هاني مطر[1]*
ما مفهومنا للّيتورجيّا؟ وكيف نُحدّد الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة؟ وما علاقة هذه الليتورجيّا بهذه الحياة الرهبانيّة؟ وكيف كانت تُعاش سابقًا؟ وكيف يجب أن تُعاش اليوم؟ وما نظرتنا المستقبليّة في هذا الإطار؟
أسئلة كثيرة تَطرح مواضيع متعدّدة، لا بدّ من الإجابة عنها في هذه العجالة، علّنا نضيء قليلاً على ناحيةٍ مهمّةٍ من محاور مؤتمرنا المهمّ.
وقبل البدء بالإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ من تحديد معنى الكلمات الّتي نستعملها في هذه الدراسة، لتأتي نظرتنا موحّدة وواضحة وشاملة!
“ليتورجيّا”، كلمة يونانيّة مركّبة من كلمتَين: “لايتون” وتعني “شعبيّ”، “جمهوريّ”، “جماعيّ”؛ و”إرغون” تعني “مهمّة” و”خدمة”. هي إذن، “خدمة الجماعة” لصالحِ الجماعة، هي خدمة تؤدّيها الجماعة لصالحها!
وفي المسيحيّة، كتب البابا بيّوس الثاني عشر في براءته “Mediator Dei”[2] “وسيط الله” تحديدًا لكلمةِ “ليتورجيّا” استند إليه المجمع الفاتيكانيّ الثاني: “تمرّس المسيح في وظيفته الكهنوتيّة”[3]، مما يعني أنّ التمرّس هذا يتمّ كاملاً على صعيدَين: تنازليّ، يُعلن لنا الآب ويُعطينا حياته؛ وتصاعديّ يُقدّم المسيحُ ذاتُه للآب ويُقدّمنا معه. هذان الصعيدان يتكاملان في كهنوت المسيح، ولا ينفصل الواحد منهما عن الآخر. فالمسيح بتجسّده وافتدائه للإنسان تمّم مشيئة الآب وحقّق مهمّته التنازليّة. والشعب المؤمن الّذي يؤدّي واجب العبادة لله يحقّق المهمّة التصاعديّة. والمهمّتان تهدفان إلى تحقيق القداسة والكمال لدى المؤمنين!
هذه الليتورجيّا، بوجهَيها التنازليّ: محبّة الله للإنسان وافتداؤه له، والتصاعديّ: عبادة الإنسان لله خالقه وفاديه، هي خدمة منظورة في الزمان والمكان. فكما أنّ ربَّنا يسوع المسيح تجسّد ليفتديَنا، أي حقّق محبّته “بعلامة منظورة”، هكذا قامت الليتورجيّا مَقام الطبيعة البشريّة المنظورة في ربّنا يسوع المسيح، وصار مُحتَّمًا أن توجدَ الليتورجيّا بعلاماتٍ حسّيّةٍ منظورة، دَعَتها الكنيسة “أسراراً”.
هذه “العلامات الحسّيّة” تعبّر عن نِعَم الربّ لكلّ مؤمن به، ويدعوه بواسطتها إلى الاتّحاد الكامل بشخص الربّ يسوع المسيح! هذه هي حقيقة الليتورجيّا الفائقة الطبيعة: دعوةٌ إلى الانتقال من العالم المادّيّ المحسوس إلى الاتّحاد الكامل بالقداسة، بألوهيّة ربّنا. هي دعوة إلى الارتقاء والتأليه!
أمّا “الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة” فهي تعبير عن حياة الجماعة المارونيّة الّتي نشأت حول دير “بيت مارون” (بِية مُرُّون)، الّذي كان يجمع “أبناء مارون”، أي تلاميذ مدرسته النسكيّة، المتشبّعون من روحانيّة-لاهوت مدرسة أنطاكية ومجمع خلقيدونيا(451).
إنّها حياة تمتاز بتجرّدها الجماعيّ الّذي يُبقيها في وحدةٍ روحيّة ومادّيّة، كما تمتاز بروحانيّة رُهبانيّة انطلقت من عراء جبل قورش، وتأسّست في دير “بيت مارون”، وتركّزت في وادي قنّوبين، في شمال لبنان (قنّوبين من اليونانيّة koinobion، وتعني الجماعة الديريّة). هذه الحياة تعني الالتزام الجذريّ في عيش الإنجيل: “يتشاركون في كلّ شيء… مواظبين على تعليم الرسل (الكنيسة) والمشاركة، وكسر الخبز، والصلوات…” (رسل2: 42، 44)، إلى جانب ممارسة الصوم والتقشّف بكثرة.
مفهوم الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة
المفهوم التاريخيّ
يظهر “مفهوم الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة” من خلال روحانيّة رافقت الحياة الرهبانيّة المارونيّة منذ نشأتها؛ وعكست ملامح تعليم “الإنجيل”، وهي ترتكز على صخرة التراث السريانيّ الأنطاكيّ المعروف بروحانيّة الجذريّة الإنجيليّة والصلاة والتغذّي من كلمة الله، بكثير من الزهد والتجرّد والتقشّف. لقد اغتنت هذه الروحانيّة بخبراتِ آباء الصحراء في صعيد مصر، واختمرَت بتراثٍ متنوّعٍ نسكيٍّ يُحاكي “روحانيّة التجسّد” في الأرض حتّى الشهادة والاستشهاد!
يرتكز هذا المفهوم، أوّلاً: على “تجذّرٍ إنجيليّ” في قراءة لاهوتيّة للكتاب المقدّس. وصار المسيح “الطريق والحقّ والحياة”، يتبعه الشعب المارونيّ، يتتلمذون عليه ويقتدون به، مشتركين معه في عمله الخلاصيّ!
