-1-
في قراءته للمشهد الديني على مستوى العالم يلاحظ بيرجر، أن الحركات المحافظة أو المتشددة التي رفضت نوعًا من التحديث، هي التي تشهد تصاعدًا في كل مكان تقريبًا. وبالمقابل فإن جميع الحركات والمؤسسات التي بذلت جهودًا كبيرة للتكيف مع الحداثة كما أدركتها تشهد تراجعًا في كل مكان تقريبًا: في الولايات المتحدة شهد الخط الديني البروتستانتي الرئيس تراجعًا كبيرًا بالتوازي مع تقدم مقابل في النزعات التبشيرية. وأثمرت النزعة المحافظة التي قادها البابا يوحنا بولس الثاني في الكنيسة الكاثوليكية في دخول عدد جديد من الناس إلى الديانة الكاثوليكية، وفي تجديد الحماس بين الكاثوليك الأصليين خصوصًا في الدول غير الغربية. كذلك تبع انهيار الاتحاد السوفيتي عودة ملحوظة للكنيسة الأرثوذكسية في روسيا. الجماعات اليهودية التي تشهد أكبر قدر من التنامي سواء في إسرائيل أم خارجها هي الجماعات الأصولية المتشددة. وشهدت الديانات الكبرى الأخرى، الإسلام والهندوسية والبوذية فورات قوية من التوجه المحافظ. وكذلك المجتمعات الدينية الأصغر حجمًا مثل الشنتو في اليابان والسيخ في الهند”.
النتيجة التي ينتهي إليها بيرجر هي أن هذه الوقائع “تقدم أدلة قوية على زيف فكرة أن التحديث (modernization) والعلمنة (secularization) ظاهرتان من أصل واحد، أو على الأقل فهي تظهر أن “مكافحة العلمنة” هي ظاهرة لا تقل في أهميتها عن العلمنة نفسها في عالمنا المعاصر”. ويؤكد بيرجر أن “العالم اليوم متدين بشكل هائل، وهو أبعد ما يكون عن العالم المعلمن الذي تنبأ به الكثير من محللي الحداثة، سواء كان ذلك بسعادة أو بإحباط. لكنه يقر بوجود استثناءين على هذه الفرضية العلمية: الأول: هو أوروبا وخصوصًا أوروبا الغربية، حيث تتزايد مؤشرات العلمنة مع تفاقم التحديث سواء على مستوى المعتقدات كما يعبر عنها الأفراد، وبشكل دراماتيكي على المستوى المتعلق بالكنيسة؛ حضور الطقوس، والالتزام بالسلوكيات (خاصة في المسائل الجنسية والإنجاب والزواج) وأعداد الراغبين في دخول سلك الكهنوت” هذه الظواهر، التي تم رصدها في بلدان الشمال الأوروبي منذ زمن بعيد، عمت في بلدان الجنوب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي إيطاليا وأسبانيا واليونان جرى تراجع واضح في التدين المرتبط بالكنيسة. ويمكن تصور حدوث تطورات مماثلة في أوروبا الشرقية بحسب الدرجة التي تندمج فيها هذه البلدان في أوروبا الجديدة. ومع ذلك فإن عددًا من الأبحاث الصادرة أخيرًا في مجال الاجتماع الديني خصوصًا في فرنسا وبريطانيا وإسكندنافيا عادت للتساؤل حول صحة تطبيق مصطلح العلمنة على هذه التطورات، إذ تشير البيانات إلى استمرار حضور الدين وبقوة في أشكال معظمها مسيحية على الرغم من ابتعاد الناس عن الارتباط بالكنائس المنظمة. ولذلك فإن الوصف الأدق لما يحصل في أوروبا هو أنه تحول في موقع الدين المؤسساتي وليس تحولًا كاملًا إلى العلمنة. ومع ذلك كله تظلا أوروبا المكان الأكثر علمنة في العالم، وبكل تأكيد أكثر من الولايات المتحدة، وتظل إحدى أكثر ألغاز علم الاجتماع الديني إثارة للاهتمام ومعرفة سبب كون الأمريكيين إجمالًا أكثر تدينًا وحرصًا على المؤسسات الكنسية من الأوروبيين”.
