-1-
يتوجس العقل الديني إجمالًا من مفردة التجديد، التي تتعارض مبدئيًا مع تصور الدين كنظام “مطلق” أي مفارق كليًا للاجتماع وغير قابل للتغير. وفي الوعي الإسلامي تتداخل فكرة التجديد بشكل مباشر مع فكرة “البدعة” التي تحذِّر من مقاربة “المحدثات” عمومًا وفي الدين بوجه خاص، بوصفها ضلالة مفضية إلى النار.
ومع ذلك أمكن للتقليد الإسلامي بطابعه النقلي أن يستحضر مصطلح التجديد إلى دائرة التراث من خلال “نص” ثم يسقط عليه تأويله الخاص بحيث لا يكتفي بتفريغه من أي دلالة تشير إلى معنى “التغيير” فحسب، بل ليضفي عليه دلالة “التثبيت” وليؤكد من خلاله مشروعية التقليد.
أشير هنا إلى الحديث المشهور الذي أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم (4291) عن أبي هريرة: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”. (وهو حديث “صحيح” بمقاييس الإسناد السلفية؛ حيث صححه الحاكم في المستدرك، والسخاوي في المقاصد الحسنة، والسيوطي في الجامع الصغير، وابن حجر في فتح الباري، وحظي أخيرًا باعتماد الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة “599”…).
ومعنى الحديث –كما يشرح الشيخ ابن باز- “أنه كلما انحرف الكثير من الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم نعمته ورضيه لهم دينًا، بعث إليهم علماء أو عالمًا بصيرًا بالإسلام وداعيًا رشيدًا يبصر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع، ويحذرهم من محدثات الأمور، ويردهم عن انحرافهم إلى السراط المستقيم كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم). فسمى كل ذلك تجديدًا بالنسبة إلى الأمة، لا بالنسبة إلى الدين الذي شرعه لهم وأكمله، فإن التغيير والضعف والانحراف إنما يرد مرة بعد مرة على الأمة، أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)”.
(فتاوى اللجنة الدائمة 247/2-248).
-2-
لا يطرح التجديد هنا إطار النقاش حول الواقع الاجتماعي المتغير وعلاقته بالنظام الديني (المدونة التكليفية الفقه كلامية السائدة)، أي لا يطرح كمشكل يتعلق “بأزمة” المجتمع في اللحظة الراهنة وقدرة المدونة على تقديم حلول لها، بل كمشكل يتعلق بانحراف المجتمع عن المدونة التي تمثل جادة الدين. نحن حيال نقاش “فقهي” تقليدي غارق في سياقات التفكير السابقة على الحداثة. فهو لا يجري لحساب النظام الاجتماعي، أو لحساب التشابك الديني الاجتماعي، بل فقط لحساب التقليد الديني الذي تمثله مدونة “مذهبية” بعينها.
في التداول المعاصر، يشير مصطلح التجديد الديني إلى: 1- عملية “تغيير” في منطوق المدونة التكليفية، 2- تجري تحت ضغط الواقع الاجتماعي المتطور، 3- بإقرار ممثلي المدونة ومن خلال آلياتها الداخلية. يقر الوعي “السلفي” ضمنًا بحدوث واقع اجتماعي جديد لا يتوافق مع المدونة. لكن الذي يجب أن يتغير هنا هو الواقع الاجتماعي ذاته، وليس المنطوق التكليفي للمدونة، سواء على مستوى التشريع أو التصورات المفهومية.
يرادف الوعي السلفي تلقائيًا بين مدونته التفصيلية الموروثة والدين كمطلق كلي إلهي غير قابل للتطور، بصرف النظر عن حقيقة “التعدد” الطبيعي التي يكشف عنها وجود “مدونات” تفصيلية متعددة تدعي كل واحدة منها تمثيل الإسلام بشكل حصري. وهو، لذلك، لا يتصور ورود التغير على المدونة، بصرف النظر عن حقيقة “التطور” التاريخي، التي تشير إلى ارتباطها، ككل مدونة، بسياقات وظروف تشكلها الزمنية التي صدرت عنها، والتي لم تعد مطابقة لسياقات الواقع المعاصرة.
