في خطوة وصفت بالمفاجئة أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم 15 يناير (كانون الثاني)؛ أثناء كلمته السنوية للجمعية الاتحادية الروسية، عن مقترحاته بإجراء تعديلات واسعة في الدستور الروسي، وتكليف لجنة من الكرملين بإعداد النصوص المقترح تعديلها لعرضها على مجلس الدوما[1].
تبع هذا الإعلان تقديم حكومة دميتري ميدفيديف لاستقالتها، وتعيين ميخائيل ميشوستين؛ رئيس مصلحة الضرائب الاتحادية للاتحاد الروسي رئيساً للوزراء[2].
أثارت هذه الخطوة العديد من التكهنات حول مغزاها وأهدافها الحقيقية، حيث لم يُعلن الرئيس بوتين عن نيته تعديل المواد الخاصة بمدد الترشح لرئاسة الجمهورية، وهو ما دفع البعض للاعتقاد بأنه ينوي منح الحكومة صلاحيات واسعة ليصبح رئيساً لها بعد انتهاء فترته الرئاسية، والبعض الآخر رجح أن يتولى رئاسة مجلس الدولة الذي اقترحه بالتعديلات ليصبح مركز السلطة الفعلية.
يوم الثلاثاء 10 مارس (آذار) قدمت رائدة الفضاء السوفيتية السابقة وعضو مجلس الدوما فالنتينا تريشكوفا؛ مقترحاً بتعديل النص الخاص بمدد الرئاسة وعدم تقييدها بفترات محددة، وهو ما دعا بوتين للتوجه لمجلس الدوما وإلقاء خطاب رفض فيه هذا المقترح، لكنه وافق على ما وصف فيما بعد بـ”تصفير” عداد مدد رئاسته.
على مدار خمسة أيام بالفترة من 25 يونيو (حزيران) حتى الأول من يوليو (تموز)، أنهى الروس تصويتهم على إجراءات تعديل الدستور، وأظهرت النتائج -حسبما صرحت إيلا بامفيلوفا، رئيسة لجنة الانتخابات المركزية- مشاركة (74,215,55) شخصاً من أصل (109,190.337) ممن لهم حق التصويت. بنسبة مشاركة بلغت (67.97%). كان السؤال: هل توافق على تعديلات الدستور الروسي؟ أجاب (57,747,288) بالقول: نعم، بنسبة (77.92%). بينما قال: لا، أكثر بقليل من (21%). حوالي (65%) من المواطنين الروس صوتوا بشكل مباشر عبر مراكز الاقتراع، والبقية عن طريق التصويت الإلكتروني[3].
بعد هذه النتائج انطلقت وسائل الإعلام الغربية لتحلل نتائج الاستفتاء، واختزال عملية تعديل الدستور بأكملها في رغبة بوتين بالبقاء في السلطة مدى الحياة، على الرغم من احتواء هذه التعديلات على ما مجموعه (206) مواد! فما حقيقية هذه التعديلات، والمستقبل المُنتظر للنظام السياسي الروسي على ضوئها؟ وغيرها من الأمور التي سنسعى لتحليلها وفهمها في هذا المقال.
التجربة الدستورية الروسية: القصة الناقصة
لروسيا تجربة دستورية قصيرة بالنظر إلى تاريخها السياسي الممتد منذ أكثر من ألف سنة تقريباً. كانت أولى المحاولات لوضع مدونة قوانين تنظم شؤون الدولة في القرن الحادي عشر الميلادي. عندما أصدر أمير كييف المعظم «ياروسلاف الأول – الحكيم» المتوفى عام 1054، مدونة العدالة والأحكام الروسية المسماة «روسكايا برافدا – Правда роусьскаꙗ» أي (الحقيقة الروسية). اقتصرت هذه المدونة في بدايتها على تنظم شؤون الرعية والعقوبات العامة والقوانين التجارية، وتنظيم العلاقة بين طبقة النبلاء «البويار» والحاكم، وتعرضت للتعديل على مدار تاريخ الدولة الروسية في حقبها المختلفة. إلا أن صلاحيات الحاكم ظلت مُطلقة يتمتع فيها الأمير أو القيصر أو الإمبراطور بحكم أوتوقراطي، ولا يخضع لأي شكل من أشكال المحاسبة أو المساءلة.