الاستثناء الثاني لقاعدة تراجع العلمنة (Desacralization) –يشرح بيرجر– هو وجود “شبكة ثقافية فرعية دولية مكونة من مجموعات تلقت تعليمًا غربيًا في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية”. هذه الشبكة علمانية بالفعل لكنها -بحسب بيرجر- ثقافة نخبوية لا تعكس التوجهات العامة لمجتمعاتها: “ومن غير المفاجئ أن هذه النخبة مكروهة من قبل عدد كبير من الناس الذين لا يشكلون جزءًا منها، ولكنهم يشعرون بأثرها خصوصًا حين يجدون أولادهم يتعرضون لنظام تعليمي يهمل، وربما يهاجم مباشرة معتقداتهم وقيمهم، ولذلك يمكن للحركات الدينية المعادية أن تجتذب الناس الذين ينبع مقتهم للعلمانية من أسباب غير دينية”.
بالنسبة إلى بيرجر، ظل الدين المرتبط بالمشاعر القوية قائمًا، وما يحتاج إلى تفسير هو غيابه وليس حضوره، “فالعلمانية الحديثة هي ظاهرة محيرة بقدر أكبر من هذه الانفجارات الدينية”. ومع ذلك يصعب التكهن بالمسار المستقبلي لهذه الصحوة الدينية. بالنظر إلى “تعدد أشكال الحركات الأصولية وارتباطها بقوى وعناصر غير دينية متعددة”. التكهن الوحيد الذي يمكن طرحه ضمن مدى معقول من التأكد هو أنه لا يوجد سبب يدفع إلى أن نتوقع أن يكون العالم في القرن القادم أقل تدينًا مما هو عليه اليوم”.
يؤسس بيرجر هذا التكهن على استمرار حضور “الدافع الديني” والبحث عن معنى يتعالى على مساحة “الوجود التجريبي الملحوظ المقيد بهذا العالم”. فهذه السمة التي رافقت وجود الإنسانية منذ بدايته “ليست مجرد عبارة لاهوتية، بل مقولة أنثروبولوجية قد يتفق معها أي فيلسوف أو حتى ملحد. إن تغيير هذا الدافع وإلى الأبد، سيتطلب ما لا يقل عن تحول كامل في العرق البشري” أي سيحتاج إلى تغير كلي في الطبيعة البشرية، “الأمر الذي لم يحصل حتى الآن، ومن غير المتوقع أن يحصل في المستقبل القريب”.
-2-
يشير بيرجر إلى الصحوة الإسلامية بوصفها –إلى جانب الصحوة الإنجيلية- الحركة الدينية الأكثر ديناميكية في العالم. “وهي معروفة بشكل أكبر بسبب تعقيداتها السياسية الواضحة والمباشرة، لكن من الخطأ اختزالها تفسيريًا كمجرد رد فعل لعوامل سياسية بحتة”. وهي غير محصورة بأي شكل من الأشكال في الشرائح الاجتماعية “الأقل حداثة”، أو “الأشد تخلفًا” كما يحب أن يعتقد المفكرون التقدميون، بل على العكس فهي قوية للغاية في مدن تشهد مقدارًا كبيرًا من التحديث. وفي عدد من البلدان تظهر بشكل أوضح بين أفراد تلقوا تعليمًا غربي الأسلوب، في مصر وتركيا –مثلًا- يمكن أن تجد الحجاب في أسر علمانية، بالإضافة إلى مظاهر أخرى للتواضع الإسلامي.
ويقارن بيرجر بين الحركة الإسلامية ومثيلتها الإنجيلية، حيث تظهر الفوارق بينهما في المحتوى الديني، وعلى مستوى النتائج السياسية والاجتماعية؛ بوجه عام “تميل الصحوة الإسلامية بقوة إلى نظرية سلبية حيال الحداثة، بل يمكنها أن تكون معادية تمامًا لها كما هو الحال في نظرتها إلى دور المرأة في المجتمع. بالمقابل تبدو الصحوة الإنجيلية حداثية بشكل إيجابي في معظم الأماكن التي حصلت فيها خاصة في أمريكا اللاتينية. فالتبشيريون الجدد يلقون جانبًا بالكثير من الحواجز المانعة من الحداثة مثل الذكورية، ومثل الاستسلام لهرمية السلطة التي ظلت داءً عامًا في جميع أشكال الكاثوليكية ذات الأصل الأسباني أو البرتغالي”.
وتعود هذه الفوارق -بحسب بيرجر- إلى طبيعة الإسلام كدين، حيث من الصعب التوفيق بينه وبين الكثير من الأفكار والمؤسسات الحداثية مثل الديمقراطية، وعلاقة الدين بالدولة، واقتصاد السوق، ودور المرأة، والأسس الأخلاقية للمعاملات اليومية، والحدود بين التسامح الديني والتسامح الأخلاقي.
