تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «الإرهاب في النقاش الفلسفي: الفهم والثغرات» (الكتاب الرابع والستون بعد المئة، أغسطس (آب) 2020) أطروحات بعض الفلاسفة الغربيين حول الظاهرة الإرهابية المعاصرة؛ وتصدعات تفسيراتهم لها.
تعرض الدراسات للنقاشات الفلسفية الأوروبية والأميركية؛ وتجلياتها العربية، في قراءة الإرهاب، محاولةً تفكيكه وفهمه.من بين الفلاسفة الذين دُرِسوا: جاك دريدا (Jacques Derrida)، وجان بودريار (Jean Baudrillard)، وإدغار موران (Edgar Morin)، وحنة أرندت (Hannah Arendt)، ويورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، وجوديث بتلر (Judith Butler)، وسلافوي جيجك (Slavoj Žižek).
توحدت المواقف الفلسفية الرافضة للعنف، لكنّها في سياق بحثها عن فهم الإرهاب، وقعت فيما يمكن وصفه -بقدرٍ من التحامل- قد يرقى إلى التبرير له، دون قصد أو وعي، وهو أمر يماثل ما توصل إليه محللون نفسيون في تشريح شخصيّة الإرهابي، كما كشف لنا، من قبل، كتابنا الشهري «علم نفس الإرهاب: الأفراد والجماعات الإرهابية» (الكتاب الخامس والعشرون بعد المئة، مايو (أيار) 2017). فقد وقعوا في فخين؛ الأول: الحكم بأنّ الإرهابي مريض نفسي؛ فتُخلى -دون وعي- ساحته من المسؤولية الأخلاقية لغياب أهليته النفسية، والثاني: تحميل الظروف المحيطة به مسؤولية تدرجه نحو التطرف العنيف؛ وهو عامل لا بد من الأخذ به، والتعاطي معه بحذرٍ وبصيرةٍ وإدراك، ولكن من المهم معاينة واقع العنف ضمن مناهج متداخلة للكشف عن أبعاده وطبقاته العميقة وأيديولوجياته الخطرة.
يتطرق الكتاب إلى النقاشات الفلسفية اليسارية الغربية المعاصرة حول الإرهاب، في ضوء التحوّلات العالمية الراهنة، أولاً؛ والهجمات الإرهابية التي شهدها القرن الحادي والعشرون، ثانياً. يُلاحظ أنّ الخلاصات التي خرجت بها النظريات الفلسفية المفسرة للإرهاب، هشّة وضعيفة وليست متصلة بواقع الظاهرة وجوهرها. لذا يُعد الكتاب بمثابة مقدمة تمهيدية وضرورية، لنقد الثغرات التي وقعت فيها تحليلات فلسفية، سعى الإسلامويون للانفتاح غير المشروط عليها واستغلالها، ظناً منهم أنها تشاركهم خصومتهم وعداءهم الصلب، للدولة وفكرتها وقيم المواطنة!
قدم بعض الفلاسفة «تحليلات قلقة»؛ ليس من التسرّع ردُّها إلى التعاطف اليساري مع كل الموجات الثورية ضد سلطة الدولة، ولكن من الضروري فهمها ضمن مسار يناقش إغفالها لطبقات الإرهاب المعاصر؛ ومحاولتها التفكير أكثر مما يجب في تحليل أحداث بارزة مثل؛ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية، مثلاً، إذ تغرق بعض النظريات في اعتبارها فرصة لمراجعة السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، بدلاً من الاعتراف بوحشية الإرهابيين؛ وهذا التفكير الفلسفي المستثار؛ يتسق مع النظريات الباردة التي ترى في العنف الأصولي ردّة فعل على الاستعمار الجديد؛ أو الحداثة، ودائماً ما يظهر أثره؛ في التشكيك في احتكار الدولة للعنف المشروع؛ والولع بوصف تجاوزاتها بالإرهاب!