-3-
ينزع التصور الديني عمومًا إلى تغييب المعنى الاجتماعي لحساب الفكرة المطلقة. وفي التصور الإسلامي جرى تكريس هذه النزعة نظريًا بتأثير الرؤية “الكلامية” الأشعرية التي سيطرت على مجمل الوعي السني بالاشتراك مع الرؤية “الأصولية” الشافعية. وتم ذلك، على حساب الموقف الاعتزالي الأكثر اعتدادًا بالحضور البشري في المعادلة، معادلة الدين والاجتماع.
آمن المعتزلة بقدرة العقل -دون مساعدة الوحي- على التمييز بين الحسن والقبيح في ذاته، ومن ثم بقدرته على إدراك العلة الكامنة في أحكام الشريعة. بينما نفت الأشعرية وجود حسن أو قبح في ذاته بالنسبة للإنسان، وأنكرت -من ثم- قدرته على إدراك علة الأحكام: الله غير ملزم ببيان هذه العلة، بل غير ملزم أصلًا بأن تصدر أحكامه لصالح الإنسان أو لأي علة على الإطلاق، وعلى ذلك ليس ثمة علل للتشريع الإلهي ولا طائل من البحث عنها، فالعلة حتى حال إدراكها ليست سببًا للتشريع بل اقترنت به اقترانًا عرضيًا، (وهو امتداد للموقف الأشعري المعروف في نفي الطبع أو قانون السببية) والنتيجة هي اعتبار المصلحة الكامنة خلف التكاليف هي طاعة التكاليف في ذاتها بوصفها المصلحة الوحيدة الجديرة بالاعتبار في عملية التشريع، أي تغييب المعطى البشري (الاجتماعي) كليًا عن هذه العملية.
كانت الأشعرية قد اندمجت مع منظومة أهل الحديث ذات الطابع الفقهي النقلي، بعد أن قدمت لهذه المنظومة دعمًا نظريًا كلاميًا لم تكن تتوافر على أدواته. وفي ظل النزوع الموروث للعقل العامي الأسهل تقبلًا للنقلية، وبمساعدة العامل السياسي الممثل في سلطة الدولة خصوصًا بعد انقلاب المتوكل “السني”، تم تعميم وتثبيت الرؤية النقلية المطعمة بالروح الأشعري، الأمر الذي كان يعني تعميم وتثبيت نمط تدين أقل واقعية (اجتماعية) ومن ثم اغترابي.
بسبب الاعتبار الذي يسديه الموقف الاعتزالي إلى العقل والفعل الإنسانيين (قدرة التمييز، وقدرة خلق الأفعال) كان هذا الموقف مرشحًا لإدراك الطبيعة الاجتماعية للتشريع، إلا أنه لم يصل تمامًا إلى هذه المنطقة من البحث، بسبب قوة الإشعاع السلفي، وبسبب بقائه داخل دائرة التفكير الكلامي التي انطلق منها. لامس المعتزلة فكرة العلل الكامنة وراء الأحكام، وكونها ضرورية على الشارع من جهة استهداف الخير (الحسن) أو صالح الناس. ولكن النقاش انصب على هذا الصالح من حيث هو فكرة ميتافيزيقية وفردية غالبًا، لا من حيث كونه مصلحة اجتماعية عامة، نسبية ومتغيرة في الزمن، ولذلك لم يتطرق إلى إمكانية تغيير التشريع بتغير المصالح كفكرة كلية شاملة.
ومع ذلك يلزم قراء الموقف الاعتزالي في ضوء الطور العقلي العام، الخاضع حينذاك لموروثات التفكير التقليدية واعتبارات الذهنية اليونانية، والذي لم يكن بعد مهيأ للوقوف على “المجال الاجتماعي” كمفهوم مستقل مقابل “المجال الفردي” من ناحية، و”المجال الديني” من ناحية ثانية. وهي المقابلة التي ينظر إليها الآن كأحد إنجازات العالم الحديث.