لقد ركّزت روحانيّة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة على شخص الربّ يسوع المسيح، الّذي هو “وحيد الآب” (يو1: 18) و”شعاع مجده وصورة جوهره” (عب1: 3). صار غاية الرهبان “الوحيد”، “يلبسونه” كما في العماد، ويتّحدون به. هم “العذارى الحكيمات” المضيئة مصابيحهنّ واللواتي يدخلن إلى “العرس” في الملكوت! هم عاشقو الجمال الإلهيّ، العاملون على ارتداء “الحلّة البهيّة” ليستحقّوا الوقوف حول عرش “الحمل”!
ثانيًا: يعيش الرهبان الموارنة حياة جماعيّة نسكيّة، زاهدةً، قشفة! تأصّلت حياتهم الجماعيّة بعبادتهم القربانيّة، وكان “جسد الربّ” زادَهم، كما كانت صلواتهم الجمهوريّة خبز حياتهم الروحيّة. حافظوا على الممارسات النسكيّة استعدادًا للانخراط بالحياة التوحّديّة. وهذا ما جعلهم في صراعٍ داخليّ دائمٍ بحثًا عن حبّ الله والاتّحاد به. وهو ما أعطاهم نموًّا روحيًّا أدخلهم بوعيٍ في حياة الحبّ غير الموصوف لله الواحد-الثالوث، الآب والابن والروح القدس.
ثالثًا: توزّعت نهارات الحياة الرهبانيّة المارونيّة بين الصلاة والعمل، وكان الرهبان “الساهرين اليقظين” في ممارسة صلواتهم اليوميّة المشبعةِ بالكتاب المقدّس وتعاليم الآباء والمجامع المقدّسة، وخاصّين العذراء مريم بإكرام خاصّ، عبقت كنائس أديارهم بذكرها.
لم يقطع صلواتِهم وممارساتِهم الروحيّة إلاّ انخراطُهم بالعمل في كلّ نواحيه الفكريّة والرسوليّة واليدويّة. اعتبروا العمل حاجة تعزّز كرامتهم الإنسانيّة، وتبني لهم ثقافةً روحيّة عميقة من خلال درس الكتب، وصلابةً وعفويّةً وصمودًا وصبرًا وقناعةً من خلال حبّهم للأرض والعمل فيها، ونضالاً مثاليًّا في حمل بشارة الإنجيل إلى العالم كلّه، وخصوصاً من خلال خدمتهم الرعويّة في كلّ مجالات الحياة التربويّة والصحّيّة، وخصوصًا الروحيّة!
هذا ما جعل الحياة الرهبانيّة المارونيّة، منذ البدايات، منفتحة على متطلّبات وحاجات الكنيسة، تواكب تطوّرها وتنمو معها في خدمة المؤمنين لمجد الله وخلاص الراجين ملكوته!
مقوّمات الحياة الرهبانيّة المارونيّة
تقوم الحياة الرهبانيّة المارونيّة على قِيم مسيحيّة وفضائل إنجيليّة عديدة، وهي بذلك لا تختلف عن الحياة الرهبانيّة في كلّ الكنيسة المسيحيّة، إلاّ أنّ الطابع المارونيّ الزهديّ التقشّفيّ يعطي زهوًا خاصًّا لهذه الحياة ويدفعها إلى أن تتجلّى بأسمى مظاهرها الروحيّة والرسوليّة.
أولى هذه القِيَم المسيحيّة الصلاة الّتي تشكّل نقطة الارتكاز في الحياة المسيحيّة الجذريّة. لقد تنوّعت صلوات الرهبان بتنوّع حالاتهم الخاصّة، ووصلت إلى مراتب عالية جدًّا، انعدمت فيها الكلمات، وشكَّلَت حالة من “السُّكرِ” والانغماس حتّى الذوبان بالله والاتّحاد به! بالطبع، هذه الأنواع من الصلوات تتطلّب نقاوةَ قلبٍ وطهارةَ فكرٍ، وقوّةً ومثابرةً وبطولة!
القيمة المسيحيّة الثانية ترتكز على العمل، وبذلك كان الرهبان يحذون حذوَ مريم “المصلّية” عند أقدام الربّ، وحذوَ مرتا “العاملة” على حُسنِ استقبال الربّ في بيتها! “بالصلاة” كان الرهبان “يتكمّلون” ويصيرون نحو الآب القدّوس “الكامل”. و”بالعمل” أعطى الرهبان معنىً وجوديًّا لحضورهم، فهم “لا يعملون لطعامٍ فانٍ، بل للحياة الأبديّة”! وهكذا، يقهرون الملل والبطالة وكلّ أنواع الشهوات، ويقتنون لهم “كنوزًا” لا تفنى في الحياة الأبديّة! لقد مارس الرهبان الموارنة كلّ أنواع الأعمال الّتي أمَّنت لهم الحياة الكريمة بعيدًا عن الاعتياش من صدقات المؤمنين. “بعرق جباههم” كانوا يأكلون خبزهم؛ وكانوا يساعدون الفقراء بما يفضل عنهم!
أمّا الفضائل الإنجيليّة: الطاعة والعفّة والفقر، فقد شكّلت العمود الفقريّ الأساسي للحياة الرهبانيّة عامّة، وللحياة الديريّة المارونيّة، لأنّ الرهبان، وهم المتوحِّدون (متوحِّد من آيحيدُيُا الّتي تعني Monachos باليونانيّة) الّذين رغبوا عن العالم ليعيشوا مع “الوحيد”، ويتّحدوا به. من هنا، كان لا بدّ من هذه الفضائل الّتي تتكامل ببعضها لتكمّلَ شخصيّة الراهب. فهو “يطيع” كلمة الله في الإنجيل المتجسّدة بإدارة المسؤولين، ويعيش “بتولاً” عفيفًا، ليعتزلَ العالم وأهواءَه ويتكرّسَ لله في جماعة ديريّة. ولأنّه رغب في محبّة الله الّذي دعاه، فهو يترك كلّ شيء، ويتخلّى، ويتجرّد لينطلق “فقيرًا” حرًّا من كلّ مادّة نحو هدف عيش الكمال الإنجيليّ والمحبّة الكاملة!