تعزز موقع الحاكم الروسي منذ عهد «إيفان الرابع – الرهيب» أول من حمل لقب «قيصر» في تاريخ روسيا عام 1547؛ وأصبح فوق الأحكام والقوانين كونه حامي حمى الدنيا والدين، وأشبه بخليفة الله في أرضه، والداعم الأول للإيمان الأرثوذكسي عبر رعايته لبطريركية موسكو.
في القرن الثامن عشر الميلادي شهدت روسيا انفتاحاً كبيراً على الغرب، والتحول من الثقافة الألمانية التي ظلت مهيمنة لوقت طويل على البلاط الإمبراطوري والنخب الروسية إلى الثقافة الفرنسية، مما أدى لتأثر المثقفين والمتعلمين بمبادئ وأفكار الثورة الفرنسية وما أعقبها من متغيرات. ساهم هذا الوضع في نشوء عدة حركات سياسية مطالبة بإصلاحات ليبرالية، وتحديد واضح لسلطات القيصر. لعل أبرزها «ثورة الديسمبريين» عام 1825. التي تمكن القيصر نيكولاي الأول من سحقها بصعوبة.
على الرغم من فشل «ثورة الديسمبريين» فإنها حققت مع الوقت نجاحات عدة على طريق الإصلاحات التي نادت بها، ساعدها في ذلك شيوع الثورات في أوروبا أو ما سُمي في ذلك الوقت “الربيع الأوروبي” عام 1848. لعل أبرز هذه الإصلاحات قانون «إصلاح الفلاحين – Крестьянская реформа» عام 1861. الذي حرر حوالي (25) مليون فلاح روسي من نير العبودية وفق نظام «القنانة» الذي مثل أحد أسوأ صور العبودية بالتاريخ الروسي.
ظلت هذه الإصلاحات محدودة وغير كاملة ومنقوصة، ولا يبادر بها الحاكم إلا تحت الضغط، ثم يحاول فيما بعد الالتفاف عليها، وهو ما أدى لاغتيال القيصر نيكولاي الأول؛ وتعرض العديد من كبار مسؤولي الدولة للاغتيال واشتعال ثورات متفرقة. في الغالب سعى القياصرة للهروب من استحقاقات الداخل بحروب خارجية توحد المجتمع الروسي خلف قيادته. إلا أن هذا الخيار وعلى الرغم من نجاحه في الكثير من الأحيان، فقد ارتد سلباً على النظام القيصري بعدما تعرضت روسيا لهزيمة كبرى أمام اليابان؛ وهو ما أدى لتفجر أحداث ثورة 1905. التي لم يتمكن القيصر نيقولا الثاني بالهروب من استحقاقاتها مما دفعه لإصداره «بيان أكتوبر – Октябрьский манифест» في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1905. الذي يعد البيان التأسيسي لأول دستور في تاريخ روسيا السياسي الذي صدر في 23 أبريل (نيسان) 1906.
بيان أكتوبر الإمبراطوري السامي – جريدة فيدوموستي سانت بطرسبورغ في 18 أكتوبر (تشرين الأول) 1905
على الرغم مما منحه هذا الدستور من حقوق فردية اجتماعية وحرية للضمير، وتأسيس برلمان منتخب وحكومة منبثقة عنه، فإنه منح للقيصر أيضاً سلطة نقد القوانين وحل البرلمان وعزل الحكومة، وهو ما فرغ الدستور من محتواه، وقامت كما هو معروف ثورة فبراير (شباط) 1917. تبعها الموجة الثانية المعروفة باسم «ثورة أكتوبر – البلشفية».
أصدر البلاشفة دستورهم الأول في العاشر من يوليو (تموز) 1918؛ وتبعه عدة دساتير وتعديلات عليها في ظل عدم استقرار دستوري (دستور 31 يناير/ كانون الثاني 1924 – دستور 15 مايو/ أيار 1925 – دستور 5 ديسمبر/ كانون الأول 1936 – دستور 21 يناير/ كانون الثاني 1937 – دستور 7 أكتوبر/ تشرين الأول 1977 – دستور 12 أبريل/ نيسان 1978 – الدستور السوفيتي 1989)[4].
