الأباتي أنطوان ضو[1]*
النسك والاستحباس، والترهّب والعيش في العراء وعلى العواميد، وأسماء أخرى هي مدارس روحيّة في الكنيسة تُشيرُ إلى الراهب المنفرد عن الناس، والزاهد في الدنيا، الذي يغسل نفسه من الخطيئة، ويقدّمها ذبيحةً لله، من خلال أعمال العبادة والزهد.
النُسّك في الحياة المسيحيّة يقوم، بشكل خاص، على الانقطاع إلى الله ومحبّته، ومحبّة الإنسان، وجميع مخلوقاته، واللجوء الدائم إليه، والاتكال عليه، والزهد بالدنيا وملذّاتها، والتخلّي عن الباطل، والتوبة، والتراحم، والمصالحة، والغفران، والسّلام، والعدالة، والمحبّة.
النّسك هو حركة ملازمة للحياة المسيحيّة، شرقًا وغربًا، عموماً، وفي الكنيسة المارونيّة خصوصاً. والنّساك الموارنة عاشوا الزّهد في الوديان والمغاور والبراري، وعلى التلال وفي الجبال، في المحابس والأديار. وقد أمضوا حياتهم في التعبد والتشفّع والصلاة والصوم والسهر والتقشّف والركوع والمطانيات والتأمّل والقراءة الإلهيّة، وحمْل الصليب، تاركين كل شيء، مجاهدين في اتّباعِ يسوعَ المخلّصِ، لخلاص أنفسهم، وعيش القيم الإنجيليّة ونشرها، وخلاص العالم.
الوادي المقدّس
الوادي المقدّس في لبنان هو وادي قاديشا أي وادي القدّيسين. فلفظة قاديشا السريانيّة تعني القداسة والقدّيسين. ويدعى أيضًا وادي قنّوبين أيّ ( Koinobion)، وهي لفظة يونانيّة تعني الدير أو تجمّع الرهبان أو العيشة الرهبانيّة المشتركة.
والوادي المقدّس في جبل لبنان يمتدّ من الأرز إلى مدينة طرابلس على البحر الأبيض المتوسّط، بطولٍ يقارب أربعين كيلومترًا تقريبًا.
وادي قاديشا، بضفتيه، هو من أجمل وديان العالم: جبال عالية، وادٍ سحيق، طبيعة خلاّبة، صخور شاهقة، ومغاورُ طبيعيّةٌ لا تُحصى.
الوادي المقدّس هو وادي البخور كما قال البطريرك الدويهي: “وكان جبل لبنان والأودية والمغر جميعهم ملآنين من الحبساء والرهبان، حتّى إنّ البطرك يوحنّا الصفراوي الذي من يديه أخذنا الكهنوت، وكان قارب ذلك العصر، كان يقول لنا: إنّ في أيّام الحدود والأعياد كان يعقد دخان البخاخير (المباخر) في تلك الأودية بشبه الضبابة”.
“ولما كان يجيء أحدٌ ويشكو له عن بعض رهبان إن صار قلق أو فتنة بينهم، كان معتاداً أن يقول: يا ولدي لا تؤاخذهم. في أيّامنا، كانت هذه الديورة والأودية محبوبة كلُّها من الرهبان والحبساء. وأعداءُ جنسنا الذين كانوا متفرقين عليهم اجتمعوا كلهم على هؤلاء القلائل الذين فضلوا، فاطلبوا لهم ولا تؤاخذوهم[2]“.
قال يوحنّا مبارك الماروني الكسرواني، في رحلته إلى الأرض المقدّسة وجبل لبنان، سنة 1668: “إنّ هذا الوادي هو فردوسٌ أرضيٌّ أو سماءٌ ترصّعها النجوم، لما فيه من أديار، على مسافة (15) ميلاً. فلم أشاهدْ على التلال وفي الوديان إلاّ كنائسَ وأديارًا ومحابسَ يعيش فيها رهبان مار مارون[3]“.
لقد اندهش المرسلون القُدامي بوادي قاديشا كما ذكر المنسنيور ميسلن، إذ قال: “تحوي هذه الجبال مغاور عميقة الغور، كانت في القديم صوامع لعدد كبير من النسّاك المتوحّدين، اختاروا هذه العزلة ليقدّموا الدليل الساطع على توبتهم الصارمة. هي دموع أولئك القدّيسين المكفّرين الذين أطلقوا على هذا النهر اسمه الأبدي “الوادي المقدّس”، نبعه يتفجّر من جبل لبنان (جبل الأرز). إنّ مرأى هذه المغاور، وهذا الوادي، في هذه البريّة الموحشة، ليوحي بانسحاق القلب ندامة، ومحبّة التوبة والتكفير من جهة، ومن جهةٍ أخرى يوحي حنين تلك النفوس الشهوانيّة بالكلفة بما في هذه الدنيا من متعة وافتتان، وتفضيلها أيّامًا عابرة قليلة من الأفراح والملذّات، على أبديّة سعيدة لا انقضاء لها ولا انتهاء!”[4].
فالوادي المقدس اليوم، هو محجّة المصّلين والعابدين ومحبّي النسك الناعم في العالم.
أهل وادي قديشا
ويقول المنسنيور ميسلن في رحلته إلى لبنان، سنة 1848 عن صفات أهل الوادي: “وينعش هذا الواديَ المقدّسَ –مهدَ المارونيّةِ في لبنان– قرى ودساكرُ منتظمة على رؤوس الآكامِ والربى، مستظلةُ الأفياءِ الظليلةِ، تنشرها الأشجارُ الوافرة. والتقينا هناك رجالاً عامري البنية والقوام، على نَبَالة وكِبَرٍ في الحركة والمشية، وعلى هيبةٍ وجلالٍ تتراءى من خلالهما الأخلاق والاستقلالية، والنفس الأبيّة. ورأينا نساء وفتيّاتٍ في وجوهٍ غضةٍ نضيرةٍ، ونظراتٍ لطيفةٍ حنونْ، وحشمةٍ طبيعيّةٍ لا تَكَلُّفَ فيها ولا رياءَ، سليماتِ القلبِ والنيّةِ، هادئاتٍ مطمئناتٍ. ويستطعن إباحةَ ما في نفوسهن، دونما خوفٍ ولا وَجَلْ. ومن قنّوبينَ صعدنا إلى الديمانْ، بعد أن عبرنا نهر قديشا، على جسر كبير، متوقّلين سفحًا حافلاً بالحجارة والحصى، حتى بلغنا مخيّمنا في الديمان، بعد أن عبرنا قبل انسدال الظلام”[5].
جامع التيّارات النسكيّة ومدارسها
بالرغم من وعورة الوادي المقدّس، وصعوبة الوصول إليه، فإنّه قد جذب إليه النسّاك والرهبان من كلّ حدب وصوب. فاختاروا العيش في مغاوره ومناسكه، منقطعين عن العالم، تاركين كلّ شيء. فتبعوا المسيح، وتكرّسوا للصلاة والعبادة والقراءة الإلهيّة والتأمّل والصمت والسهر والصوم والإماتات والحرمان والزهد والفقر، والعمل من أجل الملكوت.
كما جمع الوادي المقدّسُ تراثاتِ الكنائسِ الروحيّةَ والنسكيّةَ والرهبانيّةَ جمعاءْ، ومن بينها التراثُ السرياني والماروني والقبطي والفلسطيني والكبادوكي والأرثوذكسي، وكلّ تراثات النّسك، شرقًا وغربًا.
كان المسيحيّون يعيشون في هذا الوادي، على غرار الجماعة المسيحيّة الأولى، مواظبين على الصلاة وكسْر الخبز وسَمَاع كلام الله، والتأمّل والصوم والسهر. وكان كلّ شيء مشتركًا في ما بينهم. يحبّون الله ويحبّون بعضهم البعض، كما أحبّ المسيح تلاميذه.
ولكن لا بدّ من الإشارة إلى تألّق الوادي بمدارسَ ثلاث: هي مدرسة مار أنطونيوس أبي الرهبان، ومدرسة مار مارون أبي الموارنة، ومدرسة مار باسيليوس الكبير، إلى سائر آباء الروح.
