بالنظر إلى محتوى التعديلات الدستورية، وما تطرقنا إليه عبر أبرز بنودها، يبدو أنها تمثل في جوانب عديدة دفعة نحو المستقبل، وتعزيزاً لوحدة روسيا، ومنحها القدرة على تطوير نفسها وزيادة مكتسباتها في ضم أراضٍ جديدة، تُنمي مواردها وتضمن أمنها القومي وقدراتها الجيوسياسية، مع تعزيز اللامركزية لحكم الفيدراليات والأقاليم والمحافظات، دون تحمل المركز لكافة أعبائها في ظل هذه المساحة الشاسعة، وهي إحدى أهم المشكلات التي عانى -سابقاً- منها الاتحاد السوفيتي؛ بجانب تعزيز الهوية القومية المحافظة التي يتبناها الرئيس بوتين ونظامه.
في العموم يوجد شبه اتفاق بين النخب السياسية، وعلى المستوى الشعبي، على الكثير من هذه التعديلات، ويمكن القول: إن الجدل حولها يقتصر على “تصفير” عداد مدد الرئاسة للرئيس بوتين؛ وإمكانية بقائه بالسلطة حتى عام 2036. يجادل المعارضون لهذا النص بأن “البوتينية” الجديدة هي ذاتها وإن اختلفت التوجهات والغايات “الستالينية” أي نظام حكم مغلق وحديدي يؤسسه حاكم فرد، يمكن أن يحقق بعض النجاحات والمنجزات الكبرى لكنها نجاحات مؤقتة، وقوة هشة تنتهي بنهاية هذا الحاكم، كونه نظاماً فردياً لم يخلق مؤسسات دولة قادرة. مما سيؤدي بعد ذهابه لعراك بين أطراف هذه النظام ثم تحطيمه مع مرور الوقت، والعودة لنقطة الصفر وقد تكرر هذا الأمر مراراً وتكراراً في تاريخ روسيا. كذلك يضيف أصحاب هذا الرأي أن نجاحات بوتين -في الحقيقة- هي استعادة لبعض ما فقدته روسيا السوفيتية، ونجاحات الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية كانت باستعادة بعض ما فقدته روسيا الإمبراطورية، ووفق هذه المعادلة فمعيار النجاح يعاني من خلل في تحديده؛ إذ إننا لا نتحدث عن تطور للدولة ولا نظامها السياسي، بل عملية سقوط ومحاولة استعادة مستدامة لما فقدته بشكل جزئي، مع عدم وجود ضمانة حتى للحفاظ عليها، وأن النجاح الحقيقي الذي يمكن أن يُحسب لبوتين ويُمكنه من دخول التاريخ كقائد عظيم في تاريخ روسيا هو حل معضلتها التاريخية التي تتلخص في غياب دولة المؤسسات، واحتكار السلطة من قبل حاكم فرد قد يحقق بعض الإنجازات، لكن لطول مدة حكمه يشعر الشعب بالملل والحاجة للتغيير الذي تتم مقاومته، فتدخل البلاد في حالة من التوترات والثورات تعصف بكل هذه المكتسبات، وبديل الفوضى يكون الاستقرار الذي يؤدي مع الوقت للجمود والتخلف والتراجع. كان الاتحاد السوفيتي يوم 5 مارس (آذار) 1953، عندما توفي ستالين؛ رأساً برأس مع الغرب بل ومتفوقاً عليه في عدة جوانب، وفي 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1982، عندما توفي بريجنيف؛ كان متخلفاً عن الغرب في كل شيء –تقريباً- على الرغم من “الاستقرار” الذي تميز به عهده، وبالتالي لم يصنع بوتين أمراً جديداً فهو الحاكم الفرد، والذي لم يتمكن من صنع مؤسسات دولة، والكل داخل نظامه يتمسك ببقائه لضمان “الاستقرار” الذي سيؤدي في النهاية لصراعات داخلية أو جمود أو نهاية لكل ما صنعه بعد نهاية حكمه، أياً كان شكل هذه النهاية.
