دبي:
يواصل كتاب المسبار الشهري «النقشبندية: النص، التاريخ، الأثر» (الكتاب الرابع والثلاثون بعد المئة، فبراير/ شباط 2018) دراسة الظاهرة الدينية وتشكلها عبر التّدين الجماعي والفردي، وتأثرها بالمحيط الثقافي، ثم تطورها وفقًا للزمان والمكان والرجال. ويختار الطريقة النقشبندية لتوضيح معاني التصوّف السّني، وهو واحد من أعمدة في الطرق الصوفيّة السنية اللاحقة لها، وقد عمّ تأثيرها النطاقين الآسيوي والأفريقي. ولا يزال حضورها السياسي والاجتماعي محط اهتمام الباحثين، كما استطاعت مبادئها في الذكر والتربية الروحية أن ترسخ قيمًا جديدة على الممارسة الصوفية.
الطريقة النقشبنديّة: استقراء تمهيديّ لتاريخها وأهميّتها
نُشرت هذه الدراسة في الإنجليزية تحت عنوان (The Naqshbandī Order: A Preliminary Survey of Its History and Significance) في مجلة (Studia Islamica) العدد (44)، 1976، ص 123-1952. لحامد ألجار (Hamid Algar، أستاذ فخري بريطاني – أمريكي في الدراسات الفارسية في كلية دراسات الشرق الأدنى جامعة كاليفورنيا (University of California)
وفيها يقدم ألجار محاولة لاستقراء مجمل تاريخ النقشبنديّة في مساحة بحثه. وقد ترتب عنها بالضرورة تبسيط كبير وإسقاطات كثيرة، خاصّة في ما يتعلّق بالتطورات الأخيرة للنقشبنديّة في آسيا الوسطى وتوسّعها في سيبيريا والصين. لكن يمكن تبرير المحاولة بأنّها نجحت في إظهار تواصل الطريقة مع أصولها المبكّرة؛ وفي إظهار أنّها لعبت دوراً مميّزاً ومتماسكاً على امتداد تاريخها؛ وبالتالي في شرح تعريف التصوّف الذي كان نقطة انطلاقة بحثه.
فيتناول النقشبنديّة: التاريخ والسلسلة وروابطها، مستعرضا سيرة بهاء الدين وتبلور النقشبندية، وتوسعها والدور السياسي الذي لعبته، كما يتناول ألجار، السرهندي في سياق التاريخ النقشبنديّ، والتأثير النقشبندي المجددي. حيث يُعتبر من أهمّ الشخصيات في السلسلة النقشبنديّة بعد بهاء الدين. فعلى غرار أثر شخصيّة بهاء الدين نقشبند الروحيّة على السلسلة التي سُميّت بلقبه، أدّى تأثير السرهندي إلى إلحاق مصطلح «مجدّدي» بلقب نقشبنديّ للإشارة إلى الفرع المتأثّر به. وفي الواقع، فإنّ أغلب المجموعات النقشبنديّة المتبقّية تعرّف نفسها بصفتها نقشبنديّة مجدديّة.
النَّقْشَبَنْدِيَّة في إِيران ومَا وَراءَ النَّهْر.. النشأة والمبادئ
تناول الباحث المصري المتخصص في التاريخ الإسلامي أحمد محمود إبراهيم نشأة النقشبندية في إيران ومبادئها. ويعرف الطريقة النقشبندية في سياقها التاريخي الذي نشأت فيه فحدَّد لها وجهتها ورسم لها طريقها، منذ ظهورها الأول في شرق إيران وما وراء النهر إبان القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، مرورًا بما عرفته من ألوان النمو والتطور على يد مشايخها الأوائل ورجالها مثل: يوسف الهمذاني، عبدالخالق الغجدواني، ومحمد بهاء الدين نقشبند البخاري.
