-1-
في دراسته حول انتشار الإسلام السياسي في أوروبا، يميز “لورنزو فيدينو” الخبير الأكاديمي ومستشار السياسيات في المؤسسة الأوروبية الديموقراطية، بين فئات ثلاث من الإسلاميين: فئة الرافضين العنفويين أو الجهاديين، وفئة الرافضين غير العنفويين مثل السلفيين أو أعضاء حزب التحرير، الذين يرفضون شرعية النظام الغربي، لكنهم لا يدافعون –علنًا على الأقل- عن استخدام العنف لتغييره، وفئة المشاركين الذين لا يفرضون التفاعل مع المجتمع الغربي ككل، سواء من خلال النشاط الشعبي، أو عبر الاندماج السياسي في العملية الديمقراطية. خلافًا للرافضين اتخذت هذه الفئة خيارًا واعيًا لتجنب المواجهة غير الضرورية مع السلطات أو المجتمع، والانخراط، عبر سياسات ممنهجة، في المؤسسات الأوروبية.
يُظهر المشاركون -وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين- “الوجه غير العنيف” للإسلام السياسي، وهو -بحسب فيدينو- الوجه الأكثر خطرًا على المجتمعات الأوروبية في المدى الطويل. تسعى الجماعة من خلال شبكة المساجد والجمعيات والمراكز التابعة لها والمنتشرة عبر البلاد الأوروبية “إلى أن تصبح ممثلًا رسميًا أو فعليًا للجالية المسلمة، والشريك المفضل، إن لم يكن الحصري، للحكومات، وهذا من شأنه أن يخدم أغراضًا مختلفة، منها ما أعلن عنه الإخوان صراحة، وهو الإسهام بشكل إيجابي في مستقبل المجتمع الأوروبي. ومن خلال تسليط الضوء على القيم المشتركة يقدم الإخوان أنفسهم كقوة “معتدلة” تشجع المسلمين على المشاركة في المجتمع، وفي الوقت نفسه على نشر مبادئهم الإسلامية، الأمر الذي يفيد الجميع في نهاية المطاف.. ومن خلال هذه العلاقة يتمكن الإخوان من كسب ثقة الحكومات الأوروبية، التي ستعهد إليهم بإعداد المناهج، واختيار المدرسين للتعليم الإسلامي في المدارس العامة، وتعيين الأئمة في المؤسسات الحكومية، مثل الجيش والشرطة والسجون، وتلقي الإعانات لإدارة مختلف الخدمات الاجتماعية”. (في الفترة بين 2014 و2019 منح الاتحاد الأوروبي حوالي “36.5” مليون يورو لجمعيات ذات صلة بالإخوان، وفق تقرير كتلة الهوية والديمقراطية في البرلمان الأوروبي. منظمة الإغاثة الإسلامية إحدى أذرع الإخوان -على سبيل المثال- تلقت أكثر من (5) ملايين يورو من مؤسسات الاتحاد في الفترة ذاتها).
النتيجة التي يخلص إليها فيدينو، والتي يهدف إلى وضعها تحت نظر المؤسسات الرسمية هي “أن الإسلام السياسي يستطيع أن يوسع أراضيه تدريجيًا من خلال زيادة أعداد المساجد والمراكز (“1000” مسجد في بريطانيا وحدها)، وعن طريق التسلل إلى المؤسسات، وحتى حوادث العنف تعتبر مفيدة في هذه الاستراتيجية، فهذه الحوادث تمنح المشاركين إمكانية الوقوف إلى جانب الحكومة ضد “الأشرار”، فيما يعلنون عن أنفسهم كأخيار، في حلقة من سياسات الاسترضاء للسلطات المحلية، تسهل انتشار الأسلمة، وتثير مشاعر “يمين” متطرف “في المجتمع”.
