تقديم
يأتي كتاب مركز المسبار للدراسات والبحوث: «سجالات نسوية في الأديان الإبراهيمية: التاريخ والمناهج» (الكتاب السابع والستون بعد المئة، نوفمبر (تشرين الثاني) 2020)، استكمالاً لهدفٍ قصدته بِضْعَةٌ من إصدارات المركز، تناولت فاعلية النساء في المعرفة الدينية، ومواضعهن في الحركات الإسلاموية، وفي تصوراتها، وموقعهن في الأديان والثقافات في الشرق؛ سواء لدى أقليات إيران وتركيا، أو في كردستان ودول الخليج. وحظيت دراسات المجال الإبراهيمي بالاهتمام، لا سيّما تلك التي ركزت على الحوارات المبكِّرة والتسامح وفضاءات العيش المشترك؛ وقارنت التعاطي مع قضايا السياسة والمجتمع. ولأن المرأة جزء لا يتجزأ من التاريخ الديني ووقائعه؛ فإن قراءة سيرتها في النصوص المقدسة مهمة، والأهم رصد مسار تأويلها إياها.
قدمت الدراسات التصور النسوي لمواقع النساء وأدوارهن في الأديان الإبراهيمية، فناقشت خلاصات الباحثات في العهد القديم واللاهوت المسيحي، وتأويلاتهن للحضور النسائي الديني والتاريخي في الكتاب المقدس، ولاحظت الجهد التأويلي لدى المنضويات في «النسوية الإسلامية»، ورصدت سعيهن لتكريس مفهومهن للمساواة، اعتماداً على مقارباتٍ عدة، من بينها مفهوم القسط في القرآن الكريم. وفي دراسةٍ جدلية، أُثيرت قضية رئاسة النساء للعبادة في اليهودية والمسيحية والإسلام من منظورٍ مقارن.
تطرّق الكتاب إلى سير نساء العهد القديم، محلِّلاً قضيّة تصوّر الخلق من المنظور «الجندري»؛ ومبرزاً الأدوار الاجتماعية والدينية والسياسية التي لعبتها النساء الواردة أسماؤهن في التوراة، فسعى إلى تفسير أطر التمايز بين الجنسين، دون أن ينفي رحابة النص الديني وإمكاناته الواسعة؛ إذ تميَّز عصر بداية الممالك بوجود نساء قويات تركن بصمتهن عليه، كما تكشف القصص التوراتية عن وجود ملكات مستشارات وحكيمات.
تبنت النسوية اليهودية، من بين ما تبنته في تحليلاتها ومناهجها تصوراً «ما بعد حداثي»، واجتهدت -كما ترى إحدى الدراسات- في بناء اتجاهٍ يهدف إلى تحرير المرأة؛ ولكن ضمن الدين نفسه؛ فظهر ذلك عند الباحثات النسويات اليهوديات، في مستوياتٍ ثلاثة: أولها التبحر في حقل المعرفة الدينية؛ مما يسمح لهن باستعادة الدين في مسارٍ من اللاهوت النسوي، الذي ينقد المعرفة التقليدية الناقصة؛ ثم التحليل النقدي لمكانة المرأة في قلب الجماعة؛ ثم إعادة تملك الهوية اليهودية. أثار الكتاب تاريخ المطالب النسوية اليهودية من أجل الصلاة عند «الحائط الغربي» في القدس، مركزاً على نشاط منظمة «نساء الحائط» (Women of the Wall)، ومبيناً تأثير التجاذب بين الأرثوذكسية واليهودية الليبرالية في قضايا الجندر والدين، وانعكاس أثره على الحكومة الإسرائيلية، مع قرار المحكمة العليا عام 2000 الذي سمح لليهوديات بالصلاة عند «حائط المبكى» وفقاً لأعرافهن.
تطور «اللاهوت النسوي المسيحي» وموجاته بدءاً من القرن التاسع عشر، ناظراً إلى تجارب النساء بوصفها شرطاً ضرورياً لأي تفسير متعلّق بالنصوص والتقاليد داخل المسيحية؛ فتأسست تأويلات نهضت على النقد العَقَدي وإعادة البناء. نوقشت مسارات هذا المحتوى التأويلي ومدارسه، وحُدِّدت أهم مناهجه ومطالبه، لا سيما منع النساء من السيامة الكهنوتية؛ التي تعتبر من المسائل الرئيسة التي ركزت عليها النسويات المسيحيات بتقديمهن حججاً تحاول الاستناد على أسس لاهوتية لشرعنة سيامة المرأة كاهنةً، علماً أن الأصوات التقليدية المعارضة لهذا المطلب، تختلف بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت. وفي الوقت الذي قد نجد في الكنيسة البروتستانتية «قسيسات»، أعلن الحبر الأعظم، أن قرار الكنيسة الكاثوليكية الذي يفيد باقتصار الكهنوت على الرجال «أبدي»، و«لن يتغير».
ظهر في الدراسات النسوية الغربية مصطلحات جديدة، مثل مصطلح «ثيالوجي» (Thealogy) المُستخدم في الكتابات النسوية للمرة الأولى مع الأمريكية فاليري سايفينغ (Valerie Saiving) (1921-1992) عام 1976، فدرس الكتاب تاريخ وسياقات وإمكانات تعريفه، مقدماً الأفكار التي تعتمد عليها المشتغلات فيه خلال سجالهن مع النظام الأبوي والمنظومة الدينية المسيحية.
جمع الكتاب بين ثلاث نسويات، أسسن لتأويلات جديدة في نقد اللاهوت المسيحي التقليدي، وهن: النسوية الراديكالية ماري دالي (Mary Daly) (1938-2010)، وعالمتا اللاهوت روزماري رادفورد روذر (Rosemary Radford Ruether)، وإليزابيث شوسلر فيورنزا (Fiorenza Elisabeth Schüssler). وفي ختام الدراسات النسوية المسيحية رُصِدت حركة البحوث الأكاديمية الإنجيلية النسوية في القرن العشرين.
أصدرت النسويات في العالمين العربي والإسلامي، أبحاثاً في مجال «الإسلام والجندر»، وتنوعت مقارباتهن وأدواتهن سعياً منهن لإكساب المساواة بين الجنسين قوة وسنداً دينياً. خصص الكتاب ثلاث دراسات لفهم كيفية تفاعل الخطاب النسوي الإسلامي مع حركة الحقوق من داخل الدين نفسه؛ كما تطرق إلى إمامة المرأة في وجهتين: الأولى: المواقف الفقهية، والثانية: التأويلات النسوية الجديدة. وفي سياق الدراسات المقارنة، طُرِحت مسألة الرئاسة الدينية للمقدس، وما يعتريها من تحدياتٍ متقاطعة دينية وثقافية واجتماعية معاصرة.
يقدم الكتاب وجهات نظر نسوية نقدية للأطر التقليدية حول مواقع النساء وفاعليتهن في اليهودية والمسيحية والإسلام، كتبت بأقلام نسائية ولغة نسوية في غالبها، وقد توخت التقدّم في مسار النقاشات ورفع السّجالات، لتبيّن حدود الطموحات المعرفية، فتكشف عن المكتسبات الراهنة، التي تبنّى بعضها الأدوات الدينية نفسها لتأمينها، وحاول البعض الآخر تطوير أدوات أخرى.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسقت العدد؛ ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودها وفريق العمل.
هيئة التحرير
نوفمبر (تشرين الثاني) 2020