-4-
على مستوى الأصول، قدم الشافعي إسهامه النظري في تكريس المعنى المطلق (الثابت) على حساب المعنى الاجتماعي (المتحرك). وهو إسهام مركزي في عملية إعادة التأسيس التي شكلت التصور الإسلامي في صيغته النقلية القائمة. وضع الشافعي روايات الآحاد في موقع “النص” المكافئ لحجية القرآن، فوسع دائرة النصوص، واعتبرها كافية لتغطية الوقائع والحوادث جميعًا عبر الزمن، إما بدلالاتها المباشرة أو عن طريق “القياس” الذي أعلنه كآلية وحيدة للتعاطي مع الوقائع الجديدة، التي افترض أنها لن تخرج عن دائرة النصوص. هذا التصور الشافعي الذي قننته النظرية الأصولية في القرن الثالث صدر موافقًا لسياقاته المعرفية والاجتماعية: فالواقع الذي عايشه الشافعي في القرن الثاني الهجري ظل مشابهًا في الجملة لواقع النص الأول. فبالرغم من التطورات الفرعية التي نتجت عن حضور الإسلام وتداعياته السياسية والديموغرافية، بقيت هياكل الاجتماع الكلية التي صدر عنها النص على ما هي عليه بوجه عام. (لم تبدأ هذه الهياكل في التغير بشكل جذري قبل العصور الحديثة مع تبلور الرأسمالية ومنهجية التفكير العلمي. ففي بيئة إنتاج الفقه المبكرة ظلت البنى الاقتصادية رعوية ريعية، والبنى الاجتماعية قبلية عشائرية، والبنى العقلية أسيرة لنمط التفكير اليوناني السابق على التجربة). وفي ظل هذه الوضعية تبقى المصالح الاجتماعية المتطورة إجمالًا داخل مجال النص إما بمنطوقه المباشر أو بالقياس عليه.
ومع ذلك أثبت الواقع المتغير أن القياس لم يكن كافيًا لتقديم تغطية “نصية” لجميع الوقائع، فجرى الاعتراف –لدى جانب من النظرية- بمصطلح “المصلحة المرسلة” مع تقييدها بشروط تخفف من حدة التناقض مع المقدمات الشافعية والأشعرية. وفي هذا السياق يمكن القول: إن التحدي الذي واجهته النظرية الفقهية والكلامية من قبل التطور في عصر التدوين كان “جزئيًا”، ولذلك أمكن لها تجاوزه من داخل مصادراتها التقليدية دون مشاكل منهجية كبيرة، ودون أن تظهر مصطلحات إشكالية من قبيل مصطلح “التجديد الديني”.
لكن التحدي الحقيقي سيأتي مع التطور الجذري في الهياكل الكلية، الذي سيفتح آفاق الاجتماع على مصالح ومفاهيم وأنماط تفكير غير قابلة للانضواء تحت منطوق النصوص أو عللها القياسية، الأمر الذي يضع المسألة بكليتها خارج إمكانات النظرية وآلياتها التقليدية على مستوى الفقه والأصول والكلام.
في القرن الثامن فرض الواقع على النظرية الأصولية أن تخطو خطوة خارج الشافعي. تكلم الشاطبي عن مقاصد الشريعة وأهدافها الكلية، ورفع سقف الضوابط التشريعية من حرفية النص ومحدودية القياس “الجزئي” إلى فحوى المبادئ العامة. وهو سقف يستدعي نوعًا من التحرر العقلي وشيئًا من الإقرار “بالحضور الاجتماعي” لكن الشاطبي ظل محتفظًا بلازمة العقل الكتابي التقليدية التي تؤمن نمطيًا بأزلية المضمون النصي وأبديته، بما في ذلك الأحكام الجزئية ذات الطابع العرضي القابل للتحول بالضرورة. ولذلك فإن توسيع دائرة الاجتهاد على أساس المصلحة كما قدمه الشاطبي ظل نسبيًا. فهو يقدم حلًا لمشكل التشريع عند عدم وجود نص جزئي، لكنه لا يقدم حلًا لمشكل التشريع المخالف لنص جزئي. وهذا هو المشكل الأكثر صعوبة الذي يجسده اليوم سؤال التجديد الديني.
يتبع