تطوّر المفهوم مع تأسيس الرهبانيّات المارونيّة
تميّزت الكنيسة المارونيّة، منذ نشأتها، بميزةِ عيشِ الدعوة المسيحيّة، وتمسّكت بليتورجيّا كنيسة أنطاكية العريقة، وحافظت على سلامة العقيدة بالرغم من كلّ الاضطهادات الّتي تعرّضت لها. كما غذّت الكنيسة المارونيّة روحانيّتها من نبع الليتورجيّا السريانيّة الأنطاكيّة، الّتي ما زالت، حتّى يومنا، تستقي حيويّتها من غزارة نصوص صلواتها وخصب كتابات الآباء السريان الأوّلين. وهذا ما أعطاها أن تستمرَّ في سلامة العقيدة المسيحيّة.
في البداية، لم يكن في الكنيسة المارونيّة تنظيم رهبانيّ نسكيّ بالمعنى القانونيّ، كما، لم يكن من منظّمة رهبانيّة واحدة لها رئيس يُدير شؤونها. بل، إنّ الرهبان النسّاك كانوا أعضاء في الكنيسة، وتأثّروا بنشأتهم الأنطاكيّة وروحانيّتهم السريانيّة، وانتمائهم، لاحقًا، إلى مدرستهم المارونيّة، وامتدادهم اللبنانيّ ونموّهم فيه!
تطوّر مفهومهم الليتورجيّ مع نموّ نهجهم النسكيّ، إذ كانوا ينقطعون عن العالم، ويتكرّسون لعمل العبادة والتقشّف والزهد، في حياة عزلة وصمت وتأمّل وصلاة. وهكذا، تمرّسوا واستمرّوا، على مدى اثني عشر قرنًا، وكان لهم مجدُ تراثٍ روحيٍّ وعقيديٍّ عظيم.
ومع تنظيم الحياة الرهبانيّة، في أواخر القرن السابع عشر، تركّز المفهوم الليتورجيّ مع تأسيس الرهبانيّات المارونيّة على قاعدة الإقامة في الحياة الديريّة الجماعيّة بصمت وخشوع، والاهتمام بمطالعة الكتاب المقدّس والكتب الروحيّة والتعمّق في فهم الروحانيّة الشرقيّة الأنطاكيّة السريانيّة، والصلاة الجماعيّة احتفاليًّا، من دون اغفال التأمّل الشخصيّ بسرّ القربان والتدبير الخلاصيّ.
مفهوم الليتورجيّا في هذه الرهبانيّات يتمحور حول عيشهم سرّ الخلاص بصدقٍ وإيمان وفرح. من هنا، كانوا “يستيقظون، وينشدون أناشيد كتابيّة بلحنٍ واحد، وإيقاعات متناغمة. لا قانون ولا مزمار، ولا أيّة آلة تستطيع أن تشابهَ أصوات هؤلاء القدّيسين وهم ينشدون، في هدوء السكينة العميق، هذه الأناشيد المفعمة بالحبّ الإلهيّ”. وعندما ينشد الرهبان مع الملائكة، تمتزج أصواتهم بتسبيح الله وتمجيده!
طريقة عيش الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة
قديمًا
الليتورجيّا، في أدبها المتنوّع، تبقى المصدر الأوّل والأهمّ للتعرّف على الأسس الكبرى والتطوّرات البارزة في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة. إنّها التعبير الصحيح عن كيفيّة عيش الرهبان الموارنة لسرّ الخلاص الّذي أراده الآب منذ الأزل، وحقّقه الابن الوحيد لـمّا تجسّد وصار إنسانًا، ومات على الصليب وقام منتصرًا على الخطيئة والموت، والروح القدس يكمّله في الكنيسة/الجماعة المؤمنة، ليُدخلها في سرّ الخلاص.
الليتورجيّا واكبت الحياة الرهبانيّة المارونيّة، وما زالت تواكبها وتزرع في كيانها بذور الحياة الإلهيّة، وتوجّه مسيرتها نحو الاشتراك الكامل في سرّ الخلاص. نصوصُ هذه الليتورجيّا ورموزُها وحركاتُها تنبع من صميم حياة الرهبان الموارنة، وقد تكوّنت عبر التاريخ بطريقة عفويّة، بحيث يمكن اعتبارها نتاجًا مارونيًّا جماعيًّا يعكس حياتهم في أبعادها الروحيّة.
يولّف الموارنة كنيسة صغيرة، عدديًّا وجغرافيًّا؛ وتميّزوا، عبر تاريخهم، بمركزيّة قويّة جعلت منهم جسمًا متماسكًا، يرأسه البطريرك مُحاطًا بمجمع أساقفة؛ قلبه النابض رهبانه ونسّاكه، ودمه ليتورجيّا حيّة تمتدّ لتغذّيه في كلّ خليّة من خلاياه. صحيح أنّ الموارنة تأصّلوا في التراث السريانيّ الأنطاكيّ، لكنّهم طبعوا ليتورجيّتهم بطابع خاصّ مميّز. وجاءت هذه الليتورجيّا تعبيرًا صادقًا عن تأمّلهم العميق في سرّ الخلاص، وعن سبل تدرّجهم إلى الله واتّحادهم في سرّه مثلّث الأقانيم!