لقد تميّز الموارنة عن كلّ الكنائس بحبّهم للقدّيس أنطونيوس أبِي الرهبان، فقرؤوا سيرته، وسحرَتْهم أعاجيبُه، وتأمّلوا في أقواله ووصاياه وتعاليمه وقوانينه. فشيّدوا على اسمه الأديار والكنائس، طالبين شفاعته. وأخذته رهبانياتهم شفيعة لها وواحدةٌ منها، تسمّت بالرهبنة الأنطونيّة التي أنا منها. وقد كلّفتني أن أنقل تحيّاتِها ومحبّتَها لكم جميعًا.
المكنز الماروني النسكي الرهباني
إذا كان القدّيس أنطونيوس أبُو الرهبان هو المثال الأعلى للرهبان الموارنة وأحبُّهم إليهم، فإنَّ كتابات وقوانين النسّاك والرهبان القدّيسين كانت مُلهِمَةً لهم ودستورًا لحياتهم. لقد قمتُ بتحقيقِ ونشرِ قوانين النسّاك والرهبان الموارنة في مجلّدين:
المجلّد الأوّل يحتوي على:
- رسائل وتعاليم وأقوال القدّيس أنطونيوس لأولاده الرهبان.
- عشرون رسالة من القدّيس أنطونيوس لأولاده الرهبان.
- تعاليم روحاني ووصايا مقدّسة من قول القدّيس العظيم.
- تعاليم لأبينا القدّيس أنطونيوس مرتّبة عشرون فصلاً.
- من قول أنطونيوس إلى رهبان دير النقلون.
- وصايا من قول القدّيس أنبا أنطونيوس.
- من وصايا القدّيس أنبا أنطونيوس.
- مجموع من أقوال وأخبار الرهبان القدّيسين.
- من أجوبة ورسائل وأخبار وأقوال الآباء القدّيسين.
- من كلام القدّيس ماري أفرام.
- من أقوال باسيليوس الكبير.
- من أقوال القدّيس سمعان العامودي.
- مختصر من أخبار الرهبان وأقوالهم.
- من وصايا أنبا أشعيا وضعها للمبتدئين في الرهبنة.
- من أقوال الشيوخ القدّيسين.
- من بساتين الرهبان.
- مختصر من قوانين مجمع نيقية.
- رسالة القدّيس أبو مقار عن البتوليّة.
- رسالة من قول أبينا القدّيس مار أشعيا للرهبان.
- أقوال القديس بلاّديوس.
- وصيّة تُقرأ على الرهبان عند لباس الإسكيم المقدّس.
والمجلّد الثاني يحتوي على قوانين الرهبانيّة الأنطونيّة المارونيّة في دير طاميش ومار أشعيا:
الفصل الأول: مدخل إلى القوانين
الفصل الثاني: كتاب القديس باسيليوس على الرهبان
الفصل الثالث: مسائل وأجوبة
الفصل الرابع: قوانين النسّاك المنفردين والمجتمعين
الفصل الخامس: قوانين باسيليوس الثلاثة عشر
الفصل السادس: أقوال مار أفرام السرياني
الفصل السابع: قصة مار أنطونيوس الكبير
الفصل الثامن: أعاجيب القديس مار أنطونيوس الكبير
الفصل التاسع: قوانين مار أنطونيوس الكبير
الفصل العاشر: وصايا القديس أنطونيوس الكبير
الفصل الحادي عشر: أقوال الأنبا أشعيا
الفصل الثاني عشر: من تعليم القديس برصنوفيوس
الفصل الثالث عشر: قوانين القديس باخوميوس
الحبساء في الوادي المقدس
الحبساء الذين عاشوا في مغاورِ وصوامعِ وأديارِ الوادي المقدّس، أقاموا فيه الملكوت الإلهي، من خلال محبّتهم الكاملة لله، وعيشِ الفضائل الإنجيليّة، سعيًا وراء الكمال. فجمعوا بين الوادي والسماء، وصار، عن حقٍّ وحقيقة، واديَ القداسة والقدّيسين. وكان منهم العديدُ من الحبساء القدّيسين الذين نذكِّر ببعضهم، وبكلّ اختصار:
الرهبان الموارنة
قال إيرونيموس الدنديني عن الرهبان الموارنة: “ليس لهؤلاء الرهبان طرائق أو قوانين خاصّة تميّزهم عن غيرهم كباقي الجمعيّات الرهبانيّة، بل يسيرون كلّهم على خطّةٍ واحدة.
أمّا أنا فأعلم علم اليقين بأنّ هؤلاء الرهبان همّ من بقايا أولئك النسّاك والحبساء الذين عطروا براري سورية وفلسطين بروائح قداستهم. كثيرون من العلماء من جهابذة أهل النظر قد كتبوا عنهم وشهاداتهم هي عندي أفضل ما نستند إليه.
أوّلاً محلّ سكناهم: فلا يقطنون السهول الجميلة ولا قسم الروابي ذات المناظر الساحرة ولا المدن العامرة. ولا الأماكن التي يكثر اجتماع النّاس فيها والتردّد إليها بل يقطنون الأماكن الخفيّة منقطعين عن كلّ علاقة مع أهل العالم بل مغاور وكهوفًا هي أحرى بزرب الحيوان من أن يُقيم فيها إنسان. لباسهم: ليس عندهم من الأزياء ما عند غيرهم من الجمعيّات الرهبانيّة. فهم يتستّرون بلباس حقير من شعر الماعز ينزل من الأكتاف إلى القدمين وتحته القميص وهو أخشن من اللباس الخارجي. يسترون رؤوسهم بقلنسوة سوداء تحجب أعينهم فلا يرون إلاّ أمامهم فقط.
معيشهم، يقتاتون بما تنبته طبيعة الأرض من ذاتها أي الأعشاب والبقول. لا يذوقون اللحم حتّى في إبّان المرض وخطر الموت. يشربون الخمر قليلاً وفي النادر عند اللزوم.
ليس لهؤلاء الرهبان قوانين أو قواعد خاصّة مكتتبة يجب على كلّ فرد حفظها كغيرهم من الجماعات الذين تعهّدوا الحياة المشتركة بينهم. ولا يتقيّدون بالنذور الرهبانيّة الثلاثة أي الفقر والعفّة والطاعة بنوعٍ صريح. إنّما عند قبول الطالب في الدير، أو قبول نذره يتلو عليه أحد الرهبان ما يتعلّق به، منبّهًا إيّاه بوجوب القناعة في معيشته، وملقيًا عليه بعض النصائح. فهذه التنبيهات والنصائح تحدث في قلب الطالب تأثيرًا شديداً، وهي وحدها كافية له ليحيا حياةً ملائكيّة بالطهارة والعفاف.
لم يسمع عن هؤلاء العباد قط ما شوّه حسن سمعتهم. ولم تنتشر لهم في الناس قالةٌ سيئة. وهم يجتالون من هنا إلى هناك تارةً منفردين وطورًا مجتمعين. ويقيمون في أكثر الأوقات خارج أديارهم.
وللراهب الماروني أملاك خاصّة به ونقود يمكنه أن يوصي بها كما يشاء عند ساعة وفاته. وما ظهر لي من أمرهم فاستنكرته، هو أنّ الراهب إذا أبى الإقامة في دير ينتقل إلى ديرٍ آخر دون أن يستأذن رئيسه. وأسوةً بالنسّاك والحبساء الأقدمين يلقّبون رؤساءهم بالأب أو الأنبا.
محظور عليهم قبول المناصب الكنسيّة والخدم الروحيّة، أي خدمة النفوس والوعظ والإرشاد واستماع الاعترافات خارجًا عن أديارهم.
إنّ اتخاذهم اسم أنطونيوس لقبًا لرهبانيّتهم هو كافٍ ليترك أشدّ تأثير في نفوس من يفتّشون عن سبب تسميتهم بهذا الاسم. لأنّ القدّيس أنطونيوس لم يؤسّس جمعيّة رهبانيّة تعيش عيشة مشتركة، بل قضى حياته متوحِّدًا ناسكًا في براري مصر متّخذًا وظيفة أب لمن ينهجون نهجه ويقتدون بسيرته. إذًا، بكلّ صواب يمكننا القول: إنّ الطريقة الأصليّة للحياة الرهبانيّة هي الطريقة التي يسير بموجبها الرهبان اللبنانيّون اليوم، الذين يلقّبون بالرهبان الأنطونيّين.
