطاعون فقال: كان عذابًا يبعثه الله تعالى على من يشاء، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد”.
( البخاري “3474”. وفي رواية أخرى عند البخاري أيضًا ومسلم والنسائي، عن أسامة بن زيد قال رسول الله (ص): “الطاعون رجز (عذاب) أرسل على طائفة من بني إسرائيل”).
- حديث أبي موسى الأشعري: قال رسول الله (ص) “فناء أمتي بالطعن والطاعون. قالوا يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال وخز أعدائكم من الجن”.
( مسند أحمد (19528) -مسند الطيالسي 536- البزار (2986). وهو حديث صحيح بمقاييس البخاري حسب ابن حجر، ووفقًا للألباني من المحدثين السلفيين المعاصرين).
النص الأول يتجاهل كليًا الأسباب الطبيعية كمصدر للمرض. هو في الواقع لا يناقش هذه الفكرة من حيث المبدأ. فهو ليس نصًا طبيًا مشغولًا بتشخيص أو تعليل المرض في ذاته كظاهرة طبيعية، بل هو نص ديني مشغول بتثبيت المعنى الإلهي. ومن داخل هذا الغرض يعطي النص تعريفه للمرض الذي لا يخرج عن كونه عذابًا للكافرين أو رحمة للمؤمنين. أما النص الثاني فيعرض لتعليل المرض ويحدد له مصدرًا مباشرًا من خارج الأسباب الطبيعية.
تجاهل الإشارة إلى الأسباب الطبيعية لا يعني – نظريًا- إنكار وجود هذه الأسباب، لكنه يشي ” بتأخرها” في الوعي “النصي” والخطاب الفقهي بوجه عام. حضور الأسباب الطبيعية وارد، ولكن في إطار السببية الأصلية التي هي إرادة الله ( العلة الأولى) من جهة، وفي إطار السببية المباشرة التي هي وخز الجن، من جهة ثانية، يتساند هذا الفهم في السياق السني برؤية الكلام الأشعري التي تقدم حجة الدليل السمعي، وتنفي عن الأسباب الطبيعية أي فاعلية علية، أي تنكر مبدأ السببية لتقول بفكر الاقتران ( لا تحدث الأشياء لعلل طبيعية كامنة فيها، بل يقترن حدوثها بهذه العلل كما يدركها الوعي) وذلك تلافيًا للقول بفاعل غير الله.
لكن الصورة ستظهر بشكل أوضح من خلال الطرح الذي يقدمه ابن حجر العسقلاني لمسألة الطاعون والوباء، والذي أعرضه هنا كنموذج لطريقة التفكير الفقهي التراثي بنزعته “الحديثية”، ولعملية الجدل بين الأسباب الطبيعية والنص السمعي في السياق السلفي السني ( سيطور العقل الفقهي المعاصر آليات توفيقية جديدة في هذه العملية تحت ضغط التطور العلمي، مع بقاء جوهرها التأويلي). يتوفر ابن حجر – وهذا سبب اختياره في هذا السياق – على مكانة- مرجعية عالية لدى العقل السلفي والأصولي المعاصر، بوصفه أكبر شراح البخاري، والحارس الأول لسلطته التاريخية.
-3-
فضلًا عن شروحه الموسعة في “فتح الباري- باب ما يذكر في الطاعون” خصص ابن حجر كتابًا في الطاعون بعنوان ” بذل الماعون في فضل الطاعون” وكسائر الشراح النقليين الذي الذين تناولوا المسألة دخل ابن حجر في نقاش مع التفسيرات الطبية المطروحة، وانتهى مثلهم إلى رفض هذه التفسيرات التي تدور غالبًا حول فكرة فساد الهواء ( طرحت تفسيرات أقل أهمية تربط بين ظهور المرض وحركة الأفلاك. وفي وقت متأخر ستظهر آراء تشير إلى تأثير الأغذية وتعفن الطعام خصوصًا في زمن المجاعات).
اهتم ابن حجر على نحو خاص بفكرة التمييز بين الطاعون والوباء، ليس اعتمادًا على فوارق تشخيصية مستمدة من التجربة، أو حتى من الملاحظة العادية، بل استنادًا إلى الخبر السمعي الذي يخص الطاعون بكونه من وخز الجن. وذلك خلافًا للآراء الطبية التي تفسر الطاعون بأسباب في الطبيعة وتسوي بينه وبين الأمراض واسعة الانتشار التي تسمى بالوباء.
يناقش ابن حجر في فتح الباري تفسير ابن سينا للطاعون ” هو مادة سمية تحدث ورمًا قاتلًا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن…. وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر سميِّ يفسد العضو ويغير ما يليه ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة.. والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس. وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده”.