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي؛ وفشل محاولات خلق اتحاد كونفدرالي في صيغة جديدة. صدر أول دستور لروسيا الاتحادية عبر استفتاء شعبي دخل حيز التنفيذ في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1993؛ وتعرض للتعديل عام 2004[5].
أبرز المواد المعدلة بالدستور الروسي 2020 والمغزى خلفها
بلغت المواد المعدلة في دستور 1993 لعام 2020؛ (206) مواد دستورية[6]. شملت جوانب اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وتاريخية، وقانونية وجيوسياسية. بما أن أغلبية الشعب الروسي قد صوتت بالموافقة على هذه التعديلات، فقد دخلت حيز التنفيذ وأصبحت مواده ملزمة للدولة والمجتمع.
أبرز التعديلات هي:
نص البند الأول والثاني والثالث بالمادة (67): على أن روسيا الاتحادية الحالية هي الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي؛ فيما يتعلق بكافة التعهدات والاتفاقيات والمسؤوليات التي التزم بها، والحفاظ على تاريخ الدولة الروسية السياسي الممتد منذ ألف سنة، والاعتراف والإقرار بوحدة أراضي هذه الدولة، والحفاظ على ذكرى الأسلاف الذين أسسوها والعمل على تطويرها، كذلك أشارت إلى المثل العليا والإيمان بالله؛ مع عدم السماح لأي سلطة في الحاضر أو المستقبل بالتنازل عن أي أراضٍ تحت السيادة الروسية، وتنظيم عملية ضم أي أراضٍ جديدة تحصل عليها مستقبلاً.
يُشير هذا النص لعدة قضايا جيوسياسية. خصوصاً بعد “استعادة أو احتلال” روسيا؛ لشبه جزيرة القرم “للوطن الأم” كما تصف روسيا هذه العملية، بينما يصفها معارضوها بأنها عملية “ضم واحتلال”؛ ووجه تخوفهم وفق زعمهم أن هذا النص يُتيح المجال لروسيا الاتحادية بالادعاء في أي لحظة تراها مناسبة لها، بأن هذا البلد أو ذاك يحتوي على أجزاء من أراضٍ تاريخية لروسيا بالحقبة السوفيتية أو بالعصر القيصري، وبالتالي ينبغي استعادة هذا الحق التاريخي “للوطن الأم” من جديد. وقد ألمح الرئيس بوتين لهذا الأمر في حواره مع القناة الروسية الأولى التابعة للدولة، والذي قال فيه: «عندما تأسس الاتحاد السوفيتي منح الحق لجمهورياته في الانفصال دون وضع آلية لهذا الأمر، وكذلك لم يوضح وضع الأراضي الروسية تاريخياً التي تم منحها لبعض هذه الجمهوريات كهدية من روسيا في ظل اتحاد واحد، وبما أنهم قرروا الانفصال فينبغي بالمقابل أن تعود هذه “الهدايا” أي الأراضي لأصحابها من جديد»[7]. تشمل الأراضي المتنازع عليها أو التي يرغب سكانها في الانضمام إلى روسيا، أو يشكل فيها المواطنون من أصل روسي نسبة كبيرة، أو تاريخياً كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية. المناطق التالية:
- سمتسخى-جڤاختي، وأبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية في جمهورية جورجيا.
- غاغاوزيا، وترانسنيستريا في جمهورية مولدوفا.
- دونيتسك، ولوغانسك في جمهورية أوكرانيا.
- رودني ألطاي في جمهورية كازاخستان؛ والتي تقدم مجموعة من النواب الروس بطلب استعادتها للأراضي الروسية[8].
كذلك أضعف هذا النص الجدل الذي كان يثار بين الفينة والأخرى حول إمكانية “إعادة” جزر الكوريل لليابان، ومدينة كالينينغراد أو “كونيغسبرغ” لألمانيا مقابل عوائد اقتصادية. كانت هذه المناطق قد سيطرت عليها روسيا بعد الحرب العالمية الثانية، بجانب تحصين شبه جزيرة القرم من أن تُفرط فيها أي سلطة بالمستقبل.
حدد الدستور الروسي في تعديلاته الأخيرة «القومية الروسية»:
وفق معيار اللغة، وأن المتحدثين باللغة الروسية كلغة أم، حتى وإن لم يكونوا يحملون جنسيتها، فهي مسؤولة عن حمايتهم، وضمان حقوقهم في تمتعهم باستخدام لغتهم وتقديم الدعم لهم.