يتوّهم الكثيرون أنّ الحالة الفقريّة التي بلغوا إليها بسبب ظلم الحكّام اضطرّتهم إلى الشغل وحرث الأراضي. ولكن ممّا لا ريب فيه أنّ الشغل هو من أهمّ قوانين جمعيّتهم أسوةً بغيرهم من الحبساء والنسّاك الذين كانوا يقضون معظم أوقاتهم في الأعمال اليدويّة كحراثة الأرض وحياكة الأقمشة وما شاكل ذلك تجنبًا للكسل والبطالة. وقهرًا للجسد. ولكي يأكلوا خبزهم بعرق جبينهم وكدّ أيديهم.
أمّا أمر الضيافة فخلة عرفوا بها. يخفّون للمعروف، يتبارون بإكرام الضيوف، ولاسيّما في دير قنّوبين حيث موائد الطعام مبسوطة في كلّ أيّام السنة لجميع الناس دون استثناء، لا لأبناء ملتهم فقط بل لجميع المسيحيّين على اختلاف مذاهبهم، حتّى المسلمين وغيرهم ممّن يقصدونهم. فيقُدم لهم الطعام مدّة إقامتهم. وهذا ما يُسبِّب لهم النفقات الكثيرة.
ولا يخلو هذا الدير يوميًّا بصفة كونه مركزًا بطريركيًّا من الزوّار أو الضيوف أو أصحاب المصالح أو المتفرّجين”[6].
يقول الرحّالة الفرنسي دي لاكروا عن الرهبان الموارنة حوالي سنة 1677: “يتبع الرهبان الموارنة قانون حبساء مار أنطونيوس، ويلبسون ثوبه، وهو عباءة من صوف غامق بدون قميص، وزنّار من جلد أسود، وفوقها جبّة بأكمام واسعة مصنوعة من شعر الماعز، رماديّة اللون مع إسكيم أسود. يسيرون حفاة الأقدام وبيدهم عصا معقوفة، في رأسها بشكل حرف T. لا يأكلون اللحم أبدًا. ويحافظون على الأصوام والقطاعة مثل رهبان الروم، وينامون على حصيرة من قش أو من أوراق القصب. ينهضون في نصف الليل للصلاة، ويحافظون على الصمت بصورة شبه دائمة.
قديمًا، كان للرهبنة أربعون ديرًا في جبل لبنان، معظمها اليوم متهدّم، كانت مبنيّة على الصخور المعلّقة التي يصعب الوصول إليها، لدرجة أنّ ذلك يبدو مستحيلاً لو لم تشاهدَ آثارها. يتمّ الصعود إليها بواسطة أدراج من ثلاثين قدمًا، وعلى جسور من خشب، من خلال فجوات محفورة في الصخر، مثل دير مار شليطا حيث أقام القدّيس الكسيس سبع سنوات، ودير القدّيس هيلاريون، الذي هو اليوم دير الابتداء، بسبب ضخامته وملاءمة الأراضي الزراعيّة والكروم والجنائن بين الصخور، التي تؤمِّن معيشة هؤلاء الرهبان القدّيسين.
ويتابع دي لاكروا قوله: “دير قنّوبين حيث يُقيم البطريرك محصور في صحراء مخيفة. وهو، مثل سائر الأديار، منحوت كلّه في صخر، وهو مكرّس على اسم سيّدة البشارة. ويُقال: بأنّه في هذا الدير لبست القدّيسة مارينا الثوب الرهباني”[7].
دير سيّدة قنّوبين
دير سيّدة قنّوبين هو من أقدم أديار الوادي المقدّس، نجهل تاريخ بنائه، على الرغم من أن بعض الروايات تنسب تشييده إلى الإمبراطور ثيودوسيوس، أو ثيودوسيوس الأنطاكي، أو تيودوسيوس الحبيس. قيل إنّ تشييده قد تمّ سنة 1013. ويذكر البطريرك الدويهي أنّه، في سنة 1302، قد أصلح الأب مخايل الحدثي رئيس الدير الكنيسة، وأقام فاصلاً بين الرجال والنساء.
بعد أكثر من خمسة قرون على إقامة البطاركة الموارنة في بلاد جبيل والبترون، انتقل البطريرك يوحنا الجاجي من دير سيدة إيليج في ميفوق إلى دير سيّدة قنّوبين، سنة 1440، على إثر الاضطهاد والظلم، وبسبب القلّة في بلاد جبيل والبترون.
الدير هو شبه مغارة. إنّه ملجأ ومخبأ أكثر ممّا هو دير. غرفة البطريرك لم تكن تتّسع سوى لشخص واحد. البعض سمّاه دير المئة راهب، وآخر قال: إنّ عدد رهبانه كان أربعين. الأكيد أنّ هذا الدير لم يكن يتّسع لهذه الأعداد. ولكن، بما أنّ اسمه قنّوبين، أي جامع الرهبان، فإنّ النسّاك والرهبان الذين كانوا يعيشون حواليه، كانوا يجتمعون فيه للصلاة.
لجأ الموارنة إلى وادي قنّوبين، نتيجة الظلم والاضطهاد والفقر، ومن جهةٍ أخرى، لأنّ هذا الوادي، المياه كانت متوافرة فيه. من جهةٍ أخرى، هو ممرّ للقوافل من طرابلس وساحلها إلى بلاد الشّام. إذًا هو طريق تجاري مهم.
وكان البطريرك الماروني المُقيم في دير سيّدة قنّوبين يرعى شعبه بالبرّ والقداسة والمحبّة والتضحية، على مثال الراعي الصّالح، وفي الوقت ذاته كان أبا الآباء ورئيس الرؤساء، والمدافع عن كنيسته وشعبه.
عاش البطاركة الموارنة في الوادي المقدّس حياة النسك والزهد والفقر والتجرّد والتقشف، وحمْل صليب الآلام والأوجاع والبكاء. حرموا ذواتهم، حتّى من الضروريّات ليوزّعوا الخيرات على أبنائهم الفقراء بالتواضع المقرون بمخافة الله.
دافعوا عن شعبهم ضدّ الطغاة والظالمين الطامعين بأرضهم، والساعين إلى تهجيرهم وتغييبهم من أرضهم وبلادهم. ولأنّ الشدّة كانت كبيرة، والحصار ضاغطًا على الشعب كلّه، شمّر الموارنة عن سواعدهم، وانصرفوا إلى العمل الشّاق في طحن صخور الوادي وتحوّيلها إلى جلالي يزرعونها ليقتاتوا من ثمارها وخيراتها.
سنة 1388، زار الملك الظاهر برقوق قنّوبين: “ولمّا تدروش الملك الظاهر يُقال: إنّه قدم إلى قرية بشراي شرقي طرابلس، فأقام الشدياق يعقوب ابن أيّوب مقدمًا. وكتب له بذلك صفيحة من نحاس، ثمّ نزل إلى دير قنّوبين فبات هناك، وعجب من سيرة الرهبان. فكتب لهم صفيحة بذلك من نحاس، يكونون معافين، ويكون ديرهم له الرئاسة على ديورة تلك الجهات”[8].
وفي 1739 أثناء ذلك: “وقع شير على قنوبين وخرّب أوضه (غرفه) من أوض المطارين. وفي أول كانون من هذه السنة سلخت زلزلة وسقطت على دير قنّوبين، وقطبت على الأقبية من قدام الفرن مكان الذي يحطون الجرار، إلى الدار الذي قدام الكنيسة. وعلى القول إنها هبطت تلك الأقبية، ومار يوحنّا وغيره من الأوض. وقتل اثنان في الدير، وراح مغل أمانات لناس كثير، لأن البلاء خراب، وقتل دواب كانوا هناك في الإصطبل مع خيل. وحقيقة الخراب ما تحققناه بعد. وصارت الناس تقول: هذا غضب الكنيسة”[9].
قنّوبين على لسان الرحّالة
قنّوبين هو مكانٌ ورمز، حياة وتاريخ، وهو أيضًا موضوعٌ أدهش الرحّالة الذين زاروه وكتبوا عنه. وهنا بعض ما قيل فيه:
“السفير سافاري دي بريف (Savary De Brève ) زار قنّوبين سنة 1605 فوصف غرفة البطريرك قائلاً: “إنّها مؤلّفة من كرسي خشبي وطاولة صغيرة عليها بضعة كتب، وسجّادتين أو ثلاث على الأرض، وهي سريره”.