-3-
طرح بيرجر هذه الرؤية في كتابه “the desecularization of the word”
الذي أصدره سنة 1999 وفيه يقر بـ”التراجع جزئيًا عن توجهاته الوضعية الصريحة التي طبعت كتاباته الكلاسيكية في علم الاجتماع الديني”. إن جميع ما كتبه علماء الاجتماع والتاريخ حول ما سمي بـ”نظرية العلمنة” هو خاطئ في جوهره. “لقد ساهمت شخصيًا في الكتابة في هذا الاتجاه مع بعض الرفاق الطيبين في هذا المجال. إذ كان معظم علماء الاجتماع يؤمنون بالفكرة نفسها، وكان لدينا أسباب وجيهة حتى نؤمن بها. لا أزال أعتقد بصحة بعض الأفكار التي كتبتها وقتها. فمن محاسن كون المرء عالم اجتماع أنه يمكنه إذا شاء -وبخلاف الفيلسوف أو عالم الدين مثلًا- أن يظل يستمتع حين يتم إثبات خطأ أفكاره بقدر ما يستمتع إذا ثبتت صحتها”.
ما يتراجع عنه بيرجر هو: فكرة أن الدين يتراجع عبر العالم المعاصر، وأن ثمة مسارًا حتميًا للتطور يؤدي إلى العلمانية، وأن هذا المسار يمثل قانونًا عامًا ينطبق على جميع الأنظمة الدينية، بغض النظر عن السياقات الاجتماعية والتاريخية المتباينة، أو التباينات النظرية المختلفة. ونتيجة لذلك يقلل بيرجر بشكل ضمني من أهمية الثقافة العلمانية، أي الثقافة السياسية الحديثة، ودورها التغييري الواسع عبر العالم، باعتبارها ثقافة أوروبية “محلية” لا تمثل القاعدة بل الاستثناء، وبالتالي فهي ليست النموذج الحتمي ولا حتى النموذج المثالي للتطور.
كان بيرجر يناقش المسألة في مناخ تفكير أمريكي، وفي سياق الانبهار الغربي بالحدث الأصولي وتداعياته السياسية قبل أحداث سبتمبر (أيلول). وواضح أنه يتجاهل الحضور الطاغي للثقافة الأوروبية في الوعي العالمي العام كثقافة “مركزية” متعدية لمجالها الجغرافي، لا تزال تمارس تأثيرًا إشعاعيًا واسعًا على الثقافات المختلفة. هذه الثقافة العلمانية يصعب توصيفها كمجرد طموح نظري لنخبة ثقافية “مكروهة” بعد أن فرضت نفسها باسم الحداثة على البنى السياسية والاجتماعية عبر مناطق العالم على تعدد أنظمتها الدينية.
لكن الأهم هو أن بيرجر يخلط في التعاطي مع مصطلح العلمنة بين معنيين غير متطابقين، ويستخدمهما بالتبادل في سياقين نظريين مختلفين: العلمنة بالمعنى الواسع الذي يشير إلى توجه عام يهدف إلى نفي أو تقليص الدين ككل، والعلمنة بالمعنى الضيق الذي ينزع من الدين سلطة التنظيم السياسي التشريعي. دون أن يحفل بالصدام مع فكرة الإيمان.
بالمعنى الثاني للعلمنة -وهو المعنى السائد واقعيًا- لا يثبت تحليل بيرجر؛ فلقد تراجع الدين بالفعل أمام الحداثة العلمانية. تراجع شق من الدين هو الشق المتعلق بالمجال العام أي الشق التنظيمي الجمعي. وهذا التراجع واقعة خبرية يؤيدها التوثيق التاريخي، ليس فقط في المحيط الجغرافي الأوروبي المسيحي (حيث كانت المؤثرات الحداثية عميقة وواسعة النطاق، وحيث كانت البنية النظرية للمسيحية ذاتها تسمح بالتخلي عن سلطة المجال العام) بل أيضًا في المحيط الجغرافي الشرقي الإسلامي (حيث كانت المؤثرات الحداثية أقل عمقًا واتساعًا، وحيث كانت البنية النظرية للإسلام تشدد على امتلاك المجال العام). في المحيط الإسلامي الشرقي، وتحت تأثير الإشعاع “النسبي” للثقافة الحداثية، تراجع الحضور السياسي التشريعي للدين، سواء في بنية وشكل الدولة، أو على مستوى المدونة القانونية، هذا التراجع يمثل صلب المشكل الإسلامي الذي يدور حوله النشاط الأصولي الراهن. وهو يشير إلى جوهره كمشكل صدام مع الحداثة.
عبدالجواد يسن