يدرس مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الاحتجاجات العراقية 2019-2020: هل تفرض أفقاً للدولة المدنية؟» (الكتاب الستون بعد المئة، أبريل (نيسان) 2020)، الدوافع السياسية والاجتماعية المسببة لغليان المشهد السياسي في العراق، الذي وصل ذروته في الحراك الاحتجاجي عام 2019، ويطرح أسئلةً صعبة عن مستقبل الدولة، ومراوغة أحزاب الإسلام السياسي، والنفوذ الإيراني في البلاد.
كشفت دراسات في الكتاب عن تحولات جذرية في الوعي السياسي للجيل الجديد من العراقيين، ظهر فيه حنق شبابي عام من سطوة أحزاب الإسلام السياسي، لا يقل عن دوي المطالب الاقتصادية، ودعوات التغيير الاجتماعي، وظاهرة مساهمة المرأة في الاحتجاجات.
شارك في الكتاب باحثون وأكاديميون عراقيون، تطرّقوا إلى قضايا الحراك الاحتجاجي والتفاعلات المترتبة عليها، على المستويين الداخلي والإقليمي. ركزت الدراسات على المسار التأريخي العام للاحتجاجات في العراق، منذ العهد الملكي، مروراً بتظاهرات عام 2011، التي فشلت في كسر الطوق الطائفي المفروض من السلطة منذ عام 2003، وصولاً إلى احتجاجات «تشرين» 2019، شارحةً مغزى تعدد المكوِّنات المشاركة فيها، ومفصلةً التطلعات الشبابية الجديدة، عبر الوقوف على تصنيفٍ علمي لشعاراتها. وجرى تحليل مواقف الأحزاب الإسلاموية المحسوبة على إيران، التي حاولت الالتفاف على مطالب المحتجين المنادين برفع «اليد الإيرانية» عن العراق.
شكل «التصعيد» ضد النفوذ الإيراني ركيزة أساسية في الاحتجاجات، الذي انبجس من تنامي رفض الشباب العراقي لوصاية الأجنبي –عموماً- على القرار الوطني. فالضيق من تدخل طهران وصل إلى حدٍ غير مسبوق لدرجة حرق صور الخميني، كما زاد التذمر، من التدخل والاستفزاز التركي، النفور من الإسلام السياسي الشيعي والسُنّي على حد سواء، إضافةً إلى رفض التطرف الذي عمقتّه تجربة العراقيين مع تنظيم «داعش» الإرهابي.
شكّل سؤال الدولة المدنية، عصب وروح دفوعات المؤيدين للاحتجاجات، الذين رأوا فيها أساس بناء دولة المواطنة والحقوق والواجبات، على طرف نقيض من نظام المحاصصة الطائفية والسياسية الذي أرهق المؤسسات العراقية، التي يتلاعب فيها لاعبون محليون ووكلاء سياسيون يرتبطون بأجندات خارجية. ينطلق هذا التصوّر، من فرضيّةٍ مركزيّة، ترى أن الصراع بين الدولة و«تنظيمات اللادولة»، أدى إلى فشل وضعف المؤسسات الرسمية؛ وعجزها عن فرض سلطتها وتنفيذ القانون، في ظل تلاشي الخط الفاصل بين السياسة والأمن، فتمّ بسبب ذلك التأسيس لـ«شرعيات بديلة وموازية» للدولة، وباتت الولاءات تنتظم حولها. وتوارد «التراضي» بالصمت عليها، وعُدت ضمن العرف المسكوت عنه، إلى أنّ فجرت احتجاجات 2019، الرفض الشبابي لها، فتأسس على نقيضها، اجتهادٌ دعا إلى نبذ الطائفية، وطالب بتعزيز الوحدة الوطنيّة، وحاول تغيير قواعد اللعبة السياسية، ترافق ذلك مع الدعوة إلى محاربة الفساد.
