-1-
لا يشير مصطلح “ما بعد الحداثي” إلى معنى زمني محض، بل إلى موقف موضوعي نقدي حيال “الحداثة”، التي كانت –بدورها- تشير إلى موقف موضوعي نقدي حيال الدين والميتافيزيقا. وبسبب هذا التقاطع يبدو الموقف ما بعد الحداثي -لوهلة ما- وكأنه يقدم دعمًا للدين، أو -على الأقل- يخفف من حدة المواجهة معه. لكن هذا التحليل الاختزالي يبقى مضللًا في شقه الأخير، لأن الموقف ما بعد الحداثي لا يعارض الحداثة لحساب الإيمان، بل لحساب رؤى معرفية تناقض فكرة اليقين المطلق، وتشكك في سلطة العقل كمرجعية حيادية حاكمة، وهي المرجعية التي كان الدين يتشارك فيها –جزئيًا- مع الحداثة المبكرة.
تاريخيًا، تشكلت مفاهيم الحداثة على واقع الصراع مع الدين بالذات (ممثلًا في الكنيسة الكاثوليكية) بوصفه السلطة الماضوية الأكثر نفوذًا، والتي تعطل حركة الإنسان لتحقيق ذاته الطبيعية. وفي هذا السياق نجحت الحداثة في إنجاز هدفين رئيسين: 1- تنحية الدين عن هيمنته التقليدية على المجال العام (السياسي والتشريعي)، أي فرض “العلمانية” 2- تقليص نفوذ الدين في مجال المعرفة (لا في خصوص الطبيعة فحسب، بل أيضًا في الاجتماع) أي تكريس “العقلانية” وسلطة “العلم”. لقد تطورت هذه المفاهيم في الغرب كتجربة ثقافية خاصة، عبر التفاعل والاندماج في النظام الرأسمالي. ومع النجاحات الاقتصادية والسياسية المبكرة، التي ترجع إلى إنجازات التقنية وبريق الفكرة الديمقراطية، صارت تمثل بالنسبة للعالم، نموذجًا ثقافيًا جذابًا ومحملًا بالوعود الباذخة.
لكن التداعيات الحداثية في القرن العشرين، أدت إلى خلق “أزمات” جديدة ذات طابع هيكلي عميق وواسع النطاق، ناجمة عن ممارسات العلمانية والعلم على السواء. وبالنسبة للتيار ما بعد الحداثي، كشفت هذه التداعيات عن فشل الحداثة في الوفاء بوعودها حول الحرية والرفاهية، وبتعبير ليوتار “صار نصف البشرية يواجه التعقيد، والنصف الآخر يواجه المجاعة”.
-2-
لم تفلح الحداثة من خلال العلمانية، في حسم اشتباكها مع الدين بشكل نهائي. لا أعني بذلك أنها فشلت في استبعاد الدين كما توقعت النبوءات الأنوارية المبكرة، بل أشير إلى عجزها عن معالجة الإشكاليات الناجمة عن بقاء الدين في شقه الفردي الخاص داخل المجتمع، والإشكاليات الناجمة عن محاولاته المجددة لاستعادة المجال العام في أشكال أصولية أكثر عنفًا، الأمر الذي فتح النقاش حول “العلمانية” كأطروحة ثقافية خاصة، مفصلة على مقاس المسيحية الغربية وسياقات تطورها التاريخي.
كانت الحداثة الغربية قد انتهت عمليًا إلى صيغة العلمانية “الجزئية” التي تستوعب حضورات الدين في المجال الخاص للأفراد، أي تقر بوجوده داخل المجتمع لا داخل الدولة. وكان معنى ذلك أن معركة الحداثة مع الدين لا تدور أساسًا حول شقه “اللاهوتي” الخالص المتعلق بالإيمان والأخلاق، بل حول شقه “التشريعي” الشمولي المتعلق بالسياسة والدولة. وسوف يتغير ذلك -إلى حد ما- في ظل التطورات اللاحقة التي ستشكل الوضع ما بعد الحداثي.
-3-
في الإطار العالم، كانت الحداثة المبكرة، التي تؤمن بقيمة العقل، تقر بوجود “حقيقة موضوعية” يمكن الوصول إليها بمنهج العلم التجريبي. لكن نيتشه –المفجر الحقيقي لثورة التفكير ما بعد الحداثي- سيشكك العالم في وجود حقيقة موضوعية حتى داخل العلم التجريبي. وسينعى على العلم إيمانه بفكرة الحقيقة كما يفعل الدين بالنسبة إلى نيتشه، ويقوم العلم والمثل الأعلى النسكي على أرضية واحدة، هي الإسراف في تقدير الحقيقة، أو بشكل أصح، “على نفس الإيمان بأن الحقيقة شيء لا يقدر ولا يقبل النقد”. الحقيقة مفهوم ميتافيزيقي مصدره الإيمان الديني، وإذا سقط هذا الإيمان -وهذا ما يعتقده نيتشه- فسوف يحتاج العلم منذ الآن إلى نوع “جديد” من التبرير، وهذه هي الثغرة التي توجد في كل فلسفة “فهي جميعها لا تعي إلى أي مدى تحتاج أولًا إرادة الحقيقة ذاتها إلى تبرير (…) لأن المثل الأعلى النسكي قد بسط سيادته حتى الآن على الفلسفة. لأن الحقيقة قد وضعت وضعًا بوصفها كينونة، بوصفها إلهًا”.