يجادل الفريق الآخر ومنهم الرئيس بوتين نفسه[1]، بأن روسيا وإن كان عمر كيانها السياسي أكثر من ألف سنة؛ إلا أن عمر النظام السياسي وهياكل السلطة لم يتعدَّ (30) سنة. عانت في السنوات العشر الأولى منها من فوضى عارمة، والسنوات العشر التالية كانت الجهود فيها منصبة على استعادة الأمن والوحدة الداخلية، وخوض حرب مدمرة في الشيشان، وبالداخل ضد الإرهاب والفساد والمافيا، والسنوات العشر الأخيرة التي تنتهي عام 2021؛ كانت بداية لتأمين مجالها ما بعد السوفيتي، وعودة بشكل خجول لمناطق نفوذها التقليدية، واستقرار نسبي في نظامها السياسي يمكن البناء عليه وتطويره لضمان قدرته على خلق كوادر جديدة تتسلم الراية.
كذلك يؤكد أصحاب هذا الرأي أن هذه التعديلات التي تضمن عدم جمود النظام السياسي، وفي ظل هذه الظروف العالمية، واستقرار النظام السياسي الروسي مقارنة بحالة “عدم الاستقرار” وفق زعمهم في أمريكا والبلدان الغربية، وضعف القادة السياسيين في محيط روسيا الإقليمي، والحاجة لوجود قيادة قوية تحول هذه النصوص لواقع عملي يُطبق على الأرض، بما يضمن لمن سيخلفه بأنها ستكون راسخة وقوية، وإنجاز مشروع الوحدة الجديدة، حيث يرى العديد من المراقبين أن الغرض الحقيقي للسياسة الروسية هو الضغط على بلدان الاتحاد السوفيتي السابق والغرب في آنٍ واحد لقبول صفقة مفادها انضمام هذه الجمهورية لاتحاد جديد بقيادة موسكو وهو «الاتحاد الأوراسي» مقابل ضمان مصالح الغرب وعدم تدخله بشؤون المنطقة، وتعهد موسكو بعدم تغيير خرائط دولها الناشئة بعد عام 1991؛ أو البديل مزيد من الضم للأقاليم المنفصلة فعلياً عن السلطة المركزية لهذه البلدان على غرار ما حدث مع القرم، ولذلك لا يمكن سوى لبوتين إنجاز هذه المهمة الأخيرة قبل مغادرته للسلطة؛ كونه الأجدر على تطبيق هذه الأمور وتحويلها لسياسة دولة تُدير نفسها بنفسها، بغض النظر عمن سيقودها بالمستقبل، يعزز من هذه النظرية مقولة البروفيسور والمؤرخ الروسي فلاديمير بولداكوف، حيث قال: «لقد تعود الشعب الروسي على أن الصورة النموذجية للسلطة، هي تلك التي تمتلك القوة والجبروت، واحتكار العنف نتيجة قرون طويلة من الحكم الاستبدادي؛ حيث احتاج الشعب الروسي دوماً للحاكم الزعيم، القوي الحازم المفهوم، هذا الأمر من مقومات السلطة الأساسية في روسيا بالماضي والحاضر والمستقبل أيضا».
يؤكد أصحاب هذه النظرية صحة قولهم بأن بوتين بمجرد بدء مسار التعديلات الدستورية تخلى عن الكثيرين ممن وصفوا بأنهم “أهل الثقة” لرسوخ النظام السياسي، وبدأ بالاستعانة بأهل الكفاءة. دليلهم على ذلك عزل رفيق دربه ديمتري ميدفيديف؛ عن أي منصب رسمي ذي تأثير، ومنحه منصباً شرفياً (نائب أمين مجلس الأمن القومي)؛ وعزل مساعد الرئيس لشؤون جورجيا وأوكرانيا. فلاديسلاف سوركوف؛ الذي تصفه الدوائر الغربية بأنه مؤسس ما تسمى “البوتينية” وعدم إسناد أي منصب رسمي له، وصدور بيان رسمي من الكرملين بعزله[2]. وتعيين ديمتري كوزاك بدلاً منه، والإطاحة بعدة جنرالات في الجيش والشرطة، وغيرها من الإصلاحات التي تُبشر بمرحلة جديدة لخلق نظام سياسي مؤسسي فاعل وقادر على العمل بمعزل عن الرئيس.
[1]– بوتين: روسيا الحديثة ما زالت في طور التكوين والتشكيل ونظامها السياسي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، قناة روسيا اليوم العربية، خطاب بوتين بعد تصويت الناخبين على تعديلات الدستور، 02 يوليو (تموز) 2020
[2]– Владислав Сурков освобождён от должности помощника Президента – Kremlin – 18 февраля 2020 http://kremlin.ru/events/president/news/62818