الفارس دارفيو (D’Arvieux Chevalier ) زار قنّوبين، سنة 1660 فكتب قائلاً: “كان البطريرك مختبئًا في مغارة قريبة، غير معروفة من الجميع، والوصول إليها صعبٌ ومموّه جدًّا. وكان يذهب إليها مع الفجر، ولا يعود منها قبل المساء. وسبب اختبائه هو هروبه من رجال والي طرابلس، الذين كان يرسلهم هذا الوالي، بتواتر، بهدف اختطاف البطريرك والإتيان به لعنده، لأنّه كان متيقّنًا أنّه، عندما يمسكه، يبيع الموارنة آخر ثوب عندهم سوى عصي وخشب، ولكنّهم من ذهب”.
الأب جاك غوجون الفرنسيسكاني، زار لبنان سنة 1668، وزار قنّوبين في طريقه إليها، التقى بالبطريرك في حوقا، حيث كان هذا الإنسان الطيّب في أسفل القرية في أحد كروم خاصّته. التقاه، وتابع سيره إلى قنّوبين. فوصف ما شهد قائلاً: “نزلنا في أدراج لا تُحصى، منحوتة في الصخر. لم تتمكّن أحصنتنا من الانحدار فيها. فشاهدنا دير قنّوبين، عن بُعد (200) خطوة منه، ونصفه محجوب وراء صخر. فدخلناه من تحت حنيّة عرضها (20) خطوة وطولها بين (38) و(40) خطوة، مثّبتة على ثمانية أعمدة تدعم أكثر من نصف الدير. وبعد أن اجتزنا الاصطبلات المعتمة، دخلنا في فناء، في وسطه بئر مياه عذبة. وعلى اليسار، درج حجري من (10) إلى (12) درجة يؤدّي إلى حجرات هؤلاء الرهبان الفقراء. وعلى اليمين توجد الكنيسة المنحوتة في الصخر. وليس فيها من عمل يدوي، سوى السور الذي يدعم القبّة. وعلى يمين الرواق، توجد غرفة لاستضافة الرحّالة. وعلى اليسار غرفة الوكيل. وهنا وهناك عدد من الحجرات الزرّية ينام فيها هؤلاء الرهبان الفقراء، فتستلقي أجسادهم المنهكة في الليل ليستريحوا من التعب في الحقل، طوال النهار. أمّا الجناج الخاص بالبطريرك فقوامه ثلاث حجرات صغيرة محفورة في الصخر، مثل بقيّة الحجرات: الأولى للنوم، والثانية والثالثة لمؤونة الدير. ليس هناك شيءٌ إلاّ ويوحي بالفقر المدقع”[10].
الرّحالة الفرنسي دي لا روك ( De La Roque ) زار الدير سنة 1688 وقال: “رهبان قنّوبين الذين هم بعدد (40)، يقولون: إنّهم ينتمون إلى نظام القدّيس أنطونيوس، كغيرهم من رهبان تلك البلاد، ذلك النظام الذي خلّفه القدّيس هيلاريون. ولكنّهم يتبعون نظام القدّيس باسيليوس.
إنّ عيشهم هو بغاية التقشّف. ويمارسون الضيافة للجميع. وفوق كلّ الخصائص، يتمتّعون ببساطة رائعة تكفي لتحلّ محلّ المزايا الأسمى التي يتمتّعون بها، كالتوحّد والابتعاد عن العالم.
وقالوا لنا أيضًا: إنّ المغائر التي يمكن الوصول إليها، والتي نراها في مرتمى الوادي على ضفتيّ النهر، كان يسكن كلّاً منه حبيس ناسك، تحت طاعة أحد الأديار وإدارته…”.
تحدّث الأب إيرونيموس دنديني القاصد الرسولي إلى الموارنة، عن النّساك في رحلته إلى لبنان سنة 1596، فقال: “إنّي لمتأكّد أنّ هؤلاء النسّاك هم البقية الباقية من أولئك الزهّاد الأقدمين، كانوا يعتزلون النّاس ليقطفوا بأعدادٍ وفيرة، صحارى وجبال سوريا وفلسطين. إنّ موطنهم في هذا الوادي لا يقع في سهولٍ جبليّة، أو سفوح رائعة تشرف على مناظر خلاّبة، ولا في أماكن مكتظّة بالسكّان، بل يتوغّلون في الأماكن الأشدّ عزلة عن النّاس، ويتسلّقون الجبال الأكثر بُعْدًا عن المجتمع، بحيث يعيشون تحت الصخور الناتئة والشامخة، ويقطنون مغاور وكهوفًا هي أقرب إلى أوكار ومرابض الحيوانات منها إلى مساكن البشر”.
دومينكو ماغري المالطي، الذي زار قنوبين سنة 1626، وصف مائدة البطريرك في بعض المناسبات فقال: “ثم قُدّم طعام الغداء للجميع، بكلّ سخاء. ولا غروَ، فإن هذا الدير فندق مفتوح دومًا، يؤمّن المأوى لجميع أجناس الأمم والبدع، في أي وقت كان، حتى لا ينقضي يوم إلا ويجلس إلى المائدة خمسون شخصًا على الأقّل. غير أنه، في هذا اليوم فقط. يوزّع اللحم على الضيوف في امتياز خاص، لأنه في سائر الأزمنة لا يجوز إدخال اللحم. وحتى في هذه المناسبة تُذبح الحيوانات خارج الدير. وقد تناول البطريرك مع سائر الأساقفة والرهبان طعام الغداء على مائدة منفردة. ولمّا شرب نخب البابا، انتصب الجميع وقوفًا حتى البطريرك نفسه، ونزعوا قبعاتهم عن رؤوسهم. وهذه الرتبة يؤدّونها فقط في الكنيسة، عند إنشاد الإنجيل، وعند رفع القربان المقدس”[11].
المنسنيور ميسلن زار قنّوبين سنة 1848، يقول: “قنّوبين هو ديرٌ كبير. وكنيسته منقورة في الصخر، في بطن الجبل. وهي على اسم السيّدة مريم العذراء، التي يتعبد لها الموارنة، بإخلاصٍ ممتاز، تزيّن جدرانها ومذابحها جملة صالحة من لوحات الرسوم الفنيّة، هي هدايا من روما. وقد شاهدت في كنائس عديدة في لبنان آنية قدسيّة أرسلها إليها الباباوات”[12].
يقول أنطونيو ديل كاستيلو الرحّالة الإسباني، سنة 1626، عن قنّوبين ما يلي: “المكان الذي يُقيم فيه البطريرك، في كرسيّه، يُسمَّى القدّيسة مريم سيّدة قنّوبين، في الجبل. وفي هذا الجبل يوجد أديار كثيرة للرهبان الذين يعيشون بموجب قوانين مار أنطونيوس، في حياة قشفة وأعمال التوبة، في أعالي هذا الجبل”[13].
يُقيم البطريرك في دير اسمه قنوبين، يقع في أوحش قفر من جبل لبنان. وكنيسته مكرّسة على اسم بشارة العذراء. وهو الدير الذي ترهّبت فيه القديسة مارينا. مدخوله حوالي (20) ألف ليرة من منتوجات الخمر والقمح والزيت والحرير والمواشي. ويدفع منها حوالي ألف ليرة ضريبة لباشا طرابلس، الذي يحكم الآن كل جبل لبنان. يقيم مع هذا البطريرك الصالح (25) شخصًا. منهم سبعة أو ثمانية رهبان يعيشون على مائدته، كما يعيل عددًا من المصابين بمرض البرص، في مستشفى لهم بالقرب من الدير، حيث يزورهم ويخدمهم بنفسه. والبطريرك والأساقفة والرهبان لا يأكلون اللحم، إذ لم يفسح لهم بذلك الكرسي الروماني المقدس. بل يقتاتون من البيض والألبان ومختلف الأعشاب البريّة، يطبخونها مع الحليب ويحفظونها في جلود الماعز ليأكلوها خارج زمن الصوم، الذي يمتنعون فيه عن أكل الألبان. أما في الصوم فغذاؤهم السمك، والخضار والفواكه والصلطة والزيتون والعنب والعسل وغيرها. وعندهم أربعة أزمنة للصوم هي: الميلاد، والفصح، وعيد القديسين بطرس وبولس، وعيد انتقال العذراء. ينامون على الأرض، على ورق القصب. ويأكلون الخبز المجبول بالرماد. يلبس البطريرك والأساقفة مثل بعضهم البعض، كما تمثّل ذلك هذه الرسوم. والرهبان لا يلبسون قمصانًا ولا سراويل، بل عبائتين سوداوين مصنوعتين من شعر الماعز، مع إسكيم أسود، كما هو ظاهر في الرسم. وكذلك لباس الراهبات، إنّما يستعملن الأقمشة. وبدلاً من الإسكيم يغطّين رؤوسهنّ بوشاح أسود، وكلّهم يعيشون عيشة بسيطة ممدوحة، على غاية من التقشف”.