اتخذت ورقته من مطلع القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) حدًّا زمنيًّا تنتهي إليه. واشتملت على تعريف موجَزٍ بأعلام الطريقة، وتضمَّنت حديثًا عن الملامح العامة للطابع السُّني الذي امتازت به، وعرضًا لمبادئها الدينية وما أرسته من آداب في السلوك الرُّوحي، ورصدًا لجانبٍ من نشاطها في المجال العام، وبيانًا لموقفها من السُّلْطة وموقف السُّلْطة منها.
معالمُ التربية الرُّوحية عند مولانا بهاء الدين شاه نقشبند
الباحث المصري محمد السيد البرسيجي، يستعرض واسطة عقد مشايخ الطريقة العلية، والتي سُمِّيت الطريقة بشهرته التي اشتهر بها، محمد بهاء الدين، المعروف بشاه نقشبند، وعن معالم وخصائص التربية الروحية لديه من خلال المصادر العربية والمترجمة التي وقفتُ عليها، وهي غير كثيرة للأسف.
كما يلفت إلى مسألة التعامل معهم ـأي الصوفيةـ باعتبارهم أصحاب فلسفةٍ نظريةٍ، أو آراء فكريةٍ ناتجة عن مجرد النظر المنطقي والفلسفي في الأشياء، ويرى أن تلك النظرة نشأت من بعض الدراسات الاستشراقية للتصوف. فمناهجُ الصوفية ـوبالأخص منها النقشبنديةـ ليست وليدة النظر العقلي المحض، وليست بناءً على اجتهادات فكرية فلسفية مبناها النظر في طبيعة وحقائق الأشياء، وإنَّ محاولة إرجاع كلِّ مذهبٍ صوفيٍّ إلى رأي فلسفي (يوناني/ هندي/ آسيوي) ليست إلا تِيهًا في براري لا خروج منها. فمناهج الصوفية هي محض التجربة الإنسانية الصافية في أجلى وأبهى صورها، لكلِّ صوفي طبيعته وفلسفته الخاصة، التي من الضروري أن نبحث عنها من خلال سيرته وحياته وما خلَّفه من مؤلفاتٍ أو ما تركه من تراثٍ أو آراء.
تفرعات النَّقشبندية: مشيختا البارزانية وحه قه
يشير الباحث العراقي في التراث والفلسفة الإسلامية رشيد الخيُّون في مستهل دراسته إلى أن هناك حاليًّا طريقتين صوفيّتين بكردستان العراق هما: القادريّة والنقشبنديّة. والأولى أكثر انتشارًا بين عامّة النّاس، والثانية هي الأقرب إلى الوسط الثقافيّ. ولعلّ السَّبب في ذلك أنّ القادريّة تعتمد رياضة الأفعال الخارقة مثل التهام النار وطعن الجسد بالسيف والخنجر، وملاعبة الأفاعي وغيرها من المخاطر، التي تجذب النَّظر. بينما شاعت النقشبنديّة في الوسط الثقافيّ، إلى حدّ ما، لطبيعة طقوسها وتجرّدها عن تلك الرِّياضات. وهو ما يركز عليه الباحث.