بناءً على هذا النص، وإذا ما تم إضافته للنص الذي قبله مع تصريحات الرئيس بوتين، وما صرح به ويردده العديد من نواب مجلس الدوما، فإن المواطنين ذوي الأصول الروسية في كل من (لاتفيا – إستونيا – ليتوانيا – أوزباكستان – كازاخستان – قرغيزستان – طاجيكستان – مولدوفا – أوكرانيا – جورجيا – أذربيجان). يمكن للدولة الروسية الادعاء بتعرضهم للتمييز على أساس اللغة، وحرمانهم من حقوقهم كما حدث في أوكرانيا التي حظرت استخدام اللغة الروسية بعد أحداث الميدان الأوروبي 2014؛ أو بعض بلدان البلطيق، وهو ما يُتيح لها التدخل لحماية هذه المكونات أو دعم مطالبتهم بالاستقلال ونظر روسيا في هذا الأمر.
تكمن أزمة هذه الجمهوريات في جانب تاريخي من المهم التعرف عليه. أثناء الحقبة التاريخية الأولى لتأسيس الدولة الروسية التي بدأت بالعام 862. في إمارة نوفغورود؛ بقيادة الأمير روريك روس، ثم انتقال العاصمة فيما بعد إلى كييف. كانت كل هذه المناطق تحت حكم «أسرة روريك» التي استمرت بالحكم لمدة (736). سنة؛ وتبعها «أسرة رومانوف» لمدة (304) سنوات؛ ثم الاتحاد السوفيتي لمدة (69) سنة؛ في ظل هذه السنوات الطويلة منذ 862 إلى 1991م. كان السلاف الشرقيون هم قادة هذه الدولة الإمبراطورية، ومركز الحكم والسلطة الذي بدأ في مدينة نوفغورود الروسية، وانتقل من مدينة لأخرى تبعاً للظروف السياسية، ومن خلال المركز في موسكو أو سانت بطرسبورغ؛ تم تحرير كافة الأراضي التي تعرضت للغزو من قبل المغول، والتتر، والكومنولث البولندي-الليتواني، والصليبيين الكاثوليك، والدولة العثمانية، والغزو الفرنسي لنابليون، والنازي لهتلر؛ وعليه يرى الروس أنهم قدموا تضحيات تاريخية لحفظ هذه الأراضي، وتحريرها من الغزاة الأجانب، وتوسيعها فيما بعد وبناء مدنها الرئيسة. على سبيل المثال مناطق جنوب وشرق أوكرانيا بالكامل، سكانها في الأساس من السلاف الشرقيين الروس، واللغة الروسية هي لغتهم الأم حتى الآن، ومن قام ببناء مدنها التي كانت عبارة عن برارٍ فارغة القياصرة الروس على فترات مختلفة. شبه جزيرة القرم من حررها من الحكم التتري-العثماني، وحافظ عليها أمام محاولات التحالف الغربي-العثماني احتلالها، وحررها من جيوش هتلر فيما بعد كانت موسكو؛ ولم يكن لكل هذه البلدان الحالية أي وجود تاريخي، على سبيل المثال مناطق غرب أوكرانيا كانت تحت حكم الكومنولث البولندي-الليتواني؛ أو الإمبراطورية النمساوية-المجرية؛ وجرى تقاسم أراضيها فيما بعد بين بولندا؛ والتشيك؛ ورومانيا؛ والمجر. من حررها وضمها لقوام أوكرانيا المُتعارف عليها اليوم كان الجيش السوفيتي أثناء حكم ستالين عام 1939؛ ومناطقها الشرقية كانت تسمى «نوفوروسيا – Новороссия» أي “روسيا الجديدة” بينما «روسيا البيضاء» يقال: إنها حازت هذا الاسم نظراً لأنها مثلت الأراضي الروسية التي ظلت خارج نطاق سيطرة «النير المغولي» الذي فرض هيمنته على روسيا لأكثر من قرنين، وروسيا الحالية كانت تسمى “روسيا الكبرى”. بلدان القوقاز لم يكن فيها دولة بل حكم إمارات قبلية أو تحت حكم إمبراطوريات خارجية. كذلك الأمر بالنسبة لبلدان آسيا الوسطى التي كانت تسمى «تركستان الغربية» ويُرمز إليها بأسماء مدنها لعدم وجود دولة.
