-1-
لا تفضل منظمة الصحة العالمية هذا المصطلح الذي صار شائعًا وتستخدم بدلًا منه مصطلح “التباعد الجسدي”. لكن المصطلحين يشيران في أدبيات الأزمة إلى المعنى ذاته، وهو قواعد السلوك الجديدة التي يجب اتباعها لتجنب الإصابة بالفيروس وتقليل فرص انتشاره، والتي تقتضي أن يحافظ كل فرد طوال الوقت على مسافة فاصلة بينه وبين الآخرين. هذا التمييز يشير إلى الوعي بالإيحاءات السلبية لمصطلح التباعد الاجتماعي، وينطوي في الوقت ذاته على توجيه إرشادي صادر من السلطة الطبية “الحاكمة”: نحن نرجوكم أن تتباعدوا مكانيًا، لكن لا تفقدوا تواصلكم الوجداني الأخلاقي، أو تفاعلكم السياسي الاقتصادي.
يعي الجميع أن الفصل الجسدي يفضي بالضرورة إلى انفصال اجتماعي، عندما يتحول مع الوقت من حالة استثنائية (ضيقة ومؤقتة) إلى وضعية اعتيادية (عامة ودائمة). وهو المشكل الذي يصر جورجيو أغامبين على لفت الانتباه إليه بوصفه جوهر الأزمة: “يشعر مجتمع بأكمله أنه ملوث ومسموم في مواجهة مرض لا أستطيع شخصيًا الحكم على شدته، إلا أنه بالتأكيد ليس بسوء الطاعون. ويجزم الجميع بضرورة عزل أنفسهم في المنازل، وتعطيل سير حياتهم الطبيعية: العمل، والصداقة، وعلاقات الحب، وحتى المعتقدات الدينية. كيف أصبح كل منا فجأة ينظر إلى الآخرين وإلى نفسه، على أنهم مجرد ناشرين للعدوى يتوجب تغطية وجوههم بالأقنعة والابتعاد عنهم مسافة أمان لا تقل عن مترين؟ يبدو لي التفكير في الموضوع ضروريا”.
التفكير الضروري الذي يقصده أغامبين تفكير سياسي بالأساس: “يعلمنا التاريخ أن كل ظاهرة اجتماعية لها، أو يمكن أن يكون لها، تبعات سياسية. من المستحسن أن نمعن النظر في المصطلح الذي وجد طريقه للتو إلى موسوعة الغرب اللغوية” (Social distancing) وبالرغم من صياغة المصطلح بطريقة مهذبة وملطفة لغويًا لتجنب التعبير القاسي “ترسيم الحدود”، فإنه يجب التساؤل عن نوع النظام السياسي الذي قد يترتب على هذا المفهوم”، وعلى الرغم من التناقض الظاهري، فإن عقيدة التباعد الاجتماعي الجديدة تؤدي إلى نشوء مجتمع شمولي من الأشخاص غير الفاعلين”.
بالنسبة إلى مفكر يساري بعد حداثي، لا يتعلق الأمر بقلق رومانسي على مصير التواصل الإنساني، فجوهر المشكل في التباعد هو تبعاته السياسية التي تؤدي إلى مجتمع شمولي. وعلى الرغم من إشارته إلى الصداقة وعلاقات الحب، يظل “التواصل الاجتماعي” في قراءة أغامبين فكرة سياسية، أي شرطًا لوجود النظام السياسي، وليس فكرة أخلاقية ذات بعد وجداني كما يمكن أن تقرأ في الوعي التقليدي (الديني/ المثالي).
-2-
بالمقاييس التقليدية، يعاني الإنسان المعاصر من خلل في عملية التواصل الاجتماعي سابق على أزمة الفيروس. هذه الظاهرة التي تتفاقم طرديًا منذ نهاية القرن الماضي، يجري رصدها كأحد الأعراض المرضية الناجمة عن الحداثة، بتداعياتها المادية الآلوية والتقنية التي كرسها بوجه خاص نمط الإنتاج الرأسمالي، ولذلك فهي لا تحضر بشكل صريح -أو لا تحضر بالدرجة ذاتها- في المجتمعات التقليدية التي لم تدخل “كليًا” في مدارات الحداثة، وهي بعينها المجتمعات التي لا تزال خاضعة لهيمنة الثقافة الدينية.
لكن التواصل ليس مجرد شرط لوجود النظام الاجتماعي، بل ركنه الكلي الذي يمثل فحواه، ولذلك يظل التواصل بالضرورة مفهومًا قابلًا للتحول: مع كل تغير في نسق النظام الاجتماعي يعيد النظام إنتاج نمطه الخاص من التواصل. نسق التباعد الجسدي الذي تفرضه الأزمة الراهنة سيؤدي بالطبع، إلى خلق صيغ جديدة للتواصل تتوافق مع فكرة “المسافة”، مما يعني إعادة تعريف المصطلح ذاته. لقد كان على الحداثة أن تفرز صيغها التواصلية الجديدة، وكان على العقل الغربي المعاصر أن يعيد تفسير التواصل تفسيرًا حداثيًا، أو بعبارة هابرماس، يؤسس فهمًا جديدًا للمجتمع “يجعل تصوره الحياة الاجتماعية المصمم من أجل مفارقات الحداثة- ممكنًا”.