وقدم الباحث لوجود جماعتين انسلختا من الطريقة النَّقشبندية: المشيخة البارزانية، ومشيخة حه قه. لم يكن انسلاخاً كاملاً، ويرى أنهما ما زالا يعترفان بانتمائهما إلى الطريقة الأم، مع الاختلاف في الأفكار والممارسات، والنَّظرة الخاصة إلى العبادة والمعاملة. ومع تقاربهما في الأفكار وولادتهما مِن رحم واحد، إلا أنهما لم يلتقيا، وكذلك لم يتواجها، وهذا ربَّما لا يعني النشاط السياسي المسلح، فالانتماء في هذا المجال له هدف وإطار مختلفان، أي إن السياسة تلعب دورها، فحصل أن العديد من شباب مشيخة حه قه قد التحقوا في الحرجة الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني، ولكن ليس على أساس يتعلق بالمشيختين وتقاليديهما. غير أن ما يفرقهما هو ميل المشيخة البارزانية للعمل المسلح، بينما مالت مشيخة حه قه إلى السلم، وإذا كانت لديها مشاكل مع الحكومات العراقية، فالأمر يرتبط بتعاليمها الخاصة، واعتراضها بشكل من الأشكال على سياسة السلطة، من دون أن تسعى إلى حمل السلاح، أو تشكيل ميليشيا، أو جيش مقاتل، وهو ما عُرف كردياً بـ«البيشمركة». مع ذلك، فالبارزانية حاولت في ظل مشيخة أحمد البارزاني المحافظة على التقاليد النقشبندية في السلم، وعلى وجه الخصوص بعد الإعدامات والآلام التي حصدتها في ثوراتها المتعددة ضد الحكومات العراقية. كذلك كان لمشيخة بارزان تقاليد قبلية، شكلت طابعاً اجتماعياً خاصاً بها، كقيادة اجتماعية وسياسية أيضاً، عن طريق الحزب الديمقراطي الكردستاني، المعروف بالبارتي، وسبقت الإشارة إلى تميز هذه العشيرة بالعمامة الحمراء، والتي صارت تقليداً معروفاً، لا يخل به أحد من بقية الكُرد، وهذا ما لم يتميز به مشايخ حه قه عن غيرهم مِن الأتباع، وإذا كانت للأخيرين ارتباطات بالسياسة فيبقى بحدود التأييد أو الشجب، وليس التنظيم والقيادة، مثلما هو الحال عند البرزانيين. أما ما يتعلق بالدِّين وممارسة العبادة، أو لنقل التدين، فما زالت المشيختان متميزتين فيه عن بقية الطريقة الأم النقشبندية، وعن المجتمع الكردي بشكل عام. ظهرت في المشيختين آراء وممارسات بعيدة بعض الشيء عن تقاليديهما، وهذا أمر طبيعي فكل فكرة أو ممارسة، وعلى وجه الخصوص إذا كانت اجتماعية تبلغ حداً معيناً وتنشطر على نفسها، وإذا ظلت البارزانية، على الرغم مِن ظهور تفرعات في داخلها، مثل الخورشيدية، وحزب الله بزعامة محمد خالد أحمد البارزاني (ت 2005)، إلا أنها ظلت محافظة على قوة حضورها، والأمر على ما يبدو يتعلق بمكانتها السياسية، أما مشيخة حه قه فلم تستطع المحافظة على قوتها، بل إن وجودها بات مهدداً، كتقاليد وأعراف.
حضرة المُجدِّد في نظر مُفكِّري الشرق
ترجم مركز المسبار دراسة لمحمد مسعود أحمد وهو باحث هندي متخصص في التصوف. حملت مقالته عنوان حضرة المُجدِّد في نظر مُفكِّري الشرق، تناول فيها سيرة حياة شاه ولي الله المحدِّث الدَّهلوي. ومتحدثا عن سلسة الحديث التي أخذ فيها ولي الله الطريقة عن أبيه الشيخ عبدالرحيم، عن السيد عبدالله، عن الشيخ آدم البنوري، عن الشيخ أحمد السرهندي، عن أبيه الشيخ عبدالأحد، عن شاه كمال، وبالإضافة إلى سلاسل الطريقة، فإنَّ سلسلة الحديث لحضرة السيد شاه تصلُ إلى حضرة المجدِّد عبر ثلاثة أسانيد، ذكرها وهي: (مشكاة المصابيح)، و(صحيح البخاري)، وغيره من (الصحاح الستة). كان حضرة شاه ولي الله متأثرًا