أوجين روجيه الراهب الفرنسيسكاني الفرنسي من رهبان القدس، جاء إلى لبنان في النصف الأوّل من القرن السّابع عشر، وأقام فيه خمس سنوات، منها سنة كاملة في حوقا. تعرّف على الموارنة وعاداتهم وعلى البطريرك جرجس عميرة، والمطارنة والرهبان كما كان على علاقة حميمة بالأمير فخر الدّين الثاني. طبع كتابه طبعة ثانية 1664، وهو يتحدّث فيه عن لبنان والموارنة في فصلين الرابع والخامس بحيث، يقول: يُقيم البطريرك في دير اسمه قنّوبين، يقع في أوحش قفر من جبل لبنان. وكنيسته مكرّسة على اسم بشارة العذراء. وهو الدير الذي ترهّبت فيه القدّيسة مارينا. مدخوله حوالي (20) ألف ليرة من منتوجات الخمر والقمح والزيت والحرير والمواشي، ويدفع منها حوالي ألف ليرة ضريبة لباشا طرابلس الذي يحكم الآن كلّ جبل لبنان.
يُقيم مع هذا البطريرك الصّالح (25) شخصًا، منهم سبعة أو ثمانية رهبان يعيشون على مائدته، كما يُعيل عددًا من المصابين بمرض البرص في مستشفى لهم بالقرب من الدير، حيث يزورهم ويخدمهم بنفسه. والبطريرك والأساقفة والرهبان لا يأكلون اللحم إذا لم يُفسح لهم بذلك الكرسي الروماني المقدّس. بل يقتاتون من البيض والألبان ومختلف الأعشاب البريّة، يطبخونها مع الحليب ويحفظونها في جلود الماعز ليأكلوها خارج زمن الصوم الذي يمتنعون فيه عن أكل الألبان. أمّا في الصوم فغذاؤهم السمك، والخضار والفواكه والصلطة والزيتون والعنب والعسل وغيرها. وعندهم أربعة أزمنة للصوم، هي: الميلاد، الفصح، وعيد القدّيسين بطرس وبولس، وعيد انتقال العذراء. ينامون على الأرض على ورق القصب. ويأكلون الخبز المجبول بالرماد. يلبس البطريرك والأساقفة مثل بعضهم البعض، كما تمثّل ذلك هذه الرسوم. والرهبان لا يلبسون قمصانًا ولا سراويل، بل عباءتين سوداوين مصنوعتين من شعر الماعز، مع أسكيم أسود، كما هو ظاهر في الرسم. وكذلك لباس الراهبات، إنّما يستعملن الأقمشة، وبدلاً من الإسكيم يغطّين رؤوسهنَّ بوشاح أسود، وكلّهم يعيشون عيشة بسيطة ممدوحة، على غاية من التقشّف.
أمّا أديارهم فهي عادة في أماكن مقفرة، قائمة بين صخور هائلة، حتّى كأنّ الطبيعة لذّ لها أن تضع هذه الأماكن الموحشة والمساعِدة على التوبة. إنّها رائعة، ومجرّد النظر إليها كافٍ للتحريض على العبادة واحتقار العالم. وبعضها يظهر وكأنّه معلّق، خاصّةً دير مار شليطا حيث قضى القدّيس الكسيس سبع سنوات؛ والعبور إليه على غاية من الصعوبة، ولكي تصل إليه يجب أن تمشي صعودًا مدى (25) قدمًا. أمّا بقيّة الأديار فمداخلها شبيهة بالمغاور، وصعبة للغاية. والدير الذي يُقيم فيه رهباننا، حيث أقمت معهم سنة كاملة، يُدعى دير السيّدة مريم في حوقا، مخيف جدًّا، بحيث يرتجف أشجع الشجعان من محاولة الدخول إليه. فبعد أن تقطع (400) درجة، معظمها منقور في الصخر، عليك أن تمرّ فوق شجرة جعلتها الطبيعة، أو بالأحرى الله، تنبت في قلب الصخر، لتسهِّل المرور. وحتّى تستقي الماء من النهر المتدفّق في الأسفل، عليك أن تنزل (400) درجة أخرى. والبعض من هذه الأديار والمحابس معلَّق في الصخور الشاهقة، بحيث لو لم تشاهد فيها بقايا الكنائس والبناء، لما كنت تصدِّق أنّ تلك الأمكنة يقطنها بشر؛ لأنّه لا يمكن تمييزها إلاّ بواسطة الناضور، ولا يمكن أن يُقيم فيها سوى الطيور. وبالواقع، هناك تشاهد أعشاش النسور والطيور الجارحة. والدير الذي أقامه القدّيس هيلاريون إكرامًا للقدّيس أنطونيوس، مدخله مخيف أيضًا؛ ولكنّنا نرى بعده جنائن وكرومًا وعنبًا ورهبانًا مع رئيس قدّيس يعيشون في هذا المكان، حيث يقضي الرهبان سنوات الابتداء. وبعد إبرازهم النذور ينتقلون للإقامة في المحابس الأخرى، صحبة النمور والدببة والحيوانات الكاسرة، بدلاً من البشر.
الراهب الكبوشي الفرنسي سيلفستر (Sylvestre ou Saint – Aignan) الذي أمضى في الشرق أربعين سنةً (1630–1670)، متنقلاً في مهمّات رسوليّة عدّة، تعرّف خلالها على الموارنة وكتب عن بطاركتهم وأساقفتهم ورهبانهم وراهباتهم ورجالهم ونسائهم. نشرت رحلته بعد وفاته سنة 1671 بسنةٍ واحدة.
بطريرك لبنان
إنّه مؤثّر للغاية أن نرى هذا الحبر الجليل، الذي يحمل وراءه (76) عامًا، يحضر الفروض الدينيّة ليل نهار، ويرتّل التسابيح لله دون أن يقعد على كرسيه، بل واقفًا متوكئًا على عكّاز بشكل T نظير نفسه بقيّة الرهبان.
هذا العمل المقدّس والتزامات مهمّته لا تمنعه من أن ينصرف أيضًا إلى الأعمال اليدويّة ليبني مرؤوسيه بمثله للهرب من البطالة، ينبوع كلّ الرذائل، وليدفع للأتراك الضرائب التي يهينونه بها، بنوعٍ أنّ حياته كلّها هي موعظة مستمرّة، ليس فقط لرهبانه، بل لرؤساء الأساقفة والأساقفة العائشين بالقرب منه باستمرار.
وإذا أحببتم أن تعرفوا مسكنه، فأقول لكم إنّ عنده مسكنين: الأوّل، في دير قنّوبين حيث يُقيم عادة في قلايّة صغيرة بقياس ثمانية أقدام عرضًا واثنتي عشر قدمًا طولاً، فيها فراشه على خشبة بسيطة وفسحة يمدّ فوقها حصيرة على الأرض.
أمّا مسكنه الآخر الذي يأوي إليه أحيانًا، لا للترويح عن النفس بل هربًا من اضطهاد الأتراك، فهو في بريّة تبعد مسافة يومين وراء جبال مخيفة جدًّا، حيث يُقيم في إحدى حنايا كنيسة صغيرة عرضها خمس أقدام وطولها ستّ أو سبع؛ جدرانها من خشب مجبول بالطين، مدخلها واطٍ جدًّا، ونوافذها بالكاد يدخل منها النور، ولا بدّ من التحدّث عن طريقة أكله.
