-1-
بحسب جادامير، المعنى ينبع من الموقف التفسيري، فهو ليس شيئًا موضوعيًا كامنًا في جوف النص وعلى المفسر استخراجه، بل هو شيء ينتج من خلال عملية التأويل، أي فقط عندها، وبالتالي يظل المعنى على الدوام مرتبطًا بسياقات المؤول أي بسياقات الحاضر (الآني المتغير باستمرار)، وليس بسياقات المؤلف التي ترجع إلى الماضي. الموضوع يتعلق بفهم النص وليس فهم مؤلفه، والمعنى ينتج من التقاء أفق التأويل بأفق النص الذي هو أوسع من المؤلف، وهكذا تظهر المهمة الحقيقية للهرمنيوطيقا: رفع التوتر الناجم عن المسافة الزمنية بين لحظة النص ولحظة التأويل، بغرض الوصول إلى الفهم، فهمنا نحن الآن للنص.
التأويل هنا ليس مجرد كاشف للمعنى، بل يلعب دورًا إنشائيًا في عملية إنتاجه. لكن سياقات التأويل الحاضرة، كما يفهمها جادامير، ليست منفصلة تمامًا عن سياقات النص في الماضي، لأن هذا الماضي حاضر فينا على الدوام من خلال “التراث”، فالتراث هو: ثقافتنا الراهنة المستمدة من الماضي، أو هو الجزء الماضوي من ثقافتنا الراهنة. وبناء على ذلك لا يمكن تجاوز ذاتية المؤول وأحكامه السبقية جريًا وراء “موضوعية” متوهمة في قلب النص. الفهم المضوعي ليس الفهم الذي يستبعد الأحكام السبقية (فهذا الاستبعاد غير ممكن) بل الفهم الذي يجمع بينها وبين الأفق الدلالي للنص.
-2-
يكشف هذا الطرح عن نفس ما بعد حداثي، معاكس لتوجهات “التنوير” الكلاسيكية، التي تتوجس (إجمالًا من فكرة “الماضي”، وتنظر إلى التراث، والتراث الديني خصوصًا، بوصفه تركة قمعية، تضغط على العقل، وتعطل حركة التطور. وتنظر إلى الهرمنيوطيقا بوصفها أداة نقدية لكشف “الزيف” الذي ينطوي عليه النص، لا بوصفها مجرد أداة لفهم النص. هدف التأويل لم يعد هو “الفهم” بل “نقد الفهم”. لأن في جوف الفهم تكمن حمولات “أيديولوجية” مضمرة، تسربت بالتراكم الطويل إلى بنية “اللغة”، ذاتها، ويمكن لها أن تتخلل نسق التفكير الكلي الذي يشكل رؤيتنا للعالم ويشكل “الأفق” الذي يتحدث عنه جادامير. وبالتالي فاللغة ليست تلك الأداة البريئة المحايدة التي يمكن الوثوق بها لإنجاز المعنى الحقيقي:
بالنسبة للماركسية -التي تنتمي لمناخات الحداثة الكلاسيكية- تتستر هذه الحمولات على المعنى الحقيقي المضمر في النص الديني: فبينما يبدو هذا النص معنيًا بسمو الروح والقيم العليا وخلاص الإنسان، يقوم في الواقع بوظيفة التعتيم على الأحوال غير الإنسانية للعمل البشري، وتبرير البؤس لجعله أكثر احتمالًا، أي يستخدم كـ”أفيون للشعوب”. الوعي –كما يؤكد ماركس- “لا يحدد الحياة، بل الحياة تحدد الوعي”، والتراث هو الوعي السائد في المجتمع كما كرسته “الطبقة المهيمنة” التي صنعت النص وفرضت أيضًا مجاله التأويلي.
وبالنسبة لنيتشه -الذي بدأ يتجاوز حدود الحداثة الكلاسيكية- تلعب الحمولات الأيديولوجية في النص/ التراث الديني دورًا “تضليليًا” أبعد من تزييف الوعي الطبقي: ثمة تزييف للوعي الإنساني العام، يخفي المعنى الحقيقي للفضيلة، ويحجب الأصل الأنثروبولوجي المبكر لمنظومة الأخلاق. فهذه المنظومة ليست شيئًا أكثر من تقاليد الخنوع والذل، التي اكتسبها الضعفاء من قهر الأقوياء، والتي قننها الكهنوت الديني تحت اسم الشفقة والرحمة والمودة، لتجعل الحياة أكثر احتمالًا لدى الجمهور. فكرة “الروح المحض والخير في ذاته”، التي ستحظى بتأصيل نظري موسع في المثالية الأفلاطونية، هي بحسب نيتشه “الأضلولة الأكثر خطرًا والأطول عمرًا في تاريخ الفكر”.
وفي الإطار نفسه سينعى نيتشه على التراث الديني تكريسه لأضلولة لا تقل خطرًا عن مقولة الخير، وهي مقولة “الحقيقة”، التي فرضها هذا التراث على الفكر (بما في ذلك الفلسفة وحتى العلم) بوصفها كينونة مرجعية حصرية عليا، أي كمعنى واحد مفارق مجهز لـ”المطابقة”، الأمر الذي ثبَّت فرضية الاتجاه الأحادي للفهم (ليس ثمة إلا معنى واحد في النص، ووظيفة الفهم هي الوصول إليه)، وهكذا يظل الفهم محكومًا بأصلين زائفين: إرادة القوة وإرادة الحقيقة.