عاش الرهبان الموارنة الليتورجيّا وعبّروا عنها بتعابير شعبيّة بسيطة، بعيدة عن كلّ تنميق أدبيّ وتعقيد لاهوتيّ. هي هذيذ روحانيّ يرتكز على ترداد بعض الآيات الكتابيّة الّتي تعلن سرّ الخلاص. وهي ولدت وتطوّرت في قرى زراعيّة، في أديار وصوامع منحوتة في الصخور، في سفوح الجبال أو في قعر الوديان.
عظمة الله ومجده يُهيمِنان على كامل الاحتفالات الليتورجيّة المارونيّة، ويتجلّيان في جمال الطبيعة، وفي الإنسان/صورة الله، في كلّ أحواله.
إلى كلّ هذا، تتميّز ليتورجيّا الرهبان الموارنة بتركيزها على وجه الربّ يسوع المسيح المتواضع، الّذي “شابهنا في كلّ شيء، ما عدا الخطيئة”، وتألّم ومات على الصليب لأجل خلاصنا. وهذا يعبّر بأصدق تعبير عن اختبارات الموارنة الحياتيّة عمومًا، ورهبانهم بنوعٍ خاصّ. لقد مرّ الموارنة في ظروف تاريخيّة قاسية جدًّا وضعت نصب عيونهم صليب المخلّص، فانطبعت ليتورجيّتهم بطابع التوبة والزهد والتقشّف؛ وهذا يظهر جليًّا في احتفالاتهم الطقسيّة البعيدة كلّ البعد عن مظاهر الأبّهة والعظمة والنصر اللائقة بظفر الربّ يسوع على الموت بالقيامة. هكذا نفهم لماذا تعطي الليتورجيّا المارونيّة أهمّيّة كبرى لوجه ابن الله المتأنّس، المتواضع والمتألّم، في احتفالاتها ونصوصها ورموزها.
خلاصة الكلام، عاش الرهبان الموارنة الليتورجيّا بهذيذٍ هادئ، في إطار تاريخ الخلاص، من الخلق إلى التجسّد وتدبير الله الخلاصيّ، في حياة ابن الله المتأنّس وموته لأجل خلاص الإنسان إتمامًا لإرداة أبيه. والحياة الرهبانيّة المارونيّة لا تنفصل أبدًا عن عيش الموارنة لليتورجيّتهم. فهذه الليتورجيّا تبقى الينبوع الأصيل لروحانيّة الحياة الرهبانيّة وانتعاشها ونهضتها. وهذا ما يفسّر معالم روحانيّة ليتورجيّتهم. ليتورجيّا بسيطة، زاهدة ومُتقشّفة، تتأمّل بسرّ يسوع المسيح المخلّص، وتتجاوب مع إلهامات الروح القدس، وترسم الطريق الّتي تسلك نحو الاتّحاد بالله. ليتورجيّا تصدح بها أجراس الأديار، ونواقيس الصوامع، وأناشيد الشكران. هذه كانت حياة الرهبان الموارنة؛ وهذه كانت ليتورجيّتهم، بسيطة، مميّزة، ترتكز على الصلاة والتأمّل بكلمة الله والعمل حول أديرتهم والصوامع.
ونذكر، على سبيل المثال، مختصرَ نصٍّ من تعليم الربّان يوسف بوسنايا (القرن العاشر)[4] يعلّم به تلاميذَه الّذين اختاروا التوحّد والحياة الرهبانيّة:
“عندما كان الأخ يزمع أن يخرج من الابتداء، كان يأمره (مار يوسف بوسنايا) بأن يُقيم سهرة صلاة ويقدّم قربانًا، ويطلب الصلاة من جميع الإخوة الطوباويّين أثناء إقامة الأسرار المقدّسة.
كان يردّد عليه مثل هذه الكلمات: “بما أنّنا في الزمان الأخير، وقد خمَدَت منذ زمان حرارة مخافة الله، لذا تنوّعت أيضًا طرق الرهبان في عصرنا. وها إنّني أضعها قدّامك، وأنت يا بنيّ فاختَر منها ما تشاء، وأنا أصلّي من أجلك… واظب على قراءة العهد الجديد منذ الصباح وحتّى الساعة الثالثة (التاسعة صباحًا)، لتطَّلع على أعمال ربّنا المتجسّد، وعلى محبّة الله لنا ونعمه الفائقة الوصف الّتي أغدقها علينا في نهاية الأزمنة. على أن تقدّم أوّلا أمام الإنجيل له السجود، عشر سجدات “Metanoia”، مطانيّة، ركوع بحيث يلامس جبين المؤمن ويداه الأرض) منتظمة. ثمّ، قُم، لوقتٍ كافٍ، بركعات وصلوات مخصّصة لذلك… ثمّ، قِف على رجلَيك، وخُذ الإنجيل المقدّس بين يدَيْك، وقبِّلْه وضَعه على عينيك وقلبك من دون شبع… واقرأ في الإنجيل ثلاثة فصول وأنت واقف على رجليك، وفصلَين في أعمال الرسل، وثلاثة فصول في الرسائل. وفي وسط كلّ قراءة، اعمل عشر سجدات. وبعدما تنتهي من القراءة في العهد الجديد، اعمل عشر سجدات حادّة وحارّة، وركعة ترافقها صلوات خاصّة بها، وهي للشكر على أنّ المسيح أهّلك لتقرأ وتهذّ في الأسرار الخفيّة منذ الأزل.