ليس لديه أحد يقوم بخدمته إلاّ عندما يستقبل شخصًا يقوم بزيارته؛ فأوّل راهب يلتقيه يمدّ بساطًا أو خوصة للقعود فوقها. وليس هناك سوى عشّي واحد لمئة راهب في هذا الدير، هو لا يخصّص هذا الحبر القدّيس بشيء غير اعتيادي؛ طاولته رائعة وهي مرضية وعظيمة بنظر الملائكة بقدر ما هي حقيرة ومبتذلة في عين أهل العالم. يأكل على الأرض على قطعة مستديرة من الجلد هي بمنزلة شرشف، وبدل الصحون الفضيّة المليئة بالحجال وديوك الحبش، يقدّمون له ثلاثة أو أربعة صحون من الفخّار الحقير والبسيط في أحدها بعض الأعشاب النيئة أو المسلوقة، وفي الثاني لبن حليب، وفي الثالث شيء من الخضار، وفي الرابع بعض حبّات من الزيتون أو اللفت المكبوس. المشروب العادي هو الماء؛ وهو بالرغم من تقشّفه وصرامته على ذاته، نراه يستقبل زوّاره جيّدًا ويسعى فوق قدرته ليُحسن ضيافتهم.
وإذا أعجبنا بهذه الفضائل الخارجيّة، فهناك أكثر من سبب للوقوف بتهيّبٍ أمام الفضائل الباطنيّة التي تُفيض من نفس هذا الرجل القدّيس. ويحلو لنا أن نحكم على ذلك مما نشاهده في تلاميذه، الذين نقرأ في حياتهم الممارسة الأمينة لتعاليم ذلك الذي قال لنا: “تعلّموا منّي إنّي وديع ومتواضع القلب”. وهو ما يتعلّمونه من سلوك رعاتهم، وخصوصاً بطريركهم الذي يتدفّق عذوبة وصلاحًا ومحبّة ولطفًا، دون بهرجة أو كبرياء، بل بروح الرسل الحقيقيّين.
وإنّي أعتبر الصدقات التي يوزّعها في مقامه كأعجوبة. مقامه هذا هو معبر متواصل لكلّ النّاس من كلّ الأمم: أتراك، مغاربة، عرب، يونان، موارنة؛ بالإضافة إلى رحّالتنا ورهباننا. الباب مفتوح بوجه الجميع: ومن المحال أن تعرف كيف أن دخله اليسير يكفي للقيام بكلّ هذه الأعمال الكبيرة من أعمال المحبّة.
دير مار اليشاع
دير مار اليشاع هو من الأديار القديمة في الوادي المقدّس. حلّت به نكبات الزمان، إلى أن كانت سنة 1533، بحيث “اهتمّ الرّاهب (القس) جرجس من بيت حرواص، من قرية عرجز، في الزاوية، بعمارة دير مار اليشاع وتوسّعه. وكان المقدّم عبدالمنعم حنا معضدًا له، وكان البنّاء المعلم براهيم ابن عم الخوري موسى الحصروني، وانحسب أجرة الفعالة ثلاثة آلاف وسبعماية وخمسين درهم، غير الكلفة. والذين اشتغلوا لأجل الحسنة، فيكون قدره آخر. وكان الراهب جرجس المذكور لاوي وغيور. فانسام في ما بعد مطرانًا، وأخذ السكنة في الدير المذكور. وكانت رفقته بالنسك والتعب والشوتفة، ببنيان هذا الدير المقدس الحاجة سارة، الله يرحم اثنينهما”[14]. ولمّا صار مطرانًا على بشرّي، حوّله إلى مركز للمطرانيّة.
وهبه البطريرك جرجس عميره (1633–1644) إلى الرهبان الكرمليّين، فأقاموا فيه حوالي ستّين سنةً. كانوا يصعدون منه إلى مدينة بشرّي، كلّ أحدٍ وعيد، لكي يقيموا الذبيحة الإلهيّة ويعلّموا الأولاد.
أقام فيه الناسك الفرنسي فرنسوا دي شاسطويل، سنة 1643، مدّة ستّة أشهر، قبل مماته ليلة عيد العنصرة، من سنة 1644، بعدما استحبس في دير سيّدة حوقا، ومارت موره في إهدن، ومار سركيس وباخوس إهدن حوالي عشر سنوات.
سنة 1696، سلّم أهالي بشرّي دير مار اليشاع إلى الرهبان اللبنانيّين. وكان أول دير لهم، بعد وجودهم في مرت مورا في إهدن[15]. كان الدير حقيرًا جدًّا. وكانت كنيسته تحت الصخر الكبير. عمّرته الرهبنة وصرفت على بنائه (5360) قرشًا.
بعد تسلّمه، فتحت الرهبنة فيه مدرسة لتعليم اللغتين العربيّة والسريانيّة. وفيه كتب المطران جرمانوس فرحات والكثير من مؤلّفاته من بينها: “بحث المطالب وحثّ الطالب” على تعلّم اللغة العربيّة”، وغيره من الكتب.
سنة 1739، احترق الدير فكتب الأب توما اللبودي يقول: “سنة 1739 احترق جانب من دير مار اليشع، وذلك هكذا: إن أحد الأجراء كان نائمًا في العلية التي منها يدخلون إلى ممشى مار أنطونيوس. فحين نام، ترك سراجه معلقًا ومضويًا. فنفض السراج صدفة. وحكم أن انوجد تحت السراج صندوقة داخلها كتب وأوراق لأولاد الكتاب. فشعلت الأوراق والكتب والتهب الحاصل الذي، على حدّ الصندوقة، واضطرمت النيران بهذا المقدار. ولم يحسّ أحد لأنّه كان، وقتئذٍ، رقدة الرهبان. فمن زود ضجيج النيران استحسوا الرهبان الذين كانوا راقدين في تلك المماشي، ونهضوا. وما أراك الله مكروهًا، وبرحمة الله تعالى على الجميع ما سايل أحد من الرهبان. فانطرح الصوت على بشراي، فأتوا وأطفوا الممكن إطفاءة. والنتيجة الذي احترق من الدير القلاية الكبيرة التي جنب الرواقة الجائزة للضيوف، والرواقة التي في رأس الدرج، على حدها، والقلالي التابعة للعلية، وقلالي صف مار أنطونيوس. والنحل الذي على الظهر. النتيجة من نصف الممشى الذي قدام كنيسة مار إليشع إلى مار أنطونيوس، من دون إصطبل البقر التحتاني، ما سايل، والمحاصيل والحصل الذي فوق الفرن، والمعاجن والكراسي، الجميع احترق. وعلى القول إن الشيارة (الصخور) ابيضّت من قوة النار، لأن كلس كثير منها، وما قدروا يشيلوا شيئًا من تلك المواضع. لأن كان جانب من المغل يحز يحرز هناك. وربما الخسارة تلازم ألف غرش (ذهبًا) والعمار وحده أسود”[16].
مجيء الرهبان الفرنج إلى الوادي
وفي سنة 1632 “وفي دولة الأمير فخر الدين وحكم الشيخ أبو صافي ابن الخازن، تملكوا النصارى في جبة بشري، وكثيرين اتّخذوا سيرة النسك، وتعمّرت الكنايس والديورة، وقصدوها النصارى من داخل البحر. فإنّ الرهبان الفرنج أخذوا السكنة في دير مار يعقوب الحباش في قرية إهدن. والكبوشيّة في دير مار قبريان إهدن، ودير مار توما حصرون. والرهبان الكرملتانية بدير مرته موره – إهدن، وبدير مار اليشع بشرّي، وكذلك بعض حبساء”[17].
وفي السنة ذاتها “كان دخول رهبان الفرنج في جبل لبنان، والرهبان السيكولنتيه أنعم عليهم السيد البطريرك في دير مار يعقوب الحباش، في قرية إهدن، برضا الأسقف جرجس ورضا أهل الضيعة، وأعطى للرهبان الكبوشية دير مار قبريان إهدن ودير مار توما – حصرون، كذلك بعض من الحبساء”[18].
سنة 1633، “جاؤوا رهبان الكرمل إلى جبّة بشرّي، فأخذوا السكنة أولاً بدير مار اليشاع بشرّي، ثمّ انتقلوا إلى دير مرت موره – إهدن، ثمّ عاودوا إلى مار اليشاع”[19].