تضمن الكتاب دراستين حاولتا تبيان المخاطر السياسية والوطنية الناجمة عن تأزّم المسار الديمقراطي، والمحاصصة الطائفية عند الفئات العراقية الحاكمة. حاولت الآراء إثبات «أن المتحاصصين لم يربحوا كل شيء في البلاد، بعد أن سادت ثقافة جديدة يقودها جيل من الشباب، قائمة على أساس المشاركة في صنع بيئة قادرة على إصلاح النظام السياسي، تمكنت خلال مدة وجيزة، من تأسيس فضاء عمومي مؤثر سياسياً، أرغم رئيس الوزراء الدكتور عادل عبدالمهدي على الاستقالة، وانتزع قانوناً انتخابياً، ومفوضية انتخابات جديدين، فضلاً عن تغييرات جذرية أخرى، عُدت بأنها مؤثرة في بنية النظام السياسي».
أثارت الاحتجاجات العراقية مواقفَ دولية وإقليمية، غطى الكتاب أربعة منها: الأمريكي، الإيراني، العربي، والأممي. اتسمت هذه المواقف –كما تفيد بعض التحليلات- بالتفاوت، وفقاً للعلاقات السياسية والاقتصادية بين كل دولة وأخرى، إذ اتخذت كل دولة موقفها بناءً على معادلة تقوم على أساس الترابط مع الأطراف الرئيسة المعنية بالأوضاع الداخلية، وليس على أساس رسمي. ولكن الاتفاق بينها كان الدعم العربي لمسار استقلال القرار العراقي عن النفوذ الأجنبي.
حاول الكتاب الإجابة عن مجموعة من الأسئلة: كيف يمكن قراءة الموقف الشعبي العراقي في الاحتجاجات، تجاه التدخل الإيراني، بعيداً عن الاصطفافات الأيديولوجية؟ وما المعايير العامة لهذه القراءة؟ وهل ستكون الاحتجاجات العراقية البداية الحقيقية لإنهاء الدور الإيراني ونفوذه؟
ترك الصراع الأمريكي– الإيراني في العراق تأثيراً في «المشهدية» الاحتجاجية، فتباينت المواقف بين الدولتين، ففي حين حاولت واشنطن عدم التدخل المباشر في تأييد التظاهرات -كما تلفت إحدى الدراسات- ربما تجنباً لاتهامات تحميلها مسؤولية أنها خسرت، بسبب هذا التردد، لصالح إيران التي لا تخجل من مهاجمة المتظاهرين علناً، وإغراء وكلائها بمهاجمتهم؛ إذ اتخذت طهران موقفاً معادياً للاحتجاجات، ورأت فيها تآمراً وعمالة وأنها مُموّلة من قوى دولية وإقليمية لإضعاف المحور الإيراني وحلفائه!
تناول الكتاب، باهتمام، اضطلاع المرأة العراقية بأدوار بارزة ولافتة في احتجاجات 2019. تقدِّر الدراسات أن هذا الحضور في النشاط السياسي الاحتجاجي ليس جديداً أو مستغرباً، بل يعود لمشاركة النساء في «ثورة العشرين» في عشرينيات القرن الماضي.
شكلت منصات التواصل الاجتماعي عاملاً أساسياً لفهم الدور الجديد، الساعي لتحديث التعاطي مع الوقائع والواقع، ساعد على تزخيم الاحتجاج؛ ناقشت دراستان كيفية توظيفها من قبل الناشطين الشباب باعتبارها نواة التغيير في ظل التقانة الحديثة والفضاءات الافتراضية.
دَرس الكتاب أثر جائحة (كوفيد -19)، على الاحتجاجات العراقية، وتضمّن تقريراً عن تأثير الفيروس المستجد على الديمقراطية في دول العالم.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر رشيد الخيُّون الذي أشرف على العدد، والزميلة سميرة إبراهيم التي نسقته، والزميل إبراهيم أمين نمر الذي ساعدها في التنسيق، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهم وفريق العمل.
هيئة التحرير
أبريل (نيسان) 2020