بالسلسلة العَليَّة النقشبندية، وبحضرة المجدِّد بصفة خاصة، فأورد في كتابه «القول الجميل» مصطلحات مشايخ النقشبندية، واللطائف الست، وتصرُّفات السَّادة النقشبندية، وذَكَرَها. وفي ضوء تجاربه ومشاهداته الشخصية، يرى أن حضرة المجدِّد تقدَّم خطوةً إلى الأمام من نظرية وحدةِ الوجود، وقدَّم نظرية وحدة الشُّهود، ولما كان التأويلُ والتفسير المُخطِئ لتصوُّر وحدة الوجود قد أفسد المناخ العام في عصر حضرة المجدِّد، فقد تولَّى سيادتهُ مهمةَ التأويل والتفسير الصحيح له، وقدَّم نظريةً لا تشوبُها أيُّ شائبةٍ من التأويل المُخطئ، أي: تصوُّر وحدة الشُّهود. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أصلحَ الأسلوب الفكري للمشايخ الذين كانوا يعتبرون الشريعة والطريقة حقيقتين منفصلتين، فبرهنَ حضرة المجدِّد بالدليل العقلي والنقلي على أنَّ كلًا من الشريعة والطريقة هو عينٌ للآخر، وليس بينهما مثقالُ ذرة من فرق. وبتلك الطريقة قضى حضرة المجدِّد على الفتن التي كان يُمكن أنْ يندلعَ لهيبها أو كان يندلع بسبب الفصل بين الشريعة والطريقة. الأمر الثالث الذي فعله، أنه برهن على أنَّ الرقص والموسيقى لا أساسَ لهما من الصحة، واستبعدهما من الذكر والأذكار، مخالفًا بعضَ المشايخ الذين كانوا قد أدخلوهما في الذكر، والبعض الآخر كان يتصورُ أنهما يحلَّان محل الذكر، وعقدَ حضرة المجدِّد مقارنة بين حقيقة الصلاةِ وحقيقة الرقص والموسيقى، وأخبرنا بأنَّ منبع السكون والطمأنينة يكمنُ داخل القلب، ونحن نبحثُ عنهما في الخارج، وما من نشاطٍ يَفُوقُ الصلاةَ في بلوغ السكينة القلبية، واللذة الرُّوحِيّة.
النقشبندية وفرعها «النقشبندية المجددية» في الحرمين في القرن السابع عشر
نشرت هذه الدراسة للمحاضر والمؤرخ الفلسطيني عطا الله قبطي، في مجلة (Die Welt des Islams) «عالم الإسلام» الهولندية، وحملت عنوان (The Naqshbandiyya and Its Offshoot, the Naqshbandiyya-Mujaddidiyya in the Haramayn in the 11th/17th Century) أبريل (نيسان)، المجلد (43)، العدد (3)، 2003. يشير فيها إلى أن مدينتي الحجاز المقدستين مكة والمدينة، شهدتا منذ الفترة المملوكية من عام 648هـ 1250م حتى عام 923هـ 1517م زيادة في مكانتهما كمركزين للتعلم الإسلامي يعود الفضل في ذلك إلى دعم السلاطين المماليك الذين قاموا بإنشاء وتمويل مجموعة واسعة من المؤسسات التي كانت تهدف للتعليم وممارسة الأنشطة الصوفية بما في ذلك المدارس والأربطة والزوايا والخانقاوات.
ويركز قبطي في هذا البحث على تأثير النقشبندية وفرعها، أي النقشبندية المجددية التي تُنسب للشيخ أحمد السرهندي (ت 1034هـ/1624م)، والذي دُعي من قبل أتباعه بـ«مجدد الألف الثاني». وسوف يتناول البحث بعض المصادر الجديدة المتعلقة بانتشار هذا الفرع من الطريقة في الحرمين، وسيحاول معرفة الآثار المترتبة لهذا الانتشار على مجتمع علماء الحجاز. ودخول النقشبندية إلى الحرمين، والنقشبندية المجددية إلى الحجاز. ويقول الباحث: إذا نظرنا إلى دخول النقشبندية وفرعها «النقشبندية المجددية» إلى الحرمين في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي، وإلى الاتجاه الصوفي العام في المدينتين المقدستين خلال تلك الفترة، ويحدد ثلاثة جوانب من هذا الاتجاه أسهمت في النجاح الخاص الذي حققته النقشبندية ضمن ذلك السياق.