اشتراك العلم مع الدين في مرجعية الحقيقة هو توصيف انتقاصي، يمثل نقدًا جذريًا للعلم، وسينتقل من نيتشه إلى تيارات التفكير ما بعد الحداثي الذي سيتبلور في القرن العشرين، والذي سيُدخل العلم في دائرة المنظورية النسبية. لكن الفكر ما بعد الحداثي سيطور نقده للعقلانية والعلم، على نحو يتجاوز أجواء نيتشه، المشغول عند نهاية القرن التاسع عشر بفكرة المواجهة مع الدين:
في أوائل القرن العشرين، عبًّر التفكير ما بعد الحداثي عن نفسه مبكرًا من خلال الحركة السوريالية، التي صبت جام غضبها على العقل: رؤية الإنسان العقلاني للعالم سطحية وقاصرة، فالعقل يمثل حاجبًا يمنع الإنسان من إدراك ذاته وإدراك الأشياء على حقيقتها. وبتأثير نيتشوي واضح، أطلقت السوريالية العنان للجانب الحياوي من الإنسان بكل طاقاته الغريزية، واعترفت بمشروعية المعرفة الناجمة عن العبث والجنون والعصاب، لقدرتها على كشف الحياة النفسية على حقيقتها التي لا تظهر على سطح الواقع الخارجي. الحقيقة تكمن في باطن الذات، والذي يمنع من ظهورها هو العقل “ذلك الأحمق، الذي يدنس باحتراسه الواقعي كل شيء” كما يصفه كرنيفل. أما أندريه ماسو فاعتبره أسوأ عدو للروح “بالنسبة لنا نحن السورياليين الشبان 1924، كان العقل هو العاهر الكبير. وكنا نرى أن الديكارتيين والفولتيريين وآخرين من موظفي الذهن لم يستخدموه إلا للمحافظة على القيم المستقرة والميتة”.
أما النقد الموجه إلى العلم فينصب أساسًا على التقنية: مردوداتها السلبية على الحرية والوعي وعلاقتها بالمعنى الأخلاقي. تضفي التكنولوجيا على الأشياء صفة الأداة وتحولها إلى مجرد وسيلة بما في ذلك الإنسان. هذه هي حالة التشييء التي تسبب اغتراب الإنسان عن ذاته، والتي تتفاقم مع تطور التكنولوجيا وارتباطها المتزايد بالرأسمالية المعاصرة. الميكنة الخاصة بالرأسمالية -يشير ليوتار- تحول الإنسان إلى وسيط للكفاءة واحتياجات الإدارة التكنوقراطية من خلال أيديولوجيا التنمية. ما يطبع الإنسان هو تحوله أكثر إلى انتحال وظيفة الآلة. وفي الواقع، الأجهزة التي قمنا ببنائها ستحل محلنا فيما يتعلق بالتفكير الذي اعتبرناه حتى الآن جزءًا لا يتجزأ منا.
بحسب ليوتار، سقط ارتباط العلم بالسؤال الأخلاقي، وبرز ارتباطه بالثنائية الأدائية (فعال/ غير فعال). لقد أصبحت التكنولوجيا –بسبب تعقد العلم- ضرورية لإنتاج العلم نفسه. وبالتالي أصبح العلم خاضعًا لمنطق الثروة، وتحول إلى قوة إنتاج، ولحظة في دوران رأس المال، تقاس فائدته كجميع مكونات رأس المال بقدرته على زيادة الأرباح، ومن ثم أصبح العلم يعمل من أجل دعم السلطة. وأكثر فأكثر، أخذ يفقد قاعدته الحكائية القديمة التي كانت تمنحه المشروعية (الآمال التي عقدها عليه الفكر الأنواري لتحسين ظروف الإنسان المادية وتحريره من قيود الماضي الشمولية)، وصار يستمد مشروعيته من ذاته المرتهنة بالكامل لشروط السوق الرأسمالي.
في هذا السياق يبرز السؤال عما إذا كان الدين في ظل الوضع ما بعد الحداثي قد تخفف من الضغوط التقليدية للحداثة.