في الحقبة السوفيتية وحتى يُقنع لينين سكان هذه المناطق بالانضمام للاتحاد السوفيتي؛ ويواجه دعاية الجيش الأبيض الموالي للحكم الإمبراطوري. قسم أجزاء من أراضي روسيا عليهم، وتنازل عن بعض الأراضي لبلدان حديثة نشأت بعد الحرب العالمية الأولى، ووسع من نطاق بعض الجمهوريات بضم المناطق الصناعية المتطورة ذات الأغلبية الروسية لقوامها لضمان خلق توازن بين «البروليتاريا» المؤيدة للنظام الشيوعي مقابل ملاك الأراضي من الإقطاعيين المناهضين له، كما حدث بضم مناطق شرق أوكرانيا لجمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية؛ خلقت كل هذه العوامل وضعاً متشابكاً ومشتبكاً منذ عام 1991؛ مع عدم قيام وحدة على أساس جديد، وفشل الجمهوريات الناشئة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي من صنع “دولة قومية” لغياب مقوماتها المنطقية والتاريخية مع تنامي قدرات الدولة الروسية. فبدأت تتجه أنظارها لهذه المناطق مستغلة هشاشة الوضع الداخلي فيها، ورغبة بعض مواطنيها في الانضمام إليها.
نصت المادة (68) وبنودها الأربعة على أن: اللغة الروسية هي اللغة الرسمية التي ينبغي على جميع مواطني الدولة إتقانها وتشكل عنصر الوحدة لأبناء الأمة، مع الإقرار بحقوق كافة القوميات الأخرى في استخدام لغتها القومية جنباً إلى جنب مع الروسية، ودعم الدولة لهذه اللغات القومية، واعتبارها جزءاً من إرثها القومي، والعمل على تنميتها بجانب العادات والتقاليد الخاصة بهذه القوميات، وحق كل قومية تمثل أغلبية في منطقة ما، أن تشكل لنفسها جمهورية فيدرالية أو نظام حكم ذاتي، وهياكل سلطة تدير شؤونها تحت مظلة الدولة الروسية، وحماية النظام الفيدرالي وتحصينه دستورياً لضمان عدم التعدي على حقوقه، أو فرض المركز ثقافته وهويته أو نظامه المركزي عليه.
بالنظر للبنود السابقة، وتجربة روسيا الاتحادية منذ تولي بوتين السلطة عام 2000؛ ونجاح تجربة الحكم الفيدرالي وخلقه استقراراً سياسياً واجتماعياً ونمواً اقتصادياً ملحوظاً، يمكن فهم هذا النص على أنه عامل طمأنة لكل المقاطعات أو الجمهوريات التي قد تنضم وفق أي صيغة اتحادية مستقبلاً للدولة الروسية، وتأكيد ضمان حقوقها بممارسة السلطة والمشاركة فيها، لا كما كان عليه الحال أثناء الحكم القيصري الذي احتكر السلطة في شخص القيصر والنخب السلافية الروسية المقربة منه، وأيضاً تأمين حقوقهم الثقافية والدينية عبر إقرار الدستور الروسي لأول مرة منذ 1918. بالإيمان بالله، وحقوق الفيدراليات في لغتها وهويتها لإزالة أي مخاوف من تكرار تجربة الاتحاد السوفيتي الذي سعى لفرض هوية قسرية على كافة شعوبه.
عدد الجمهوريات الفيدرالية في روسيا الاتحادية (22) جمهورية؛ منهم (8) جمهوريات ذات أغلبية أو أكثرية مسلمة وهي: (أديغا – باشكورتوستان – داغستان – إنغوشيا – كبردينو – بلقاريا – تتارستان – الشيشان – قراتشاي- تشيركيسيا). تتمتع هذه الجمهوريات بحقها في لغتها الخاصة، وعلم يعبر عن هويتها القومية، ورئيس جمهورية ينتمي لغالبية سكانها، ودستور داخلي خاص بها، وبرلمان منتخب، وقوانين تعبر عن ثقافتها حتى إن بعضها مثل الشيشان وإنغوشيا -على سبيل المثال- يطبقون أحكام الشريعة الإسلامية في بعض قوانين الأحوال الشخصية بما فيها تعدد الزواجات بناءً على رغبتهم. مع حصول هذه الجمهوريات على القسط الأكبر من مواردها، وتبعيتهم للمركز في موسكو في شؤون الدفاع، والسياسة الخارجية، والاقتصاد الكلي، والوحدة داخل حدود الدولة.