فرنسوا دي شسطويل
يقول البطريرك الدويهي: إنّه في سنة 1644 “كانت وفاة الحبيس فرنسيس، الفرنساوي الجنس من بيت جلاوب، من مدينة آس. فهذا زهد في الدنيا وترك استادية فسطويل. وفي سنة 1632، جاء إلى جبل لبنان واستحبس، أوّلاً، في سيّدة حوقا، ثمّ انتقل إلى إهدن، وحبس ذاته تحت دير مار يعقوب الحباش. وكان القس الياس يكلّف عليه. وانتقل إلى دير مار سركيس راس النهر، لعند الأسقف جرجس بن عميره. وبعد منه تخلّف الأسقف الياس وسكن بدير مار سركيس، وثبّت عنده حتّى الأسقف أخذه معه. ولأنّ الأسقف خرج من الدير وعاد إلى الضيعة، انتقل الحبيس إلى دير مار اليشاع بشرّي ثَبُتَ هناك مدّة يسيرة من الزمان ثمّ سلّم روحه بيد الخالق في 15 من أيّار (مايو) ليلة العنصرة. فبلغ أجلّ المراتب في الورع والصوم والسهر وتلاوة الكتب وفي تجريد العالم والضبط في المحبسة والهوس في الإلهيّات، حتّى أنْ صدرت منه معجزاتٍ، وسبق أنّ أخبر عن المزمعات”[20].
حبيس فرنسي في لبنان
أفرد المنسنيور ميسْلِن فصلاً في رحلته إلى لبنان وسوريا عن الحبيس دي شاسطويل نقطف منه هذه الفقرات: “وكان في صومعته راكعًا غالبًا حاسر الرأس، حافي القدمين. وإذ يكون في غير الصلاة، فهو يقرأ الكتاب المقدّس. ينام قليلاً راقدًا على فراش يساوي الأرص صلابة. ويندر أن يخرج من مغارته. ولا يتكلّم إلاّ مضطرًّا. ونزولاً عند ترجيات الموارنة وإلحاحاتهم، أقام مدرسة لأولادهم الصغار يلقّنهم فيها تعاليم الديانة، جعلها قرب نبع تحت جوزة ظليلة، وكان يحضر تعاليمه أيضًا الشبّان والرجال والكبار. ويتقاطر إليه النّاس من كلّ ناحيةٍ يسترشدونه في جميع الأمور. فتكاثر عليه الزوّار لدرجة اضطرّته أنْ لا يقبل أحدًا ما لم يتعهّدوا له أن يقصرّوا أحاديثهم وأسئلتهم”[21].
وقضى في إهدن أعوامًا طويلة عالم تقيّ حبيس، حمله إلى لبنان حبّه وشغفه بالكتاب المقدّس، ليتضلّع من لغاته الأصليّة. هو فرنسوي دي شسطويل من بلدة أكس، في إقليم بروفانس (فرنسا). أبحر من مرسيليا في 20 تمّوز (يوليو) سنة 1631 إلى إسطنبول، أوّلاً، مرافقًا سفير فرنسا فيها الكونت دي مرشفيل. فقام، بادئ ذي بدء، بجولة في الشرق. حالفه فيها إكرام الجميع الفائق له، واحتفاؤهم الممتاز به، أيّان ذهب وحلّ. وأخيرًا، جاء لبنان وحلّ في إهدن، منزويًا، ومستشيرًا في بعض اللغات المطران جرجس عميرا مطران إهدن العلامة، وصاحب عدّة مؤلّفات، والذي ارتقى إلى المقام البطريركي. ثمّ زار دي شسطويل الأمير فخر الدّين حاكم لبنان (1585–1635)، وبعض الأعيان من الأمراء والمشايخ، والبطريرك والمطارنة، والأرز. ثمّ صرف آخر خادم لازمه إلى ذلك الحين. ووزّع على الفقراء كلّ ما كان له. وذهب فانزوى حبيسًا في صومعة منقورة في الصخر، في دير مار يعقوب بإهدن، حيث كان مستحبسًا أيضًا الخوري الياس، كاهن رعيّة إهدن. واتّخذه دي شستويل مرشدًا له.
وهنا، استسلم لأنواع بليغة من التقشّف، يبعث من حياته الصالحة أمثلة القداسة، حتّى اشتهر اسمه الجديد “القدّيس” في جميع أنحاء لبنان. وعندما بدأ كاتب حياته يدوّن وقائعها، استهلّ كلامه يقول القدّيس يوحنّا إكليماكوس: “هلموا واقتربوا، وتعالوا، يا جميع الذين أهنتم الله وأغضبتموه، واجتمعوا واستمعوا لما كشف الله لي عنه من الآيات المدهشة لتقديس نفسي”.
وكان دي شستويل يصوم ثلاثة أيّام في الأسبوع، ويحرم نفسه على الدوام من الخمر واللحم والسمك. فلا يأكل غير البيوض والألبان، والفاكهة والبقول. ولا يتناول في أيّام صومه –الأربعاء والجمعة، والسبت– إلاّ الخبز والماء. وفي سنيه الأخيرة جعل صومه متواصلاً. وفي بعض الأيّام من صيامه، يأكل فقط ولا يشرب، مكرمًا بعطشه عطش المسيح على الصليب. وكان غالبًا يسهر إلى نصف الليل، إكرامًا لطفولة يسوع التي كان يخصّها بعبادة مخلصة للغاية. وإذ ينتصف الليل، كان يركع عبادةً وتكريمًا لنزاع ابن الله. ثمّ يستغرق مدّة في التأمّل، ويقبّل الأرض قائلاً: “الكلمة صار جسدًا”.
وكان في صومعته راكعًا غالبًا حاسر الرأس، حافي القدمين.
الموارنة في بلاء
على إثر انتخاب البطريرك مخايل الرزي، سنة 1567، قال الدويهي: “وفي حال إقامة البطرك ميخايل إلى الكرسي، وصلت البيارق من طرابلوس إلى قنّوبين. فنهبوا الدير وضبطوا ثياب الكهنوت، وأواني القدّاس، ووضعوا يدهم على سايقة الدير، وعلى وقوفاته وأملاكه. وكان البعض يطلبون ألفين قرش غريمة، بسبب الكنيسة الجديدة، والبعض ألفين آخر فتاوةً، بسبب متخلّفات البطرك الذي توفي. فصار البطرك ميخايل في ديقة (ضيقة) شديدة جدًّا. وما رضاهم إلاّ بعد خصارة كبيرة ومدّةٍ طويلة من الزمان[22]“.
سنة 1636 “فرض الأمير عساف باشا على دير قزحيّا ضرائب باهظة. أمر أبو كرم الرهبان أن يرضوا الحواليه بخمسين قرش. فما رضوا بذلك. وعندها، اشتدّ اللزز (الإلحاح والتوعيد) عليهم، قال لهم: إن الدعوة لم تنقض بأنقص من أربعماية قرش، وإذ لم يذعنوا لشوره، أخذت الحواليه الأسقف بولص وأخيه القسّ سمعان إلى جبيل، موثوقين. فعذّبهم الأمير عساف عذابًا شديد. فميزر الأسقف بولص في الحبل برأسه، حتّى طارت عينه الواحدة، ثم وضع له القصب بين ظوافر يديه، حتى تكرتعت أصابيعه، وربطوا معاريه بالأوتار، والسكمانية تضرب على الأوتار، واستجرّوا منه نحو أربعة آلاف قرش[23]“.
وبعد الغلاء، تبع الوباء الشديد. وعلى الحالتين، شاعت قداسة البطريرك حنّا، فبيّن كرمه في سنين الشحّة، وأمر بنصب كرم درجاتا. فكانت الناس تأكل من مال الكرسي. وعند المساء، يأخذون الزاد لأعيالهم. وفي زمان الوباء، كانوا يأتونه بالمرضى المضروبين، وكان بوضع يده عليهم، كثيرين كانوا مقاربين الموت رجعوا معافين إلى بيوتهم”[24].
وفي هذه السنة في 17 من كانون الآخر (يناير) كانت وفاة الأسقف يونان ابن الصمراني الذي كان حبيسًا بدير قزحيّا.
وفي 1570: “أهالي بيروت وضعوا يدهم على كنيسة الموارنة في بيروت، وهجروها وجعلوها قيصاريًّا”[25].
وفي هذه السنة أيضًا: “نهبوا دير ميفوق وجميع ما وجدوا فيه”. “ومن جور هذا القشلق، خلي دير سيدة ميفوق وأديرة كثيرة غيره، وضياع كثيرة مثل الناووس وحيرونا وبرحليون وادنيت في الجبّة، وضياع في بلاد الشام”[26].
وفي 1572، “توزّع القشلق على إيالات الشّام. وقيل: إنَّهم فرضوا على جبّة بشرّي واحد وعشرين ألف سلطاني، فنهبوا البلاد، وأخذوا سايقته، وضبطوا الوقوفات، واستفك البطريرك ميخائيل الرزي رزق دير قنّوبين، بألفين سلطاني. وملك دير مار سركيس – إهدن فكّته عائلة بيت الدويهي”[27].