-3-
إسلاميًا لا مجال لمناقشة المسألة في هذا الإطار. ثمة شبكة مفاهيمية مختلفة تمامًا على مستوى الموضوع والمنهج: فالتراث ليس مجرد ثقافة زمنية مفارقة تحكم تفكيرنا في النص، بل هو النص. وهو بحكم مصدره الإلهي ليس قابلًا للتحمل بالمضامين المزيفة التي يفرزها الاجتماع، الأمر الذي ينطبق على “اللغة” بوصفها مادة توقيفية ترجع –بدورها- إلى المصدر الإلهي ذاته. وهو فوق ذلك غير قابل للانزياح أصلًا، وغير جائز التحويل.
في العقل الكتابي عمومًا -حيث يرتبط النص بحقبة التأسيس- يظل “الماضي” حاضرًا في كل حقبة لاحقة، لا بوصفه إطارًا تاريخيًا للدين، بل بوصفه جزءًا من بنية الدين ذاته. وعلى الرغم من أن العقل الإسلامي “النظري” يستطيع أن يفرق بين الشريعة والفقه، وبين العقيدة والكلام، أي بين النص والمدونة الاجتهادية التي تشكلت حوله، يصعب “عمليًا” فصل النص عن مدونته التفسيرية الموروثة، بسبب التداخل العضوي الذي تم بينهما في مرحلة التدوين، والذي أسفر عن “تنصيص” جزء من مادة المدونة، فضلًا عن تثبيت سلطتها كشارح حصري ملزم للنص الأصلي.
لا يحضر الماضي كتعبير عن حنين عاطفي للعصر الأول فحسب، بل كسلطة معرفية مفروضة على جميع الأجيال اللاحقة. يؤكد الشافعي هذه السلطة الواسعة وينسبها إلى الله “لم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله”. الماضي هنا هو جهة العلم الوحيدة في الإسلام. وهو، كما يشرح الشافعي في “الرسالة” يتجاوز عصر النبي إلى عصر الصحابة والتابعين: فـ”المحدثات من الأمور ضربان؛ أحدهما ما أحدث أمرًا يخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا، فهذه هي البدعة الضلالة”، والنتيجة هي عدم جواز مقاربة أي نص الا بمنظور عصر التأسيس.
في أي مقاربة تجديدية سيصطدم التأويل بهذه الرؤية التي تحتم المرور على “فهم السلف”، وهي الرؤية التي تحولت إلى جزء غير مرئي من الوعي الديني السائد، وتشتغل من ثم، على نحو لا شعوري حتى بالنسبة للتيارات التأويلية الأكثر تحررًا؛ الموقف النقدي من فكرة “فهم السلف” يظل محكومًا بشيء من فهم السلف.
يُصدِّق هذا الموقف على الطرح الحداثي الكلاسيكي الذي تمثله الماركسية، والذي يؤكد الخلفية الاجتماعية التاريخية للمعرفة ومن ثم للفهم. ويمكن قراءته في الوقت نفسه من داخل الطرح ما بعد الحداثي الذي يمثله جادامير وهايدجر، والذي ينفي إمكانية استبعاد التراث في أي عملية تأويلية، بما أنه حاضر بالضرورة في أفقي التأويل كليهما: أفق النص (الماضي)، وأفق المؤول (الحاضر).
لكن التراث –مع ذلك- ليس قدرًا بيولوجيًا يتعذر تجنبه، بل يستطيع “الوعي” من خلال الحاسة النقدية، أن يفصل نفسه عن مكوناته المتداخلة، وأن يمارس حيال مادة التراث نوعًا من الانتقاء الموضوعي (يستبعد العناصر السلبية والقمعية خصوصًا) بغرض التوافق مع حاجاته الراهنة التي يفرضها الواقع. ويستطيع –وهذه مهمة الهرمنيوطيقا النقدية- أن يقف على الخلفية الاجتماعية التاريخية الكامنة خلف النص، والتي تخفي مغالطات أيديلوجية. (دافع هابرماس عن هذه الرؤية في “نظرية الفعل التواصلي” بنقاشه الموسع حول “البراجماطيقا” العامة Pragmatics/ “التداولية” التي تدرس العلامات اللغوية على مستوى الاستخدام الدارج، والتي تستطيع “تعقب أخفى التحريفات الأيديولوجية التي تتسرب إلى نسيج اللغة”.
المسألة في الفكر الإسلامي ليست ما إذا كان التراث وعاء محملاً بتحريفات أيديولوجية، وما إذا كان كتلة من الثقافة يمكن التخلص منها. فهي ليست مسألة “إمكان أو عدم إمكان” طبيعي، بل مسألة (جواز أو عدم جواز) شرعي: هل يجوز استبعاد التراث شرعًا؟ وليس: هل يمكن استبعاد التراث في الواقع؟
لكن السؤال الذي يطرحه الواقع المتطور على هذا الفكر هو: إلى أي مدى يمكن للتراث أن يجاري حركة التغير؟ أو: إلى أي مدى يمكن استبقاء التراث في ظل الإيقاع الراهن لحركة التطور؟ وهو سؤال يسحب المشكل إلى مناطق “قبل تأويلية”، أعني إلى مناطق معرفية واقعية يلزم طرقها قبل الجدل في شروط التأويل وتقنياته اللغوية: هناك أولًا مسألة الفصل بين النص الأصلي والمدونة الاجتهادية (ضبط حدود التراث)، ثم مسألة الموقف من سلطة السلف على النص (ضبط حدود التأويل)، قبل أن يفرغ للمشكل الأهم الذي يتعلق بالنص الأصلي ذاته؛ فإشكاليات التطور لا تشكل تحديًا للمدونة الاجتهادية فحسب، بل أيضًا للنص الأصلي (إلى أي مدى يستطيع مواجهة هذا التحدي بالاعتماد على آليات المدونة التقليدية بما في ذلك التأويل؟).
يتبع