كطبيب متفلسف، يتجاهل ابن سينا حديث الجن والنقول عمومًا وهو بصدد الحديث عن الطاعون. وهو يصدر في ذلك عن ثقافة عقلية أوسع من ثقافة النقل الفقهية، التي كان على إلمام بها، والتي كان يدرك أنها لا تستغرق الدين. ثقافة ابن سينا ذات الجذور الأفلاطونية تتناغم تمامًا مع الأرضية الكلية للدين، لكنها ببنائها العقلي تتعارض جزئيًا مع الأرضية النقلية للفقه؛ الطاعون مرض، أي ظاهرة طبيعية، ومن هذه الزاوية لا فارق بينه وبين الوباء. (من اللافت في نص ابن سينا ربطه بين فساد الهواء وفساد الدم، الذي يتحول إلى ” جوهر ( أي جسم) سميِّ يفسد العضو وما يليه” فهي إشارة تكاد تلامس على نحو غامض مفهوم البكتيريا و ” الفيروس” كما سيكتشف لاحقًا قرب نهاية القرن التاسع عشر.).
بحسب ابن حجر: ” لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم… ومما يؤيد أن الطاعون من طعن الجن وقوعه غالبًا في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواءً وأطيبها ماءً. ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانًا ويجيئ ويجيء أحيانًا على غير قياس ولا تجربة.. ولأنه لو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد ولا يتجاوزه. ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه من طعن الجن كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك ومنها حديث أبي موسى”.
في تفنيده لفكرة فساد الهواء كسبب للطاعون، يستخدم ابن حجر أدلة عملية مستمدة من الملاحظة. لكنه يفترض ان أن دحض التفسير بفساد الهواء يدل تلقائيًا على صحة التفسير بطعن الجن. فطالما أن الطاعون لا يرجع إلى هذا السبب الطبيعي، فلابد أنه يرجع إلى سبب مما وراء الطبيعة، وهي قفزة استدلالية فاسدة، لا بمقاييس العقل التجريبي (العلمي) المعاصر فحسب، بل أيضًا بمقاييس العقل المنطقي التقليدي التي لم تكن غائبة عن الكلام السلفي. فوفقًا لهذه المقاييس الأخيرة، لا يلزم عن غياب علة طبيعية بعينها نفي جميع العلل الطبيعية المحتملة وغير القابلة للاستقصاء. أما المقاييس الأولى فتنكر من حيث المبدأ وجود علل من خارج الطبيعة خلف أي ظاهرة طبيعية. فمنذ القرن السابع عشر – كما يشرح وولتر ستيس- ” أصبحت قاعدة راسخة من قواعد العلم ألا يسمح بأية أسباب من خارج الطبيعية لتفسير ظواهر الكون. فحتى لو بدت ظاهرة طبيعية بغير تفسير فلا ينبغي أبدًا تفسيرها كحالة من حالات الفعل الإلهي” ( الدين والعقل الحديث- الفصل الخامس). وهي القاعدة التي ستشكل تحديًا إضافيًا أمام العقل الفقهي النقلي المعاصر في محاولته للتوافق مع الحداثة العلمية).
لكن ابن حجر لا يعتمد على هذه الأدلة العملية كآلية استدلال رئيسيةرئيسة، بل على حجية الدليل السمعي الذي تمثله أخبار الآحاد، سواء بدلالة العبارة أي التصريح النصي المباشر كما في حديث أبي موسى، أو بدلالة الاقتضاء، أي الاستنتاج الضمني المركب من الروايات والواقع معًا، حيث تنتج الروايات حقيقة مكافئة لحقيقة الواقع، يشرح ابن حجر:
” والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء ( يعني الدليل على أن الطاعون لا يرجع إلى سبب طبيعي) ما سيأتي في رابع أحاديث الباب أن الطاعون لا يدخل المدينة. وقد سبق في حديث عائشة “( قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله” ) وفي قول بلال “( أخرجونا إلى أرض الوباء” ) وما سبق من حديث أبي الأسود ” (قدمت المدينة في خلافة عمر وهم يموتون موتًا ذريعًا”، )، وما سبق في حديث العرنيين في الطهارة أنهم استوخموا المدينة، وفي لفظ أنهم قالوا إنها أرض وبئة. فكل ذلك يدل على أن الوباء كان موجودًا بالمدينة، وقد صرح الحديث بأن الطاعون لا يدخلها، فدل على أن الطاعون غير الوباء، وأن من أطلق على كل وباء طاعونًا فبطريق المجاز”.
ومع ذلك سيحاول ابن حجر التوفيق بين الدليل السمعي والأسباب الطبيعية من خلال التأويل ” فكونه من طعن الجن لا يخالف ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه، لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة ( التي يطعنها الجن) فيحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب”.
-4-
على وقع الأزمة الراهنة، لا يزال السؤال مطروحًا؛:
كيف يبدو المشكل في الوعي الإسلامي المعاصر بمستوياته المتعددة: المستوى الفقهي التقليدي ( الذي يصر حرفيًا على استصحاب النموذج السلفي الحديثي). والمستوى العقلي التجديدي (الذي يضمر شعورًا بالخجل حيال هذا النموذج، لكنه يحاول – بآليات تأويلية جديدة- أن يوفق بينه وبين النموذج العلمي الحديث). وأخيرًا، مستوى التدين الشعبي الدارج (الذي يجمع على نحو مدهش بين خصائص العقلين السلفي والتجديدي، ليصنع نموذجه العملاني الخاص القادر على مجاراة الواقع)؟
يتبع
عبد الجواد يسن