ربما يعتقد بعض المراقبين، أن بوتين يريد استغلال نجاح هذه التجربة واستقرارها منذ (20) سنة، واستغلال صراع الهويات نتيجة محاولات بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق فرض هوية قسرية على مواطنيها، أملاً في صنع “دولة قومية” وفشلها في هذا التوجه الذي أدى لنشوء توترات عرقية، في أن يقدم النموذج الروسي الذي جرى تجربته بالفعل، وتعزيز هذه التجربة بنصوص دستورية غير قابلة للتأويل، باجتذابهم للانضمام إلى اتحاد جديد وفق صيغة ربما «أوراسية» تحافظ على مواردهم الطبيعية وتعززها، وتمنح من لا يمتلك موارد كافية عوائد ومزايا اقتصادية، وإمكانية لحكم أنفسهم والحفاظ على إيمانهم ومعتقدهم وهويتهم الدينية، في ظل دولة فيدرالية أو كونفدرالية بقيادة موسكو في الشؤون الدفاعية والسياسة الخارجية.
العدالة الاجتماعية: حسب استطلاع للرأي في مارس (آذار) 2020؛ أجراه مركز «ليفادا-سنتر – Левада-Центр» وهو أكبر مؤسسة روسية مستقلة غير حكومية لبحوث الاقتراع والأبحاث الاجتماعية. صرح حوالي (75%) من الروس -غالبيتهم من الشباب- بأن الاتحاد السوفيتي يمثل بالنسبة لهم أفضل حقبة في تاريخ بلادهم[9]. قد يكون الكثير من هؤلاء الشباب لم يولد، أو لم يكن يدرك الأوضاع بالعصر السوفيتي بشكلٍ جيد، ولا يمكن اعتبار حنينهم إليه مبنياً على توجه أيديولوجي. في الغالب هذا الحنين مرتبط بذكريات عائلاتهم عن الدعم الذي كانت تقدمه الدولة لمواطنيها ومقارنته بأوضاعهم الحالية. دور الدولة في روسيا هام وحيوي ويعتبر أحد أهم أركان شرعيتها «دولة الرعاية الاجتماعية»، التي توفر لمواطنيها حاجاتهم الأساسية، وعبر تاريخ روسيا كان تخلي الدولة عن هذا الدور يؤدي لاضمحلالها أو فقدانها الشرعية، وعدم قدرتها على البقاء دون الاعتماد على القوة المفرطة مما يؤدي لتفككها بالنهاية. يدرك بوتين هذه المسألة بشكلٍ جيدة، وفي عام 2008 سُئل عن هذا الحنين فأجاب بأن إعادة إعمار النظام الاشتراكي يبدو أمراً مستحيلاً، لكننا يمكن أن نحصن العدالة الاجتماعية بمواد دستورية تضمن تطبيقها. نصت التعديلات الأخيرة على حد أدنى للأجور في الدستور، وتعديله في القوانين بشكل دوري وفقاً لمعدلات التضخم؛ كذلك تم تحصين المعاشات والإعانات والضمانات الاجتماعية التي تقدمها الدولة لمواطنيها بمواد دستورية تضمن عدم تراجع الدولة عنها، بالإضافة لحق التعليم والصحة المجاني، وحماية الطفل ورعاية الدولة له حال لم يكن لديه أسرة، وغيرها من المواد التي تصب في تحقيق الهدف الذي لأجله يشعر الكثيرون بالجنين للحقبة السوفيتية.
موارد الدولة: حظر التعديل الدستوري خصخصة مرافق الدولة العامة، وهو أمر ذو أهمية كبرى لدى المواطنين الروس، بعد النهب العام الذي عم مؤسسات الدولة بفترة الخصخصة، وكذلك عدم السماح بملكية الثروات الطبيعية الباطنية لأي جهة أجنبية، واحتكار البنك المركزي الروسي وحده لطباعة النقد وضبط أسعار الروبل الروسي.