-2-
ظاهريًا، نجح التنظيم الإخواني في تحقيق نتائج ميدانية في أوروبا على مستوى الحضور المدني، وفي خلق قواعد ضغط سياسي يعاد توظيفها في بلاد المنبع، وبالنسبة للبعض تبدو هذه النتائج “مدهشة” -إلى حد كبير- بالنظر إلى حجم التأثير المفترض لتنظيم تراثي “شرقي” داخل السياقات الغربية الحداثية. ويسود هذا الانطباع بوجه خاص في المنطقة العربية، حيث يظهر الحجم الحقيقي للتنظيم في الشارع السياسي، وحيث تظهر مؤشرات واضحة على تراجعه في ظل مقاومة متنامية لمشروع الأسلمة السياسة عمومًا، سواء من قبل الدولة أو المجتمع.
واقعيًا، لا يمكن تفسير الحضور التنظيمي للإخوان في أوروبا بمعزل عن السياقات الغربية الحداثية ذاتها، أعني بمعزل عن طبيعة النظام الديمقراطي العلماني، الذي يسمح بتشكل أقليات ثقافية أو إثنية تستطيع التعبير عن نفسها سياسيًا. وقبل ذلك، بمعزل عن الأجندة التقليدية للسياسة الغربية حيال المنطقة، والتي تقوم على خيار التحالف مع تيارات الإسلام السياسي، وهي السياسة المسؤولة عن جلبها وتوطينها في السياق الأوروبي، فضلًا عن مسؤوليتها “الأًصلية” عن خلق هذه التيارات وتمديد حضورها في المنطقة الإسلامية منذ أواخر الحقبة الاستعمارية.
وفقًا لهذا التحليل: الإسلام السياسي المعاصر ظاهرة اصطناعية، ما كان لها أن توجد دون مساعدة من العامل الغربي. صحيح أن الخلفية الثقافية الموروثة من تاريخ المدونة الفقهية تنطوي على قابليات ساكنة مرشحة للإفراز الأصولي، لكن التحول بالقابلية الأصولية إلى فعل سياسي ظاهر ومعاكس لحركة التطور الحداثي الجارية في المنطقة، تم بفعل الهندسة السياسية التي مارسها الغرب عن تصميم مسبق في الساحة الإسلامية الممتدة من الهند (حيث شجع البريطانيون حزب “العصبة الإسلامية” الساعي إلى التقسيم ضد حزب المؤتمر الوطني، سعيًا لتأسيس باكستان) حتى مصر (حيث سهلوا عملية إخراج جماعة الإخوان كحائط صد ديني مقابل للتيارات الشيوعية والوطنية المطالبة بالاستقلال)، لاحقًا سيتم تطوير أهداف التوظيف الإسلامي من قبل الغرب لتحقيق أغراض اقتصادية وسياسية متنوعة، وهو يتحول إلى استراتيجية غربية ثابتة بعد أن ورثها الأمريكيون عن البريطانيين (من إنشاء النموذج الجهادي في أفغانستان، إلى إعادة تبني جماعة الإخوان، حتى العمل بشكل “محسوب” على خلق وتحريك كيانات أصولية “متطرفة” ومعروفة بمعاداتها للغرب).
تنطوي هذه الاستراتيجية على نوع من “اللعب” السياسي شديد التعقيد والخطورة: الغرب الحديث الذي تجاوز –بعد معاناة تاريخية طويلة- إشكاليات التسيُّس الديني، يبدو وكأنه ينقلب على مبادئ الحداثة العلمانية عندما يتعلق الأمر بالأغيار. وبدلًا من مساعدتهم على تجاوز معاناتهم التاريخية الخاصة بهم، والخروج من حالة الشعوذة السياسية، يلعب على هذه الحالة لتحقيق مصالحه المباشرة، وهو ما يكرس فكرة المسؤولية الأخلاقية للغرب “الاستعماري” عن مشاكل المنطقة والعالم.
ظل المخططون الغربيون يعتقدون بإمكانية وجدوى استخدام الدين في المنطقة الإسلامية، لإنتاج تحولات ثقافية واقتصادية واسعة، أو لتحقيق أغراض سياسية قريبة ومباشرة. المشكل هنا يكمن في عدم قابلية “الفعل الاجتماعي” للتحكم عن بعد، وفي قابليته لإفراز نتائج عكسية، وهو المشكل الذي بدأ يفرض نفسه الآن على الغرب، بعد أن وصلت النتائج العكسية إلى عقر داره في أوروبا. يتبع