منذ عام 2014 بدأ غليان تشريعي حول الحركات الأصولية في أوروبا؛ وما اقتصر الأمر على تعديلٍ لبعض المواد في قوانين الإرهاب، وإنما في آلية سير المؤسسات الأصولية وطريقة عملها… دول أوروبية بدأت تباعاً تجرم الجماعات الإرهابية ومنها أذرع لـ«الإخوان المسلمين»، وهو تجريم ضروري من أجل تهيئة أجواء مريحة للمسلمين من أجل تحقيق الاندماج.
انطلاقاً مما مضى أقام مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي ندوة قسمت على جزأين؛ أولهما عن الباحثين الأوروبيين ودراسة الإسلام السياسي، التوجهات والثغرات، وقد تحدث بها الدكتور وائل صالح، حيث انتقد الثغرات التي غزت التحليلات والبحوث في الأكاديميات ومراكز الدراسات الغربية. الجزء الثاني بعنوان: بنيوية العنف في الحركات الإسلاموية، وهم التمايزات بين السياسي والإرهابي أوروبياً، وقد توليت الحديث عن ذلك. وأدارت الندوة الدكتورة ريتا فرج.
لا يمكن إهمال جدل خريطة الإسلام السياسي في النمسا، ذلك أن وزارة الاندماج النمساوية نشرت خريطة أعدت بعناية، وبحسب الخبر فهي: «تحوي أسماء 623 مسجداً ومنظمة ورابطة إسلامية، والمقر الرئيسي لكل منها في النمسا، وتم إصدارها بتكليف من مركز توثيق الإسلام السياسي الذي تأسس في عام 2015 كصندوق مستقل في جمهورية النمسا»، واسم المؤسسة المعنية «الصندوق النمساوي لتوثيق التطرف السياسي ذي الدوافع الدينية»، والعجب أن ردة الفعل لم تقتصر على التهديد الشديد من الأصوليين لكتبة الخريطة، وإنما من المفوض الخاص للمجلس لمكافحة جرائم الكراهية والتعصب المعادي للمسلمين، دانيل هولتغن، الذي أصدر بياناً ورد فيه: «الخريطة تجاوزت الهدف المراد منها، كما أنه من المحتمل أن تكون ذات تأثير عكسي، ونشر الخريطة اعتبره كثير من المسلمين بمثابة اشتباه عام حيال الإسلام، نظراً للشكل الذي جاءت به الخريطة وتوقيت نشرها». كما ورد في البيان.
إن عدداً لا بأس به من الباحثين الفرنسيين المتخصصين بالحركات الأصولية ينطلقون في أبحاثهم من بيئات يسارية، ولذلك تأتي بحوثهم عن الأصولية بطريقة عاطفية، إذ يلقون بلائمة انتشار الإرهاب والعنف على قمع الحكومات العربية أو الإسلامية، ومن أولئك أوليفيه روا، الذي أجرى مداخلاتٍ معه وضده رضوان السيد وعلي حرب، أبدأ بالتمثيل به باعتباره من أبرزهم يأتي معه جيل كيبل، وستيفان لاكروا، وآلان غريش، وآخرون.
أما فرنسوا بورغا صاحب كتاب «فهم الإسلام السياسي»، فهو الأكثر قدرة على تفهم الحركة الأصولية، والتعذير لها، ومن آخر صيحاته النظرية ما تحدث به في مارس (آذار) الماضي، وخلاصة قوله: «اليسار الإسلامي، أو اليساريون الإسلاميون المُبغَضون قد يكونون الحل للنزاع داخل الحركة الإسلامية»!
وهذه الصيغة جرّبت في الخليج والسعودية تحديداً تحت اسم «التنوير الإسلامي»، وهو مزيج من النتاج الإخواني، ومن تنظير اليسار الإسلامي الذي بدأه حسن حنفي مع مجموعة من المفكرين المصريين، ويزدهر في تونس مع صلاح الدين الجورشي وأحميدة النيفر ومحمد القوماني. إنها حيلة من اليسار الذي ينتمي إليه بورغا لضرب الأفكار اليمينية المعتدلة المدافعة عن الدولة الوطنية والمشاريع التنموية، ولا غرو أنَّ فكرة اليسار الإسلامي لقيت رواجها في العالم الإسلامي ومن أكبر المتأثرين بها حزب العدالة والتنمية التركي، وأثرت فيه أيما تأثير.
القصد من استعادة بورغا لليسار الإسلامي كبديلٍ عن الصراع بين الإسلامية الرسمية، والإسلامية الحركية إشراك الدول في المسؤولية عن العنف والإرهاب، بسبب ما يعتبرونه القمع أو الاضطهاد أو الاستبداد، وهي صيغة تحليل أساسية في مناهج الباحثين اليساريين وخصوصاً الفرنسيين منهم.
اعترضتُ في الندوة على الزميل وائل صلاح حول مفهوم: «ما بعد الإسلاموية»، الذي تحدث عنه وحاضر به، وقد كتب عنه أيضاً آصف بيات كتاباً يحمل ذات العنوان.
إذا كان القصد من الحديث عما بعد يعني وصوله لذروة معينة، على حد قصد فاتيمو في تعبيره عن «نهاية الحداثة»، ومن ثم بعد الوصول للذروة أو النهاية يتفتّق عن الظاهرة أشكالها الجديدة بألبسة مختلفة وبقواميس ومفردات أكثر عصرنة يصعب تمييزها، فإنني أتفق معه، فالذروات تخلق أشكالاً مختلفة، لكن من دون المساس بأصل الفكرة ولا بهدف الظاهرة، إلا أنه من المستحيل الحديث عن «نهاية» بمعنى الانتهاء التام، وهذا ما لم يقصده وائل بشكلٍ كامل.
ثم إنَّ الحركة الأصولية بأوروبا قادرة على تهيئة نفسها لمناخاتٍ أعنف، منذ هجرة سعيد رمضان إلى جنيف وإلى حفيده طارق رمضان المقيم في فرنسا سارت أجيال إخوانية كثيرة على أرض أوروبا، ولكن الزي اختلف والمنطق اختلف. لم يدرس سعيد رمضان نيتشه كما فعل حفيده، ولم يصل إلى مستوى المخاتلة النظرية العالية مع الفلسفة الغربية إلى إصدار كتابٍ مشترك مع فيلسوف قدير مثل إدغار موران، ولكن الهدف الأساسي الذي لدى الجد سعيد، هو ذاته لدى طارق الحفيد.
خلاصة القول؛ إن التحدي أمام الحكومات الغربية لا يزال قائماً، ولكل دولة طرقها في إيجاد الحلول، ولكن لا شك أنَّ انفلات المؤسسات الإخوانية سيضر بحالة المسلمين هناك، وبخاصة مع اشتداد الأزمات الاقتصادية بمحيط أوروبا وازدياد حالات الهجرة.. أهم الطرق لتطويق الأصولية الكارثية حصر المؤسسات بالفقه وخطابات العبادة والواجبات والفرائض، وصياغة خطاب إسلامي داخل بيئات المهاجرين لتشجيعهم على الاندماج العميق، من أجل الاستفادة القصوى من الإقامة هناك والتزام القوانين واحترام الأديان، وهذا جهد يحتاج إلى تعاضد بين الحكومات الأوروبية وبين الحكومات والدول المعتدلة، وعلى رأسها السعودية قائدة العالم الإسلامي، ورائدة الاعتدال السياسي.