ثمّ اتلُ صلاة الساعة الثالثة، وهي صلاة الشكر لله الّذي أحبّنا فأوجدنا من العدم… قُم أوّلاً بصلواتٍ وسجدات، وفي نهاية كلّ مرميث (تلاوة عدّة مزامير)، ارفع ثلاثة تسابيح، وارفقها بثلاث سجدات، وفي نهاية الهولاّل (ثلاث مرميثات)، أدِّ عشر سجدات، مع عشرة تسابيح… وبعدما تنتهي من تلاوة الهولاّلات… اعمل ثلاثين سجدة مع التسابيح، واختم الصلاة. بعدها، أدِّ عشر سجدات لشكر الله الّذي أهَّلَك للخدمة أمامه…
ولـمّا يحين وقت الظهر (الساعة السادسة)، قم للصلاة… وأنت تُبدي علامات الحزن… مع تنهّدات وسكب دموع بألم وكآبة، لأنّ آدم الأوّل خطئ في الساعة السادسة… وفي الساعة السادسة بسط ربّنا يدَيه على صليب العار… فبرّر نسلَه كلّه برمّته. وحالما تنتهي، عُد إلى القراءة، إلى حين صلاة الساعة التاسعة.
وفي الساعة التاسعة، بادر إلى صلاتك. وكُن منتبهًا جدًّا في هذه الصلاة أيضًا، لأنّ الله في الساعة التاسعة طرد آدم من الفردوس… وفيها صرخ ربّنا على الصليب وأسلم روحَه من أجله لأنّه طُرد من ميراثه… وبعدما تُنهي صلاة الساعة التاسعة (الثالثة من بعد الظهر)، زاوِل ما لديك من شغلٍ يدويّ إذا وُجِد، أو إذا أردت أن تُعِدَّ لك طعامًا فهيّئه، إلى أن يحين وقت صلاة المساء. ولـمّا يحين الوقت، قُم لصلاة مزمور المساء (الّذي يتكوّن من المزامير 140، 141، 118: 50، 116) بكلّ انتباهٍ واستعداد… وعقِّب على مزمور المساء بصلاة “السوباع” (وتعني “الشبع”، وكانت تُتلى قبل تناولِ وجبة الطعام الوحيدة في اليوم). وبعد صلاة “السوباع”، هيّء لك شيئًا تأكله… وليس بشراهة ولا بتنويع الأطعمة اللذيذة… وبعدما تأكل… اتلُ صلاة “السوباعيّة” مهما أمكنك ذلك (وكان يتلوها الراهب قبل النوم، وتُسمّى حاليًّا سُوترُا سٌوترُا، وتعني غطاء نور النهار). ولتكن غايتك أن تقدّم لله صلوات خاصّة وتضرّعات… لكي يُنقذَك من شرّ الشياطين… وبعدما تقرّب هذا القربان… اسنِد ظهرَك إلى الزاوية الّتي إزاء الصليب، ولملِم رجليك، ولا تُمددهما… وارسُم وجهك، واختِم نفسك بعلامة الصليب… وأهذِذ بما أنعم الله عليك طيلة النهار… ولـمّا توقظك نعمة ربّنا، قُم لصلاة الليل بنشاطٍ وشوقٍ حارّ… واعمل سجدات حارّة… ثمّ، ابدأ بصلاة الليل. على أن تكمِل نظام السجدات الّذي ذكرته آنفًا”.
أمّا في مزامير الصباح، فأيقظ نفسك وقِف قدّام الله حسنًا وبانتباهٍ بالغ… واعلم يقينًا يا بنيّ، لو أنّ شعرات جسمك كلّه، كانت أفواهًا وألسنة، لما تمكّنتَ من أداء الشكر الواجب لله على نعمته الّتي أفاضها عليك… في السنة الأولى يا بنيّ، تناول يوميًّا الأسرار المحيية… واخرج للصلاة مع الإخوة في الهيكل في اجتماعات أيّام الأحد… أمّا، في السنة الثانية والثالثة، فكان يُعيّن لكلّ واحد من الإخوة ممارسة وعمل أكثر، على قدر حرارته الروحيّة… عليك يا بنيّ أن تخرج يوميًّا إلى تناول الأسرار الغافرة… لتنالَ منها القوّة والعون”… هكذا، جمعَ الربّان يوسف بوسنايا تعاليمه ليولّف نظامًا مفصّلاً لصلوات الراهب المتوحّد، ولقراءاته في الكتب المقدّسة وعيشه الليتورجيّا في أسمى مراتبها.
حديثًا
“طريقة عيش الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة” تطرح في العمق بُعدَي التفاعل والتكامل بين “الحياة الليتورجيّة” و”الحياة الرهبانيّة” في عمليّة بناء كيانٍ رهبانيّ كنسيّ، لأنّ للحياة الليتورجيّة دوراً تربويّاً أساسيّاً على الصعيد الرهبانيّ؛ وإنّ الحياة الرهبانيّة، لن تبلغَ أهدافها وتتحقّقَ كمشروع حياة، إلاّ بمقدار ما تُبنى على الحياة الليتورجيّة وتجسّدها.
“الحياة الليتورجيّة” هي حقًّا فعل العبادة الأسمى الّذي قرّبه ربّنا يسوع المسيح للآب السماويّ. وهي فعل العبادة الّذي تقرّبه الكنيسة/ جسد المسيح السرّيّ لعريسها المسيح الفادي وبه لأبيه السماويّ. ولأنّ فعل العبادة هذا لا ينحصر في صلاةٍ آنيّة، بل هو تعبير الكنيسة لعلاقتها بالمسيح الفادي. لذا، صار فعل العبادة يشمل حياة الكنيسة كلّها، وباتت حياتها ليتورجيّا دائمة، وليتورجيّتها حياة لها دائمة!