سياسياً: ركزت التعديلات على تعزيز اللامركزية، ومنح «المحافظات – الأوبلاستات» الحرية في تسيير شؤونها بنفسها، ومنح مجلس الدوما الأعلى في الجمعية الاتحادية الروسية “مجلس الشيوخ” صلاحيات تعيين الحكومة وقبول وزرائها، ومساءلتهم، وعزلهم، وعقد جلسات استماع لهم، وضرورة مشاورة الرئيس له في تعيين القضاة بالمحاكم العليا وكبار قادة الدولة بالمراكز الأمنية والعسكرية والبيروقراطية الحساسة.
قانونياً: منح صلاحيات موسعة للمدعي العام والقضاة لتعزيز استقلاليته، والبند الأهم هو عدم تطبيق أي قوانين أو معاهدات دولية حال خالفت نصوص الدستور الروسي، مع عرض أي مشاريع قوانين على المحكمة الدستورية مسبقاً؛ للتأكد من مطابقتها للدستور قبل إقرارها ودخولها حيز التنفيذ لقطع الطريق مستقبلاً على أي جهة تمتلك أغلبية في سن قوانين مخالفة للدستور تستفيد منها، ثم يجري الطعن عليها بعد فوات الأوان، مما يخلق إشكاليات قانونية.
اقتصرت مدة الرئاسة على ست سنوات لمدتين رئاسيتين بالعمر حصراً، وللمجلس الأعلى “البرلمان” الحق في عزل رئيس الجمهورية إن ثبتت خيانته، وتحصين منصب الرئيس بعد انقضاء مدته الرئاسية أو استقالته أو عزله، ما لم يكن مرتكباً لمخالفات نص عليها القانون.
أمنياً: حظر التعديل الدستوري الجديد على الرئيس، ورئيس مجلس الوزراء، والوزراء، والنواب، وكبار مسؤولي الدولة حملهم لجنسية دولة أجنبية، أو حصولهم على إقامة دائمة بدولة أجنبية، أو امتلاكهم لحسابات مصرفية أو أصول ثابتة خارج روسيا، وذلك لضمان عدم وجود تعدد بالولاءات، أو أوراق ضغط خارجية لمسؤول قد يكون متورطاً بالفساد، ونقل أمواله للخارج فيتم استغلال هذا الأمر في غير صالح الدولة الروسية، وقد عانى بالفعل النظام السياسي الروسي منذ عام 1992 من هذه الإشكالية، فجاء هذا النص كمحاولة للتخلص من هذه الأزمة.
اجتماعياً: عزز الدستور من القيم التقليدية الروسية، والهوية القومية، واختزل الأسرة في زوج ذكر وزوجة أنثى فقط وحصراً ليتم إغلاق الباب نهائياً أمام أي محاولة للترويج لزواج المثليين الذي يعاقب عليه القانون في روسيا، سواء بالفعل العلني أو الترويج له، وحماية الأطفال وتقديم الدعم الكامل للأسر التي تُنجب عدداً أكبر من الأطفال.
الخاتمة
هناك فريق في روسيا ما زال يعتقد أن بوتين لن يبقى بالضرورة في السلطة، وأن “تصفير” عداد مدد الرئاسة غرضه عدم انفلات الجهاز البيروقراطي بالدولة في ظل يقينهم من ذهابه في 2024؛ وضمان قدرته على تأمين حظوظ من سيخلفه من بعده، وفق المثل الروسي الشهير «الغابة لا تتحمل أن يحكمها أكثر من دب» وذلك يعود لطبيعة النظام السياسي تاريخياً في روسيا.
في العهد القيصري كانت روسيا تمتلك أيديولوجية أرثوذكسية، أو ما تسمى «روما الثالثة» -في العهد الإمبراطوري امتلكت التمدد والنفوذ الخارجي، ومنحت التطور والتقدم والمزايا المالية للأطراف المرتبطة بها بجانب إصدار الإمبراطورية «كاترين الثانية -العظيمة» وثيقة الحريات الدينية عام 1773. التي كانت تعتبر أول قانون يصدر بالعالم المسيحي، تضمن بموجبه الإمبراطورية حرية معتنقي الديانات والمذاهب ومساواتهم أمام الدولة، بغض النظر عن معتقدهم، ومنه استلهم الآباء المؤسسون في أمريكا بند الحرية الدينية بوثيقة الحريات المدنية عام 1791. -في العهد السوفيتي كانت روسيا ولأول مرة في تاريخها مصدراً للأيديولوجية وملهماً ومركزاً لها حول العالم.