أولاً: التأكيد الجازم أن الطريقة تلتزم بالشرع. سلسلتها تعود إلى أبي بكر الصديق، أول خليفة، والذي يشكل -بحسب الخاني- صلة الوصل، و«واسطة العقد»، بينما معظم الطرق الأخرى تربط نفسها بالخليفة الرابع علي بن أبي طالب. يؤكد مشائخ النقشبندية التزامهم بأحكام الشريعة واتباعهم للسلف الصالح. المبادئ الأخرى للنقشبندية، مثل «الخلوة في الجلوة»، والذكر الخفي تميل لتعزيز هذا الادعاء الذي يؤسس للنقشبندية في أعين أتباعها بأنها: «الطريقة العلية السالمة من كدورات جهالات الصوفية».
ثانياً: الجانب الثاني الذي يبرز بين النقشبندية هو انتماءاتهم إلى عدد آخر من الطرق إلى جانب طريقتهم النقشبندية. عبّر إبراهيم الكوراني عن ذلك من خلال اقتباس من نجم الدين كبرى (ت 618هـ/ 1221م): «الطرق إلى الله كثيرة بعدد أنفاس الخلق بلا حصر». ويبدو أن هذا المنحى هو السمة المميزة لصوفية الحجاز في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي. ويبدو أن موقف التوفيق هذا كان له أيضاً تأثيره على الجوانب العقدية والخلافية، مثل العداوة القديمة بين المؤيدين للتصوف وبين ناقديه، وخاصة فيما يتعلق بابن عربي وناقده الشرس ابن تيمية (ت 728 هـ/ 1328م). صوفية الحرمين برئاسة القشاشي والكوراني حاولوا في معظم كتاباتهم إظهار أن عقيدة ابن عربي لم تكن اتحادية مادية، ولا مناقضة للشريعة. على العكس من ذلك، نُظر إلى ابن عربي على أنه متفق مع أهل السنة والجماعة بقدر أبي الحسن الأشعري والغزالي.
ثالثاً: واحدة من التطورات المهمة، بل وغير المسبوقة في الحرمين في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي، هو الاهتمام الكبير بكتابات ابن عربي. ويرجع ذلك أساساً إلى صوفية الهند مثل صبغة الله البروجي. كذلك أكد صوفية الحرمين التوافق بين الشريعة والحقيقة، أي التصوف. تكلم القشاشي عن ذلك بطريقته قائلاً: (الدخول إلى أي طريقة عن طريق التلقين والصحبة مع شيخ يشبه الدخول إلى الشريعة من خلال ذكر «لا إله إلا الله»). كذلك يصف الكامل بأنه واسطة بين الشريعة والحقيقة. هذا الاتجاه وجد أيضاً التعبير عنه من خلال الجمع بين علوم الحديث والتصوف، والذي يتكرر بشكل وثيق في كتابات القشاشي والكوراني من بعده. لقب المحدث الصوفي، أو الصوفي المحدث والذي يمكن أن نجده يطلق على بعض علماء الحرمين في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي هو شاهد مهم على هذا التوجه. هذا التراث الصوفي في الحرمين في القرن الحادي عشر/ السابع عشر وتوجهاته التوفيقية كان ذا أهمية كبيرة لحركات التجديد والإصلاح اللاحقة في الإسلام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
الطرق الصوفية في سيبيريا من القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين
نُشرت دراسة تييري زاركو- المؤرخ الفرنسي المتخصص في دراسات الإسلام، مدير أبحاث المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا. (Thierry Zarcone) في الفرنسية (Les Confréries Soufies En Sibérie» ( XIX e siècle et début du XXe siècle» في مجلة (Cahiers du monde russe) الجزء (41) العدد: 2/3، أبريل (نيسان)/ سبتمبر (أيلول) 2000. وترجمها المسبار. تتناول هذه الدراسة، التي لا تدعي الشمولية، حالة التصوف والطرق الصوفية بسيبيريا الغربية وبمحافظات شمال كازاخستان المجاورة.
ويحاول الباحث تحديد طرق انتشار التصوف انطلاقاً من عالم التتار وبلاد ما وراء النهر نحو تلك المنطقة خلال القرن التاسع عشر؛ بعد ذلك واعتماداً على بعض الأمثلة لصوفية قد استقروا بسيبيريا، يقرب القارئ من المذاهب والممارسات الروحية التي تم نشرها بين مسلمي سيبيريا، والتأثيرات التي مارستها على الحياة الاجتماعية والثقافية لتلك الساكنة، بعد تحديد التقليد الطرقي الذي ينتمي إليه هؤلاء الصوفية.