أمّا “الحياة الرهبانيّة” فهي “عبور”ـ تخضع لشريعة النموّ والتدرّج لبُنيان ذاتٍ جديدة. هي موت الإنسان الأوّل وولادة لإنسان جديد يحقّق سرّ المسيح. هي تعني، في العمق، عيشَ المسيح، وتنشئة دائمة ومستمرّة بالمسيح. من هنا، صارت “الحياة الرهبانيّة” “ليتورجيّا حيّة ودائمة”، أي، “فعل عبادة بالروح والحقّ”!
“طريقة عيش الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة”، عندنا، تقوم على عيش “المسيح الممجّد في سرّه الخلاصيّ” عبر مدرسة إيمانيّة تنطلق من عيش “السنة الطقسيّة”، الّتي هي مسيرة وصيرورة، تتمّ في أطر الزمان وأبعاده، وتقوم بُنيتها على محطّات التدبير الخلاصيّ ومراحله، وتكتمل دورتها حول سرّ المسيح الفادي؛ كما، تنمو، هذه “المدرسة الإيمانيّة” في “عيش الأسرار الإلهيّة”/ أسرار الكنيسة لكي تصِلَ بالراهب إلى عمق الشراكة بالمسيح الممجّد. لأنّ بين الحياة الرهبانيّة وعيش الأسرار تفاعلاً وتكاملاً يُفضيان إلى تبدّلٍ وتحوّلٍ في حياة الراهب وكيانه. وهذا ما نلمسه في سرّ العماد وأبعاده التربويّة، وفي سرّ التوبة وتحرير الذات من الشرّ؛ وفي سرّ القربان، سرّ حضور الربّ وتدَخُّله المباشر في تاريخ الإنسان، ودعوته إلى الاتّحاد الكامل فيه وإلى الأبد.
“عيش الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة” هي تمرّس بالحسّ الرهبانيّ الجماعيّ، وتربية على روح الانضباط وتنشئة على الدقّة في المعاملة، إلى جانب الارتقاء بالراهب في ذوقه السليم على كلّ الصُعُد. فالجماعة الرهبانيّة هي جماعة كنسيّة مصلّية، تُبنى في وَحدتها، وترقى في تماسكها الكيانيّ. هي تتربّى على إخلاء الذات من أجل كينونة الآخر (الربّ يسوع وكلّ من ينتمي إليه) ومعه. هذه “الجماعة الرهبانيّة الليتورجيّة” تفتّش عن الأصالة والتجذّر، كما هي تنفتح على كلّ جديد ومفيد عند الآخر، وتعمل على الاندماج فيه، بهدف التعبير عن العمق الروحيّ عندها.
لا يمكن لأيّة ليتورجيّا تُعاش بصورة شخصيّة، وبعمق ذاتيّ مع الله، أن تأخذَ كلّ أبعادها العلائقيّة الفعّالة، ما لم تكن متأصّلة في عمق شركة الحبّ والحياة، الّتي تبني الجماعة الرهبانيّة بأكملها. لأنّ الليتورجيّا الرهبانيّة هي، قبل كلّ شيء، صلاة الكنيسة الّتي تعيش، في وحدة الروح، سرّ اتّحادها بالمسيح، عريسها ورأسها! والجماعة الرهبانيّة الليتورجيّة تشكّل بيئة روحيّة مُثلى وإطارًا روحيًّا حيًّا لنموّ الرهبان وتجدّدهم في عيشهم الرهبانيّ. والربّ، الّذي يصلّيه الرهبان، يوحّدهم ويبني داخلهم في المحبّة.
إلى هذا كلّه، “الحياة الرهبانيّة” مقدَّسةٌ ومقدِّسة، ركيزتُها الأولى والأساسيّة الصلاة والليتورجيّا. والراهب السريانيّ المارونيّ هو، قبل كلّ شيء، رجل صلاة، وصلاته هي عمله الخاصّ. “صلاته الفرديّة” تقوم على التجرّد، والصمت والسكينة، وزيارة القربان، والعزلة في “القلاّية” (من Cellule)/ “كنيسة الراهب الخاصّة”، الّتي تساعده في نموّه الروحيّ، وتسمح له أن يخلوَ إليها ليكونَ “وحيدًا مع الوحيد”. يجمع ذاته من شتاته ليطرحَها أمام الّذي دعاه ليتوحّد فيه ويصيرَ كاملاً. أمّا “الصلاة الفرديّة” فتتوزّع بين “قراءة إلهيّة” (Lectio Divina) للكتاب المقدّس، لأنّها صلاة كاملة، فيها يلتقي الراهب مع ربّه؛ وتأمّل في السرّ الإلهيّ، وصلاة المسبحة الورديّة، والمسبحة الشرقيّة الّتي تتأمّل الرحمة الإلهيّة، وتقود إلى الهذيذ الروحيّ والتأمّل بأحداث التجسّد الإلهيّ، وزيارة القربان الأقدس، وترتيل للمزامير، وصلاة عقليّة وقلبيّة، وقراءة لِسيَر القدّيسين لاقتفاء آثارهم والوصول إلى الاتّحاد الكامل بالربّ!
الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة: نظرة مستقبليّة
بانيّة وتبنيها، والحياة الرهبانيّة تولد من رَحِم الليتورجيّا والصلاة الجماعيّة، والمائدة القربانيّة، قمّة الليتورجيّا. فلا رهبانيّة من دون ليتورجيّا، والاثنتان تفترضان صفةً “جماعيّة”. هذا يضعنا أمام تساؤل كبير وتحوّل جذريّ: كيف نعيش رهبانًا في رهبانيّة، ونركّز على عبادة فرديّة؟ هذا أمرٌ يحتاج، حتمًا، إلى إعادة نظر في دعوتنا الرهبانيّة وفي حياتنا الليتورجيّة.