في الوقت الحالي لا تمتلك روسيا نموذجاً، لكنها تمتلك تاريخاً عريقاً، واحتراماً للتعددية القومية والدينية والثقافية، وهي من ستحدد مصيرها بنفسها، وبناءً على ما سينجزه بوتين من علاج لأزمتها التاريخية، أو تكرار لتاريخها وهو ما لا يتمناه الكثيرون، حفاظاً على السلم والتوازن العالمي.
يعتقد البعض أن روسيا ربما تكون على موعد في 2024، مع ضم أراضٍ جديدة على غرار القرم، تمنح بوتين شرعية لإعادة انتخابه من جديد، والبعض يعتقد أنه سيرحل بعدما يضمن من سيخلفه ويرسخ التعديلات الدستورية الجديدة، والبعض الآخر يرى أنه لن يحدث سوى ما سبق وحدث في التاريخ الروسي. في كل الأحوال السنوات الأربع القادمة سُتجيب عن هذا السؤال.
مستقبل السلطة في روسيا وإن بدا أنه شأن داخلي، إلا أنه يفرض على حلفاء روسيا أو الراغبين بالتحالف أو توسيع نطاق التعاون معها، طرح أسئلة مشروعة للغاية، الحديث هنا ليس عن وفاء روسيا بالتزاماتها وتعهداتها تجاه الحلفاء والأصدقاء، فهذا أمر معروف عنها، ولكن في مدى قدرتها على الوفاء به نتيجة تعرض السلطة فيها عبر التاريخ القديم والحديث لعدم الاستقرار، وهو ما يدفع بالكثيرين حول العالم للتروي وإعادة النظر في أي علاقة تحالف أو تعاون أوسع معها، في ظل صراعها المحموم مع بعض القوى الغربية. إذ يقول البعض: لماذا نخاطر بالدخول فيما يمكن وصفها بـ”حرب باردة” مع قوى عالمية مستقرة، مقابل عدم استقرار أو فقدان لليقين بمستقبل روسيا السياسي المعتمد على الفرد، وماذا سيكون بعده؟!
[1]– الكرملين: بوتين يوقع أمرا بتشكيل فريق عمل لإعداد مقترحات تعديل الدستور، وكالة أنباء سبوتنيك الروسية، 15 يناير (كانون الثاني) 2020
[2] – بوتين يعرض على رئيس هيئة الضرائب الفيدرالية تولي منصب رئيس الوزراء، وكالة أنباء سبوتنيك الروسية، 15 يناير (كانون الثاني) 2020
[3]– Более 74 миллионов россиян проголосовали по поправкам в Конституцию – РИА Новости – 03.07.2020 https://ria.ru/20200703/1573837273.html
[4]– История Конституции России – Конституцию Российской Федерации, https://конституция2020.рф/history
[5]– دستور الاتحاد الروسي الصادر عام 1993 شاملا تعديلاته لغاية عام 2014، مشروع الدساتير المقارنة
https://www.constituteproject.org/constitution/Russia_2014.pdf?lang=ar
[6]– Полный текст поправок в Конституцию: что меняется? – Duma, http://duma.gov.ru/news/48045/
[7]– «Россия. Кремль. Путин». Документальный фильм – Россия 1 – Jun 21, 2020 https://www.youtube.com/watch?v=etszjYX6pZU
[8]– Депутат Госдумы РФ призвал «вернуть исконно русские земли» в Казахстане – Uralskweek – 31.01.2017 https://www.uralskweek.kz/2017/01/31/122328/
[9]– «Левада-центр»: 75% россиян считают советскую эпоху лучшим периодом в истории страны – Новая газета – 24 марта 2020, https://novayagazeta.ru/news/2020/03/24/160050-levada-tsentr-75-rossiyan-schitayut-sovetskuyu-epohu-luchshim-periodom-v-