يقدم العقل المعاصر في مجمله تفسيرًا براجماتيًا للتواصل ينبع من أغراضه الوظيفية (الوضعية)، وليس من وعي الذات ونزوعاتها الأخلاقية (المفارقة)، والمنحدرة من أسس الدين والفلسفة المطلقة. هذا التفسير ينزع عن التواصل طابعه الشعوري الدافئ، وهو ما يعني تقريبًا -في الوعي التقليدي- نفي التواصل.
لكن إذا كان التواصل جوهر العملية الاجتماعية، فهو أيضًا شرط ضروري لعملية الوعي الذاتي، أعني لاكتمال وعي الذات بنفسها (هوية الذات لا تتحقق إلا من خلال “علاقة” مع آخر خارجي هو بدوره ذات).
ولذلك يظل التواصل فعلًا شعوريًا وثيق الصلة بالمناطق الوجدانية القريبة من شواغل الأخلاق.
في هذا السياق يمكن استحضار النموذج التفسيري الذي يقدمه هابرماس في “نظرية الفعل التواصلي”: يحاول هابرماس تأصيل التواصل الحداثي على “أسس عقلية” ذات طابع تعاقدي اتفاقي، تقوم على فكرة التشاور وأخلاقيات الحوار، بدلًا من الأسس “الغيبية” التقليدية ذات الطابع الفوقي الإملائي التي تقوم على الإكراه والهيمنة.
يريد هابرماس تجاوز التأسيس الميتافيزيقي للتواصل، لكنه بنزعته الحداثية “المحافظة” لا يستبعد فاعلية الأخلاق، التي -بحسبه- ظلت صامدة في سياقات الحداثة لأن لها غاية حتى الآن، وهي فض المنازعات والمساعدة في تجديد النظام الاجتماعي والمحافظة عليه، وهو ما ينطبق على الدين، الذي يمثل المنبع الأصلي للأخلاق السارية. وفي هذا الإطار العام تندرج محاولة هابرماس “المتفائلة” لإجراء مصالحة بين الدين (الإكراهي بطبيعته التاريخية) والحداثة (التعددية بنزوعاتها العلمانية) يحضر الدين هنا -مثلما تحضر الأخلاق- بوصفه معطىً “وضعيًا” من معطيات الاجتماع، يلعب دورًا وظيفيًا مطلوبًا، وهو ما يجعل حضورهما، في سياق تفسير حداثي، مفهومًا.
يضع هابرماس قدمًا في الاجتماع، وأخرى في الفلسفة، وفيما ظل منافحًا عن مكاسب التنوير العقلانية بوصفها مشروع الحداثة الذي لم يكتمل، اكتسب خصائص التفكير ما بعد الحداثي التي لم تغفل عن إشكاليات التطور. يعالج هابرماس مسألة التواصل في إطار مراجعته الكلية للحداثة، حيث يقدم قراءة مزدوجة: سوسيولوجية/ نظرية معًا من ناحية، ونقدية دفاعية معًا من ناحية ثانية.
في هذه القراءة يقر هابرماس -مع الفكر التقليدي- بوجود خلل في عملية التواصل، ناجم عن تداعيات التحديث التي حولت العلاقات الاجتماعية إلى روابط شكلية مفرغة من بعدها الإنساني. ومع ذلك فالمشاغل التي تحرك هابرماس هنا ليست أخلاقية، بل سياسية اجتماعية بالأساس. مشكل التواصل المطروح هنا ليس غياب الدفء الوجداني حيال الآخر، بل غياب الوعي بالآخر والسعي إلى نفيه. المشكل هو خلل التواصل في صورته القصوى التي تتمثل في “الصراع” ورفض التعايش. وهو المشكل الذي يبرز بشكل أوضح في ظل الحداثة بسبب انتشار الوعي التعددي/ الفرداني مع بقاء القيم الحصرية/ الشمولية المستمدة من الثقافة التقليدية.
يتكلم هابرماس عن نظام عالمي عقلاني سليم يمكن “تصوره” من خلال توفير وتحفيز عوامل جديدة من داخل مجتمع الحداثة، تقوم على التفاهم والتسامح والحوار المفتوح مع الآخر (الأفراد/ المجتمعات).
في إنجاز هذه الرؤية المتفائلة، يعول هابرماس على انتشار “العقلانية” التي يُفترض أن تقود إلى الحوار، ويطرح نظريته النقدية التي توجه الاهتمام إلى صلب العلاقة الإنسانية، وإشكالياتها الناجمة عن ضغوط الحداثة، بما في ذلك السلطة التي تمارسها التكنولوجيا ومؤسسة العلم.