قد نقع على جماعات رهبانيّة ينقصها الانصهار الجماعيّ والانسجام الإنسانيّ والتآلف الرهبانيّ بين أفرادها. وهذا قد يؤثّر سلبًا على “الحياة الليتورجيّة” في عصرنا الحالي. وسؤالنا يبقى: كيف لنا أن نعيشَ رهبانًا، في رؤيةٍ رهبانيّة موحّدة، إن لم نلتقِ في وحدة روحيّة ليتورجيّة كاملة؟ والجواب واحد: “الحياة الرهبانيّة” تعيش منطق الرمزيّة، منطق الرحيل المستمرّ من الواقع المحسوس إلى ما هو أبعد من المنظور والمحسوس، إلى الحقيقة؛ وهي تشبه، بذلك -إلى حدٍّ بعيد- “الحياة الليتورجيّة” الّتي هي قائمة على الرموز: الخبز والخمر، الماء والزيت، الجماعة الليتورجيّة… إلخ، والّذي يكتفي بما يراه لا يكتشف الحقيقة، أمّا الّذي يرى الأبعادَ الرمزيّة، فهذا يعرف الحقيقة بجوهرها. “الحياة الرهبانيّة” تقوم وتقوى وترسخ في “الليتورجيّا”.
قد يصعب التنبّؤ في مستقبل “الحياة الرهبانيّة”، وكذلك تصوّر العلاقة بينها وبين “الليتورجيّا”. لكن في الحقيقة، يجب أن نكوّنَ رؤيا رهبانيّة واضحة، رؤيا نبويّة، إذ لا يمكن أن تقومَ رهبانيّة بغربةٍ عن الليتورجيّا. يجب أن تعيشَ “الجماعة الرهبانيّة” الليتورجيّا، بأعمق ارتكازاتها وبأسمى قممها. وهذا يفترض رهبانًا مدعوّين راسخين، ناضجين إنسانيًّا وروحيًّا، ثابتين في إيمانهم، وساعين نحو هدف دعوتهم الروحيّ، الكمال والقداسة.
“الجماعة الرهبانيّة الليتورجيّة” ليست تجَمُّعًا عدديًّا. هي جماعة موحّدة بممارستها الأسرار وبصلاتها الدائمة. وحدتها تنبع من داخل حياتها الليتورجيّة، لأنّها جماعة روحيّة في أساس دعوتها الرهبانيّة. “الجماعة الرهبانيّة الليتورجيّة” تكون مشدودة الأنظار إلى العالم الآخر، إلى ملكوت الله.
هذه الناحية “الإسكاتولوجيّة”، المعاديّة، النهيويّة، هي قمّة احتفالات الجماعة الرهبانيّة الليتورجيّة. هذه الجماعة ليست منغلقةً على ذاتها. هي منفتحة على أبديّة تؤمن بها، وتعيش لها بالرجاء المسيحيّ. هذه الجماعة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة تعيش انسجامًا وتناغمًا حياتيًّا وروحيًّا، لأنّها ترى المستقبل ببُعدِه الروحيّ. منطقها لا يستوي إلاّ بمقياس الله، وهو بعيدٌ عن مقاييس البشر. هذه الجماعة الرهبانيّة تبقى مثالاً تسعى إلى تحقيقه كلّ رهبانيّة في قلب الكنيسة.
“مستقبل الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة” يرتبط بالأصول والجذور، بالينابيع الّتي منها تستقي الحياة الرهبانيّة؛ هذه “الينابيع الروحيّة” تتنوّع وتتعدّد بحسب مواهبيّة كلّ جماعة رهبانيّة، لكنّها ترتكز كلّها على “العبادة القربانيّة”. لأنّ “القربان، جسد ربّنا يسوع المسيح ودمه هو “تقدمة الجماعة الرهبانيّة المشتركة”، وهو “رباط وحدتها” و”سرّ المحبّة” في تكوينها. فلا مستقبل للحياة الرهبانيّة بعيدًا عن هذا الأساس المتين والصخر الراسخ. مع “القربان”، لا رمال متحرّكة، ولا يأس، ولا خوف!
ويرتكز “مستقبل الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة” على الغوص في التفكير بعيش الحياة الرهبانيّة باتّحاد كامل، ووحدة لا انفصام فيها، مع المسيح، “وجه الآب وابنه الوحيد”. “الراهب وحيدٌ مع الوحيد” في تأمّل وصلاة دائمَين. هذا الاختبار مع الله الآب وابنه الوحيد ربّنا يسوع بشركة الروح القدس، يجب أن يشكّل توقًا دائمًا إلى المطلق عند كلّ راهب يتوق إلى الكمال والقداسة. من هنا، تأتي الفضائل الإلهيّة لتعزّزَ هذا التوق وترسّخه. يعيش البتوليّة من أجل الحبّ وبالحبّ، يهوى الوحدة مع الله ليوحّد قلبه ببساطة الحياة، بسكون وهدوء وصمت. حياته منجذبةٌ نحو الله، مُبدِئها وغايتها. هو يوجّهُها في روحيّة جذريّة ليُجيبَ عن حبّ الله الجنونيّ له: موتٍ على الصليب! هو يرغب في أن يتبعَ المسيح، على خطاه وفي إثره، حاملاً الصليبَ حتّى بذل الذات. ولأنّه دخل في منطق الإنجيل، يتخلّى عن كلّ شيء، علامةً للملكوت. يُطيع لأنّه انقاد للروح القدس ولإلهاماته. صار في حالة إصغاءٍ وانقيادٍ حرٍّ للروح، “وحيث يكون روح الربّ، تكون الحرّيّة” (2قور 3: 17). همُّه الوحيد أن يعكسَ صورة مجد الربّ في وجهه المكشوف كمرآةٍ؛ وتتحوّل صورتُه إلى صورة وجه المسيح، وتزداد مجدًا وألقًا وقداسة!