وفي 1602، “كبسوا جبّة بشري وأخذوا سائقتها، ونهبوا جميع ما قدروا، لأنّ أهلها كان غالبهم في الساحل في حوالة القزّ”[28].
وفي 1607، كان ضيق عظيم، وهدّت الناس “وتكلف دير قنّوبين مع دير قزحيّا وحوقا نحو ثلاثة آلاف قرش، غير التبن والنبيذ، لأن كان عليهم كل يوم نحو أربعماية قرش”[29].
سنة 1622، “ازداد الغلاء العام، وتحرّكت أسعار الغلاء بزيادة في الثمن. وقصدت الناس الدرا من بلاد الشام والحجاز. والذي ضبط بيعه من الدرا، خاصّة بثغر دمياط، في مدّة ثلاثة شهور، ما يزيد على ستّين ألف أردب خارج عن الذي أبيع من الشعير والحنطة والفول والعدس والرز. ويقول صاحب دوحة الأزهار: إنّ التخمين ما أبيع من الدرا بثغر دمياط (بلغ) ماية وعشرين ألف أردب، وضعف ذلك ما أبيع بثغر رشيد. وأمّا ما أبيع ببولاق والمداين والقرى فلا حصر له. وكلّ ذلك بعد كفاية أهل مصر وقراها، وما يذكرونه لزيادة الثمن. فسبحان المنعم المتفضّل”[30].
سنة 1633، “صارت فتن بين الإسلام، فمسكوا المطارين، ونهبوا الديورة، وشلّحوا الكنايس بجبل لبنان، وصارت خصاير عظيمة. فهرب كثيرين من المطارين”[31].
سنة 1675، هاجمت الحمادية وتوابعهم ضدّ الباشا. ولمّا لم يستطيعوا الردّ عليه، “وثبوا على نصارى بلاد جبيل فنهبوا وحرقوا وقتلوا نحو ثلاثة عشر نفسا، وأضرموا النار في أهل حصرايل، ونهبوا قرى بلاد البترون، في الجرد، وأخذوا سايقة (ماشية) حصرون في الجبّة. فعرض من ذلك للنصارى ضيم عظيم. فتضّعفوا وارتحل منهم ناس إلى المدينة”[32].
خلاصة الأحوال السياسية عند الموارنة، في نهايات القرن السّابع عشر، يرويها البطريرك إسطفان الدويهي (1670–1704) في رسالتين، الأولى إلى البابا إينوشنسيوس الحادي عشر، في 8 أيلول (سبتمبر) 1679، والثانية إلى ملك فرنسا، في 20 آذار (مارس) سنة 1700.
كتب إلى البابا إينوشنسيوس الحادي عشر مهنئًا وشاكيًا أمره قائلاً: “وكنت عزمت على نفسي بالقدوم حتّى أتبارك من قدسكم وأهنّي غبطتكم بالدرجة السامية والسلطنة العالية، لكن ما قدّر الله من كثرة الضنك والاضطهاد الحادث على شعبكم الماروني، وخاصّةً في هذه السنوات الثلاث رأوا من المِحَن والمشقّات ما لم يره شعب إسرائيل من الفراعنة. فإنَّ ضياعاً كثيرة خلت، وبعض ديورة احترقت، والكنائس انهجرت، وتقتَّل شعبٌ كثير، والباقي تفرّقوا بين الأمم الغريبة، من تغيير الحكّام وفسادتهم.
ثمّ دخلت هذه السنة بالجراد والزحاف حتّى غطّوا وجه الفلك والأرض. ثمّ تبعهم القحط، حتّى زادت الأسعار خمسة أضعاف عمّا كانت أوّلاً. لكن أحكام الباري غير مدروكة ومهما يجينا من جانبه مقبول على الراس والعين”[33].
وفي رسالته إلى ملك فرنسا يقول: “إنّ أنا وطائفتنا المارونيّة الكائنين بالجبّة، في جبل لبنان، عبيدكم وداعين لجنابكم، على مرّ الأزمنة والأيّام، من مدّة دهور عديدة وأعوام مديدة، تحت عبوديّة الإسلام وجورهم، الذي في عصرنا هذا، قد بلغ بلوغًا لا حدَّ له ولا منتهى، حتّى إنّهم صاروا يستوفوا المال والظلم من الكهنة والرهبان، من الرجال والنسوان واليتامى والأرامل، ومن الأولاد الذين لم يُدركوا السنّ وغيرهم. وذلك من بعد أصناف مختلفة من العذابات.
وبعد حبس الرجال والأولاد والنسوان اللواتي صاروا يعلّقوهنَّ على السجر في أبزازهنَّ، كما رأينا بأعيننا، وحريق قلوبنا، شيئًا لا صار له مثيل ولا انسمع إلى يومنا هذا، حتّى إنّ جميع الأماكن والقرى التي في البلد المذكور خرّبت بالكليّة، وسكّانه تشتّتوا وتبدّدوا في بلدان بعيدة وأمم كفرة وغريبة، عادمين كلّ رئاسة وسياسة روحانيّة. ولم كفاهم يظلموا الشعب فقط بل مدّوا أيديهم على أقنومنا وإلى مطاريننا، وبهدلونا بسواة الرعيّة. وهلقدر عاملونا، حتّى مرارًا كثيرة، التزمنا نلبس طراز العاميّة، ونهرب من أمامهم، ونسكن في الأودية والمغاير، وفي الشقفان والجبال، تحت جور الأزمنة والأيّام. ولو أنّنا انطعنَّا في العمر لكيما نخلص من أيديهم الظالمة. ولسبب أنّ ما عاد لنا جلادة على ذلك لانهزمنا في أماكن غريبة وتركنا كرسيّنا. ولم يكن لنا أحد نشكي له قهرنا، ولا جناح لنطير بها إلاّ جناحكم، أيُّها السّلطان الأجلّ والأعلى”[34].
[1]* أمين عام اللجنة الأسقفية للحوار الإسلامي المسيحي في لبنان.
[2]– البطريرك إسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، نشره الأباتي بطرس فهد، دار لحد خاطر، بيروت، بدون تأريخ، ص415–416.
[3]– الأب إغناطيوس سعادة، لبنان في كتابات الرحّالة، منشورات الرسل، يونيو (حزيران) 2008، ص201.
[4]– رحلة المنسنيور ميسلن إلى لبنان وسوريا، ترجمة الأب إغناطيوس طنّوس الخوري، السنابل 1960، ص601-602.
[5]– رحلة ميسلن، ص603.
[6]– رحلة دنديني، ص55–58.
[7]– الأب إغناطيوس سعادة، المرجع ذاته، ص243–244.
[8]– الدويهي، الأزمنة، ص328.
[9]– مجموعة اللبودي، ص319–320.
[10]– الأب إغناطيوس سعادة، المرجع ذاته، ص227.
[11]– الأب إغناطيوس سعادة، المرجع ذاته، ص177.
[12]– ميسلن، ص594–595.
[13]– سعادة، المرجع ذاته، ص187.
[14]– البطريرك الدويهي، الأزمنة، ص411.
[15]– الأبّاتي بطرس فهد، دير مار اليشاع القديم والحديث، 1995، ص35–36.
[16]– مجموعة اللبّودي، الكسليك 1988، ص319.
[17]– البطريرك الدويهي، الأزمنة، ص497–498.
[18]– البطريرك الدويهي، المرجع ذاته، ص501.
[19]– البطريرك الدويهي، الأزمنة، ص507.
[20]– الدويهي، الأزمنة، ص527–528.
[21]– رحلة المنسنيور ميسْلِن، ص580–581.
[22]– الدويهي، الأزمنة، ص438.
[23]– السابق، ص516–517.
[24]– نفسه، ص438.
[25]– نفسه، ص238.
[26] نفسه، ص439.
[27]– نفسه، ص439.
[28]– نفسه، ص455–456.
[29]– نفسه، ص460.
[30]– نفسه، ص486–487.
[31]– نفسه، ص506.
[32]– نفسه، ص561.
[33]– المطران بطرس شبلي، ترجمة: أبينا المغبوط إسطفان الدويهي بطريرك إنطاكية، منشورات الحكمة، بيروت، 1970، ص103.
[34]– بطرس غالب، صديقة ومحامية، ص276–278.