وكيف دخلت الصوفية وأسلمت سيبيريا، ويتطرق إلى هجوم الصوفية على السهوب الروسية وسيبيريا خلال القرن التاسع عشر، ويقدم سير كبار شيوخ التتار وبلاد ما وراء النهر ومريديهم السيبيريين.
ويخلص إلى أنه ليس من الممكن التحدث بشأن سيبيريا عن عزلة ثقافية كما هو متوقع نظرا لعزلتها الجغرافية، وذلك بسبب التبادل المستمر مع مدن مناطق الفولغا-الأورال وواحات بلاد ما وراء النهر، من خلال تجارة القوافل ورحلات الدعاة. قد لاحظ الباحث في القرن التاسع عشر أن أبرز الشيوخ الصوفية بمدن فولغا الوسطى وآسيا الوسطى كان لهم ممثلون أو مريدون بسيبيريا. ويمكن إدخال نموذج «المدرسة الصوفية» لزين الله من تروتسك ضمن ذلك كأنموذج طرقي عثماني. يمكن القول: إن التصوف السيبيري لا يملك أي ميزة اللهم تلك التي جعلته يتقلد مهمة الدعوة المتواصلة. وبشكل عام، لم يكن هذا التصوف إلا مرآة عكست الحياة الروحية لآسيا الوسطى ومنطقة فولغا-أورال، ولم يتعرض كالقوقاز مثلا نظرا لموقعه الجغرافي، إلى تأثير قوي للإسلام العربي والعثماني.
ملفوظات الشيخ أحمد السرهندي في إصلاح أركان الدَّولة
الباحث والأكاديمي الهندي صاحب عالم الأعظمي الندوي، يرى أن الصوفية أسهموا في مجال الإصلاح والنصيحة والإرشاد من خلال ملفوظاتهم ومكتوباتهم في العصور الإسلامية لا سيما في عصري سلطنة دهلي والدولة المغولية؛ معظمهم قاموا بذلك مع الإخلاص الكامل متجردين من الهوى والأغراض الشخصية والنوايا السيئة التي قد تحبط الأعمال، مع استخدام طرق الرفق والحكمة والبصيرة مع اختيار أسلوب النصح المتزن البعيد عن الانفعالات، وانتقاء الكلام الطيب، والوجه البشوش والصدر الرحب، واختيار الزمان والمكان المناسبين لنجاح عملية الإصلاح والنصيحة والإرشاد.
يعتبر الشيخ الصوفي أحمد السرهندي (رحمه الله) المتوفى 1033هـ/ 1624م من الشخصيات المعروفة بين الشخصيات الصوفية الهندية الذين كان لديهم رؤية واضحة حيال الدين الإسلامي، وبذلوا جهوداً طيبة في نشر الفكر الإسلامي الصوفي وترويجه في ربوع الهند، بجانب بذل السعي الحثيث لتقويم الوزراء والأمراء والملوك دينيًا وفكريًا وثقافيًا من خلال تقوية العلاقات عبـر السماح لهم بالحضور في الجلسات العلمية والدينية الخاصة والعامة، وإرسال الرسائل إليهم لإصلاح أحوالهم الدينية والفكرية. وعلى الرغم من أن تقوية العلاقات مع الأمراء والسلطات الحكومية كانت أمرًا مثيرًا للجدل بين الطرق الصوفية لا سيما الطريقة الچشتية، ولكن الطريقة النقشبندية -منذ نشأتها وقبل وصولها إلى الهند- قامت بتوطيد العلاقات مع الأمراء والوزراء والملوك، وأدت دورًا كبيرًا في مجال السياسة. ومن هنا لم يجد الشيخ السرهندي نفسه معـزولًا عن الشؤون السياسية.