خلاصة
الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة”، اليوم، أمام تحدّيّات كبرى، لأنّ الجماعات الرهبانيّة تسعى لتجسّدَ، بكلّ صفاءٍ وجذريّة، دعوتها المسيحيّة الكاملة. هي تعي، جيّدًا، أنّها مدعوّة لأن تكونَ خميرة الأبرار في عالم اليوم. لذا، تراها أمام تحدّيّات خطيرة:
أوّلها: تحدّي التخلّي والتوحّد للتأمّل والصلاة، لأنّه لا يجوز أن تقومَ حياة رهبانيّة بعيدًا عن هذا التراث الرهبانيّ العريق في الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة. ولأنّه لا يمكن أن تقومَ جماعة رهبانيّة لا تعيش التخلّي والزهد والنسك للتأمّل بكلمة الله والصلاة الدائمة في سبيل الاتّحاد به!
ثانيها: تحدّي التناغم والانسجام والمؤالفة ما بين الحياة الديريّة الجماعيّة والرسالة والتبشير بالإنجيل. كم هو صعب هذا الأمر! لكن، هذا لا يجب أن يمنعَ الراهب من وعيه الكامل لدعوتِه: عليه أن يعيشَ مشدودًا إلى الداخل والباطن، والتفتيش عن ملكوت الله في ذاته. هو ملزمٌ بهذا البُعد التوحّديّ الصامت، التأمّليّ، لكي يتتلمذ للملكوت، ويَغُبَّ من تعاليم الربّ في الإنجيل لكي ينطلق، مُشبعًا، إلى الرسالة والتبشير، لأنّهما نعمة الكنيسة وهويّتها الأصليّة.
“الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة” هي، أيضًا اليوم، أمام تحدّيّات كثيرة وخطيرة، إذ لا حياة ليتورجيّة خارجًا عن كيانٍ جماعيٍّ كنسيّ؛ ولا حياة رهبانيّة بعيدًا عن ليتورجيّا كنسيّة صافية، وبعيدًا عن الصلاة وفعل العبادة بالروح والحقّ. لأنّ الليتورجيّا تربّي وتقوّم، وتتعهّد وتبني، وتؤتي تحوّلاً ونموًّا نحو الكمال، لأنّها من عمل الروح القدس.
“الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة”، تفترض، مستقبلاً، أطرًا مُحدّدة واضحة، لا يمكن التغاضي عنها: الجماعة الرهبانيّة الديريّة من جانبٍ، والحياة الليتورجيّة والصلاة والعبادة الجماعيّة، من جانبٍ آخر؛ لأنّ الربّ يسوع المسيح هو هدف الاثنتَين: الحياة الليتورجيّة والحياة الرهبانيّة. هو محورهما وقوامهما، ومبرّر وجودهما، وغايتهما!
إذا كانت الحياة الرهبانيّة، عمومًا، تدرّجًا في خطى ربّنا يسوع المسيح، “والحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة” وعيًا لهذه الدعوة، وولوجًا أعمق في سرّ الربّ يسوع -الإله المتجسّد- الخلاصيّ؛ فهذا يعني ويفترض عيشًا واعيًا، وتعمّقًا والتزامًا بالليتورجيّا، بكلّ مكوّناتها وأبعادها، وبحياة الأسرار الإلهيّة!
“الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة”، حياتان متلازمتان تنموان معًا لتُقدّسا المدعوّين في إطار الجماعة الرهبانيّة الديريّة. كلاهما علامتان ترمزان إلى حقيقة غير منظورة وغير محسوسة، إلى حقيقة ملكوت الله. لذا، لا يُعقل بأن تقومَ حياة رهبانيّة من دون ليتورجيّا! كما يمكننا القول: بقدر ما يعيش الراهب في عزلة عن البشر، وبمنأى عن عبادة الذات، بهدف عيش الليتورجيّا، الّتي تُصهره وتُروحنُه، بقَدرِ ذلك تُلبسُه “وشاح المجد” (آِسطَل شٌوبحُا)، وتردّه إلى البنوّة الحقيقيّة لله، حيث يدخل في عهد الروح القدس الّذي يحرّك كلّ أعماله، ويهمس في أعماقه ليقودَ خطاه نحو الملكوت والكمال والقداسة!
هذه هي “الليتورجيّا في الحياة الرهبانيّة السريانيّة المارونيّة”. عسانا نكون قد أضأنا على بعضٍ من تاريخنا وحاضرنا، وتلمَّسنا بعضًا من آمال مُستقبلنا، لخير الكنيسة الجامعة، ومجدِ الربّ الّذي دعانا لنكونَ شهودًا له!
[1]* راهب لبنانيّ.
[2]– البابا بيّوس الثاني عشر، “وسيط الله”، رسالة بابويّة عامّة، 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، تتناول المبادئ الليتورجيّة.
[3]– البابا بيّوس الثاني عشر، “وسيط الله”، ص 2.
[4]– تاريخ يوسف بوسنايا، كتبه تلميذه يوحنّا بن كلدون، وترجمه وعلّق عليه القسّ يوحنّا جولاغ، بغداد 1984 (ص158-169). ترجمه J.B.CHABOT، ونشره فيOrient Chrétien مجلّد 4 و5 (1899- 1900). كما أعيد نشره في l’Evangile au désert باريس 1967، ص222-235.