-1-
لم ينقطع سؤال التجديد داخل العالم الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر. النقاش الذي ثار تحت صدمة الاحتكاك بالحداثة الغربية، بدأ قويًا، وظل يدور حول تلك العلاقة الملتبسة بين ثقافة التراث الديني وحالة التراجع الحضاري المزمنة التي كشفت عنها الصدمة. في هذا السياق المبكر ظهر تيار “النهضة”، وجرى استخدام مصطلح “الإصلاح” الذي يعبر عن الحاجة إلى إدخال تعديلات هيكلية في بنية “النظام الديني” الموروث، بغرض التوفيق بينه وبين “النظام الاجتماعي” الآخذ في التطور.
لكن اللحظة الإسلامية الراهنة تكشف عن تراجع نسبي لهذا الزخم التجديدي. فبالرغم من تفاقم حجم التطور الاجتماعي الجاري قياسًا إلى بدايات القرن الماضي، تبدو طموحات الفكر التجديدي اليوم وكأنها تتقلص من مستوى الحديث عن إصلاح “موضوعي” شامل، إلى الحديث عن تطوير لغة “الخطاب الديني”. وهي صياغة مخففة لفكرة التغيير، تكاد تبدو اعتذارية، وتعكس بوجه خاص حالة التحسس السياسي المبالغ فيه حيال المشكل.
ويقرأ هذا التراجع بوجه عام في إطار رد الفعل المباشر لمتغيرين صريحين: 1- ظهور وتفاقم الفكرة الأصولية، التي تحولت بفعل عوامل داخلية وخارجية مساعدة إلى تنظيمات سياسية منظمة، وتيار فكري واع بذاته وبقدرته على تصدير ضغوط اجتماعية مضادة. 2- تراجع جاذبية “الحداثة” كفكرة تنويرية، جرى تجاوزها تحت سهام النقد النظري والسياسي، بعد أن تم ربطها في الفكر الغربي بأزمات التطور “العملي” ومشاكل “العلمانية” والنظام الرأسمالي بوجه خاص.
-2-
في السياق التجديدي المبكر ظهر مطلب التغيير في إطار التعاطي مع “أزمة” تتعلق بالواقع، أي لحساب النظام الاجتماعي، المتململ من هيمنة الثقافة الدينية. وجرى التعبير عن هذا المطلب بشكل عفوي صريح: النظام الديني لم يعد قادرًا على تقديم إشباع كامل أو سلس لحاجات النظام الاجتماعي، أو النظام الاجتماعي لم يعد قادرًا على تحمل الإكراهات التقليدية للنظام الديني.
لكن هذه العملية تتم –في الوقت نفسه وبشكل غير مباشر- لحساب النظام الديني، الذي يتعين عليه الآن مواجهة الضغوط التي يفرضها قانون التطور: الهياكل الكلية (الاقتصادية/ الاجتماعية/ السياسية/ الثقافية) لم تتغير على نحو جذري، أي لم تصل بعد إلى درجة التطور الكافية لزحزحة النظام الديني فعليًا، أو لفرض تحولات ذات طابع جوهري عليه. لذلك يظل من اللازم أن تحصل “موافقة” نظرية من داخل هذا النظام على عملية تطوير “جزئي” تأخذ شكل الاستجابة الاختيارية، فيما هي في الواقع رد فعل اضطراري من قبل النظام الديني حيال ضغوط التطور.
تاريخيًا وبحكم طبيعته الدوجمائية، لا يتنازل النظام الديني طواعية عن سلطته الملزمة داخل المجال العام، بل يضطر إلى هذا التنازل عمليًا وبشكل تدريجي بطيء تحت الضغط، حيث يفرض “الجديد الاجتماعي” نفسه عليه بحكم الواقع، فيما يظل هو محتفظًا لبعض الوقت بسلطته النظرية. في هذه الحالة -الاعتيادية- لا يطلب الجديد الاجتماعي موافقة مسبقة من النظام الديني، الذي -بدوره- لا يمنح قبولًا رسميًا بمشروعية الجديد، بل يواصل الجديد حضوره بقوة الأمر الواقع، إلى جوار السلطة النظرية المعطلة (راجع مثلًا التجاور الراهن داخل المجتمعات “الإسلامية” بين أحكام الفقه التقليدي المتشددة، وأنظمة اجتماعية واقتصادية سائدة تتعلق بالاختلاط، والأزياء، والملابس، والفنون، والبنوك، ووضع المرأة، والأقليات، و…)
لسنا هنا بصدد تجديد ديني، بل بصدد تجدد اجتماعي مباشر. التجديد الديني عملية قصدية منظمة، تُجرى بواسطة النظام الديني ذاته، بالتأسيس على آلياته الداخلية ذات الطابع التأويلي، وتتضمن الإقرار من جانبه بواقعة التجدد الاجتماعي، التي يعاد تسكينها داخل حدوده الافتراضية الواسعة. لكنها في الوقت نفسه تؤكد حاجة النظام الاجتماعي لمثل هذا الإقرار. وهي بهذا المعنى تكشف عن معطى مزدوج:
- النظام الاجتماعي يتطور بما يكفي لتشكيل ضغوط على النظام الديني.
- النظام الديني لا يزال قويًا بما يكفي لعكس هذه الضغوط على النظام الاجتماعي، ومن هنا تظهر حالة “التوتر” الذي يُستهدف رفعه من خلال عملية التجديد.
-3-
ضمنيًا، تعكس الظاهرة الأصولية داخل السياق الإسلامي نوعًا من رد الفعل الدفاعي للنظام الديني حيال ضغوط التطور. وهي تنصب نفسها كممثل “وحيد” لهذا النظام في ظل الفراغ الناجم عن غياب “مؤسسة” تمثيلية جامعة ومعتمدة نصيًا كما في النظام الكاثوليكي. وهو الفراغ الذي لم تملأه الدولة (الوطنية) على الرغم من تقمصها المعلن لدور حراسة الدين، من خلال “الطبقة الفقهية” القديمة التي جرى استلحاقها مبكرًا بجهاز الدولة الرسمي، والذي صار يطلق عليها بتساهل مجازي وصف “المؤسسة الدينية”.
لعقود طويلة ماضية في ظل المناخ العام الذي فرضته الحالة الأصولية، تبدو الدولة الوطنية مترددة بعض الشيء حيال دورها “الديني” الثقافي المعلن، وتظهر متراجعة بوجه خاص حيال الهدف التجديدي الذي اشتغلت عليه منذ البداية بشكل محسوب، والذي يدخل في أصل تكوينها بحكم النشأة التاريخية، حيث كان ظهورها في حد ذاته واقعة تجديدية، ظلت تتكرس تدريجيًا على حساب الشكل والمضمون التقليدي للدولة الدينية.
وفي هذا السياق تبدو التوجهات التجديدية التي يجري التعبير عنها أخيرًا من قبل الدولة السعودية، وكأنها خطورة معاكسة للتيار السائد. على الرغم من كونها خطورة منطقية تستعيد، بشكل مفهوم، الدور الطبيعي للدولة كممثل حقيقي لروح المجتمع، أعني لطبيعته العاقلة ولقوته القادرة معًا.
يتبع