يرى الباحث أنه خلال المبادرات الإصلاحية كان يراد أيضًا توسيع نطاق السيادة للطريقة النقشبندية على حساب الطرق الصوفية الأخرى، مما أدى إلى الصراع بين جميع الطرق الصوفية آنذاك، وحتى في العصور التالية في عصر الدولة المغولية. ولكن أحمد السرهندي يُعد من أكثر مفكري التيار الصوفي الإصلاحي في القرن الحادي عشر الهجري تأثيرًا في الأجيال الممثلة في عصر الاستعمار البريطاني، لا سيما أسرة الشيخ ولي الله الدهلوي وغيرهم، والذين شكلوا امتدادًا لدعوته سواء في مجال التربية الإسلامية أو نشر الأفكار الصوفية النقشبندية بواسطة أعمالهم الفكرية أو عن طريق تأسيس المؤسسات التعليمية والفكرية، وكذلك تأثر به الشخصيات الإسلامية الأخرى من المدارس الفكرية الأخرى.
عناصر من الفكر الهندي لفهم صمت الذكر النقشبندي: ما وراء اللغة
يقول محمد هاشمي، أستاذ الفلسفة والتصوف في جامعة محمد الخامس بالمغرب: إن ما يميز الحساسية الصوفية، عن غيرها من الحساسيات المعرفية، هو ترفعها عن التطابق المباشر والبسيط مع ما يظهر ويحضر في هذا العالم؛ فهناك دائماً في دواخل »المسافر« على معراج العود إلى الأصل المنسي، حنين إلى المابعد، وإلى المافوق. لهذا نجد الخطاب الصوفي يصر على أن يخلق لنفسه جغرافية خاصة، تتجاوز المجال المرئي، هي وحدها قادرة على أن تستوعب جوعته الأصيلة إلى أشياء غير الأشياء، وإلى أبعاد روحانية تضاعف الآفاق، وتمد المسافات، في رحلة النفس نحو منقلبها الأقصى. ومن هنا، فإن التطلع المركزي للصوفي، ليس الكشف عما هو كائن، والتدليل عليه، مما يجعل علاقته باللغة تتجاوز الاستعمال الخبري، إلى مستوى آخر من اللغة يراهن على كشف الممكنات الوجودية المنغلقة أمام القلوب المغلقة، والأعين المحجوبة، وهذا ما يجعل لسان الصوفي أكثر تمرساً مع الإشارات منه مع العبارات. وما يرومه في هذه الدراسة، هو تقديم هذا النظام اللغوي غير اللسني، الذي يختلق وجوداً مغايراً للعلامة، بحيث يؤسس إلى نسق متشابك، تتداخل فيه العناصر مع المكونات المعرفية والروحانية، على شاكلة تحول كل العالم إلى نص يقرؤه ذلك الذي يعرف فك شفرة وسفر التمييز بين «المعاني والأواني». ولأن الإنسان هو العالم الأصغر، حسب التقليد الصوفي، فهو مُضاءة الوجود حيث يرتفع غبش الجهل والعدم، لذلك فالإنصات إلى ما كتب في سطور عالم الشهود والغيوب، لا بد أن يبتدئ بقراءة ما يعتمل في الصدور.
لقاء المولوية والنقشبندية من خلال أعمال عبدالغني النابلسي
يرى خالد محمد عبده، باحث مصري في الإسلاميات والتصوف، أن كتاب عبدالغني النابلسي “العقود اللؤلؤية في طريق السادة المولوية” يعتبر أقدم نصٍّ عربي معروف عن الطريقة المولوية، وإن كان النصّ دفاعيًّا في أغلبه، ولا يقدّم للقارئ معلومات تفيد في تأريخ التصوف المولوي، بقدر ما يفيدنا النصّ في التّعرف على انتشار المولوية خارج مدينة قونية، وإثارة طقوسها الكثير من الجدل، عند الصوفية والفقهاء. وقد عُرف عن النابلسي محبته للمولوية طريقة وممارسة. هذه الدراسة تستعرض قراءات لما قدّمه النابلسي من خلال حديثه كصوفي نقشبندي عن الطريقة المولوية.