يحتاج تفسير العنف الذي تلجأ إليه التنظيمات الإرهابية إلى مقدمات تمهيدية؛ لفهم الكيفية التي قاربه فيها المتخصصون وعلماء الاجتماع ودارسو الإرهاب، في سبيل مساعدة الفلسفة على فهم أعمق لمخاطره. تفيدنا في هذا المجال خلاصات، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفورد، مارثا كرينشاو (Martha Crenshaw) التي تطرق الكتاب إلى أهم تنظيراتها القديمة التي تبنتها في الثمانينيات من القرن المنصرم، وحدثتها بعد ظهور تنظيمي القاعدة وداعش، فارتأت أن نمط الإرهاب المُثار الآن، يختلف في بُناه ومعناه عن الإرهاب المنتمي إلى القرن الماضي.
يفتقد أيّ عنف مرتكب، من قبل أي جماعة غير الدولة، للشرعية، لذا تسعى الجماعات ومفكروها؛ إلى تأسيس روافع «تبريرية سياسية»، لإكساب عنفها شرعية متوهّمة أو مزعومة. وعليه؛ فإنّ التثبت من المفاهيم الأولية التي تقود إلى تفسير أي نظرية تعالج الإرهاب المعاصر؛ يجب أن تخضع لدراسة معمّقة وفحص دقيق، ونقدٍ كبير، لتمييز فضاء الشرعية القانونية والسيادية والأخلاقية المقصودة. مع استصحاب قاعدة أساسية: أي عنف لا تمارسه الدولة لا يمكن تبريره.
ما زال مصطلح الإرهاب نفسه مفتوحاً على السجال في القانون الدولي والفلسفة السياسية وعلم الاجتماع. لقد انعكست تعددية التفسيرات حوله في الفرضيات والاستنتاجات التي قدمها فلاسفة غربيون وعرب معاصرون. ولئن تنوعت المفاهيم في دراسة الإرهاب، فإنّ عدّتها النقاشية ما استطاعت الإحاطة الوافية بإشكالياته وتعقيداته. يمضي بعض الفلاسفة، بحسن نيّة؛ وهم يحاولون الفهم، إلى مرحلةٍ يمنحون فيها الفعل، سؤال المشروعية؛ ويقارنونه بمشروعية الدولة، فيتيحون للمتطرّف الإسلاموي؛ عُدّة من الاستشهادات المنزوعة من إطارها. وهذا أمر مُلغز، لكنه يخضع لتفسيرات متباينة، وهي أنّ التشكيك المتوهم في فكرة الدولة، في السياق الغربي، ليس تشكيكاً في فكرتها كما يزعم الإسلامويون، بل هو اتجاه فلسفي لزيادة مشروعيتها، وتوثيقها، وترقية أدائها، ولكنّ الفهم «المتطرف» المتوثب لأخذ «مشروعيّة» ولو زائفة، يجهد خلف تجميع المصادر الحداثوية التي يبرر هو بها عنفه.
ليس من شكٍّ أنّ الفلسفة في جوهرها نفيٌ للعنف، ودفع نحو الكونية وإثارة دائمة للأسئلة حول الوجود والإنسان؛ وإذا توهمنا أن النصوص الجريئة في مخاطبة الأسئلة المركزية مزعجة، فهي مزعجة لنا؛ لأنّ الدولة في المجال الذي تبلورت به هذه الأسئلة، قويّة وراسخة ومتينة، فلا تُفهَم إلا في توطيد أعمدتها، وتزيين سلطتها، وتقوية روحها، لا كما يتلقفها صانعو الإرهاب ومنظروه؛ إذ يجعلون هذه الأسئلة مبررات لمشروعات غايتها تقويض الدولة و«أنسنة» الإرهاب.
يتابع الكتاب ما بدأه مركز المسبار للدراسات والبحوث، في دراسة للظاهرة الإرهابية ضمن المنهج متعدد التخصصات، بدءاً من علم نفس الإرهاب؛ وصولاً إلى استغلال الإسلامويين للعلوم الاجتماعية وتأثيرهم في مناهج التعليم، ليتجه نحو: نقد الدراسات النقدية للإرهاب، التي تتحوّل في مجملها إلى مسار حيّ، لتطوير القراءات وإعادة طرح الإشكاليات والقضايا الجديدة.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج، التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودها وفريق العمل.
هيئة التحرير
أغسطس (آب) 2020